“عبء الخدمة يشكل تحدياً منذ 75 عاماً، ويأتي الآن في زمن حرب لم نعرفه منذ 75 عاماً. لذلك، نحن مطالبون بالتوصل إلى اتفاقات وقرارات لم نتخذها منذ 75 عاماً” بهذه الكلمات وصف وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، الأزمة العاصفة التي يشهدها الداخل الإسرائيلي والمعروفة إعلامياً باسم “أزمة تجنيد الحريديم”، ولعل خصوصية هذه الأزمة، ترتبط بالتوقيت الذي تأتي فيه، إذ أنها تأتي في وقت يشهد فيه الداخل الإسرائيلي العديد من الأزمات البنيوية العميقة جراء استمرار الحرب على قطاع غزة، جنباً إلى جنب مع ما تسببه هذه الأزمة من شرخ كبير في داخل المجتمع الإسرائيلي.
إشكالية قديمة متجددة
يُقصد بفئة “الحريديم” مجموعة تيارات في اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ويعرف أتباعها باسم الحريديم. ويطلق على الفرد كنية حريدي، ويتميز بالحرص البالغ على العيش بموجب تعاليم الشريعة اليهودية. وتعني كلمة حريديم الذين يهابون الله، وتم إطلاق تسمية حريديم في البداية على تلامذة الحاخامات اليهود الأوروبيين الذين عكفوا على دراسة التوراة طوال حياتهم وكانوا ينفذون تعاليم التوراة وفروضها بدقة وتزمت، ومع نشأة دولة الاحتلال الإسرائيلي في 1948، تم استقطاب اليهود الأرثوذوكس، من كل أنحاء العالم، وقد استقر غالبيتهم في العقود الأولى في بني براك من “تل أبيب”، ومئة شعاريم من القدس.
وقد شكلت مسألة تجنيد الشبان المتدينين الحريديم للجيش الإسرائيلي إحدى المسائل التي تلعب دوراً بارزاً في الصراع بين هذه المجموعة ومجموعة الأغلبية اليهودية غير المتدينة، وكذلك في الصراع بينها وبين الصهيونية الدينية، وكانت بداية الإشكال الخاص بتجنيد الحريديم مع نشأة الاحتلال الإسرائيلي في 1948، لكن رئيس الحكومة حينها دافيد بن غوريون توصل إلى تسوية مع هذه الفئة عام 1948، تقضي بإعفائهم من التجنيد، ليستمروا في دراستهم في المدارس الدينية (ييشيفوت)، وكان عدد الطلاب المتدينين الحريديم في ذلك الوقت يصل إلى حوالي 400 طالب، وكان لدى “بن غوريون” في ذلك الوقت مجموعة من الأسباب التي دفعته لاتخاذ هذا القرار وعلى رأسها السعي لتثبيت أركان المجتمع الداخلي الإسرائيلي ودرء الانقسامات التي يمكن أن تتسبب، فضلاً عن أن عدد أعضاء طلاب هذه الفئة في ذلك الوقت لم يكن كبيراً، ما يعني هامشية مسألة تجنيدهم في مقابل الحفاظ على استقرار المجتمع الخاص بالكيان الإسرائيلي، بالإضافة إلى وجود قناعة لديه بأن إسرائيل ومع الوقت سوف تكسب شرعية كونها مركز لليهودية الأرثوذكسية بعد تدمير المراكز اليهودية التقليدية في أعقاب الهولوكوست.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن مسألة تجنيد “الحريديم” مرت ببعض المحطات المهمة، والتي يمكن تناولها على النحو التالي:
1– “قانون طال” لعام 2000: بدأت السلطات الإسرائيلية منذ العام 2000 في السعي لمعالجة مسألى تجنيد “الحريديم”، وذلك عندما سن الكنيست قانوناً عُرف باسم “قانون طال”، والذي سُمي بهذا الاسم نسبةً إلى رئيس لجنة خاصة أقيمت بهذا الصدد برئاسة قاضي المحكمة العليا المتقاعد حينذاك، تسيفي طال، وقد خول هذا القانون وزير الدفاع الإسرائيلي بتأجيل الخدمة العسكرية لهذه الفئة لمدة أربعة سنوات، وفي السنة الخامسة، فإن الوزير مخول مخول بتحديد حاجة الجيش إلى عدد معين منهم للجيش أو للخدمة المدنية، أو بالاستمرار في إعفائهم من الخدمة، وتم تجديد العمل بهذا القانون منذ 2007 وحتى العام 2012، وبعد إيقاف العمل بالقانون لمدة عامين تقريباً، إثر ضغوط بعض المنظمات الحقوقية.
2- “قانون المساواة في تقاسم الأعباء”: جاءت حكومة “نتنياهو” عام 2014، وأقرت ما عُرف بـ “قانون المساواة في تقاسم الأعباء”، وكان الهدف الأساسي لهذا القانون هو زيادة عدد طلاب “الحريديم” الذين يتم تجنيدهم في الجيش، فضلاً عن المزيد من الدمج لهذه الفئة في سوق العمل الإسرائيلي، وقد نص القانون على أنه في حال رفض الجمهور الحريدي توفير عدد من المجندين للجيش في العام 2017 يصل إلى 5200 طالب، فإن الحكومة سوف تتعامل مع الجمهور الحريدي بنفس أدوات التعامل مع رافضي الخدمة العسكرية لدى المجموعات الأخرى وتفرض عليهم عقوبات مالية وإدانات جنائية، بينما إذا وفر الجمهور الحريدي هذا العدد الكافي فإن الحكومة سوف تقوم بإعفاء الباقين من الخدمة العسكرية بعد تأجيل خدمتهم إلى سن 26 عاماً، إلا أنه في أعقاب الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت عام 2015، وما تبعها من دخول الأحزاب الدينية إلى الحكومة، وما ساد من تبعية لهذه الحكومة للأحزاب الحريدية، تم إلغاء هذا القانون، وجرى سن قانون جديد يتيح تأجيل تجنيد المتدينين حتى العام 2023.
3– خطة “غانتس وآيزنكوت”: في أواخر شهر فبراير الفائت، وضع الوزيران في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس وغادي آيزنكوت خطة لتوسيع التجنيد في الجيش الإسرائيلي، تقوم على تجنيد العرب واليهود «الحريديم»، كون أن «جميع شرائح المجتمع يجب أن تخدم البلاد»، وربط غانتس وآيزنكوت، وهما رئيسان سابقان لأركان الجيش الإسرائيلي، بين تقديم دعمهما جهود الحكومة لتمديد فترة خدمة قوات الجيش الإسرائيلي وبين قبول خطتهما لتوسيع التجنيد والتي تسعى إلى زيادة عدد الإسرائيليين الذين يتم تجنيدهم تدريجياً على مدار فترة العقد المقبل، وجاءت خطة “غانتس” و”آيزنكوت” أيضاً في الوقت الذي أمرت فيه محكمة العدل العليا الحكومة بتوضيح سبب عدم إلغاء قرار صادقت عليه في يونيو 2023، يأمر الجيش بعدم تجنيد طلاب المدارس الدينية «الحريدية».
وفي هذا السياق نظرت المحكمة العليا الإسرائيلية في 26 فبراير الفائت، التماسات قدمتها كل من “الحركة من أجل جودة الحكم”، “حركة أخوة السلاح”، “منتدى أيالون لحقوق الإنسان”، “الحركة من أجل الديمقراطية المدنية” و”أمهات في الجبهة”، بإلزام الحكومة والجيش الإسرائيلي بالبدء فوراً بتجنيد الشبان الحريديم للخدمة العسكرية، ومن ناحية أخرى بالوقف الفوري للأموال الباهظة التي ترصدها الحكومة لتمويل مدارسهم الدينية، وفي ختام مداولاتها أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية جملة من الأوامر المؤقتة التي تُلزم الحكومة الإسرائيلية بتفسير أسباب عدم إلغاء قرار الحكومة الاستمرار في عدم تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية بالرغم من انتهاء مدة سريان القانون الذي أجاز ذلك؛ وكذلك بتفسير سبب عدم تحرك الحكومة واتخاذها إجراءات عملية لتجنيد هؤلاء الشبان وتفسير سبب عدم وقف تمويل دراسة هؤلاء الطلاب الذين يبلغ عددهم أكثر من 66 ألفاً، رغم انعدام أية مرجعية قانونية تجيز ذلك. وقد أمهلت المحكمة الحكومة حتى يوم 24 مارس الجاري موعداً أقصى لتقديم ردودها على هذه الأوامر.
وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد ألغت في 2018 القانون الذي كان ينظم مسألة إعفاء طلاب المدارس اليهودية الحريدية من الخدمة العسكرية وعدم تجنيدهم في صفوف الجيش، وذلك بسبب “انتهاكه مبدأ المساواة وتعارضه معه”. ومنذ ذلك الوقت، منحت المحكمة الحكومة الإسرائيلية والكنيست الإسرائيلي مُهلاً متجددة لسن قانون جديد ينظم هذه المسألة، انتهت كلها مع نهاية يونيو 2023، وعملياً منذ أول يوليو 2023، ليس ثمة في إسرائيل قانون يجيز هذا الإعفاء أو تأجيل التجنيد. إلا أن الحكومة الإسرائيلية حاولت الالتفاف على هذا الواقع بقرار حكومي اتخذته في أواخر يونيو الماضي يأمر الجيش الإسرائيلي بعدم تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية ويبقى ساري المفعول حتى 31 مارس 2024. لكن، في موازاة هذا القرار، واصلت الحكومة تمويل دراسة 66 ألفاً من هؤلاء الطلاب في تلك المدارس، بما يتعارض مع معايير المدفوعات والمخصصات الحكومية في هذا المجال.
تداعيات الحرب في غزة على ملف التجنيد للحريديم
يمكن القول إنه حتى وإن كانت مسألة تجنيد “الحريديم” تمثل إشكالية قديمة متجددة في الداخل الإسرائيلي، إلا أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والممتدة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، ساهمت بشكل كبير في عودة هذه المسألة إلى الواجهة، وذلك في ضوء الاعتبارات التالية:
1- السعي لإعادة هيكلة الجيش الإسرائيلي: دفعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما تبعها من تداعيات، خصوصاً على مستوى استدعاء الجيش الإسرائيلي ما مجموعه 287 ألف جندي احتياط، وهو ما يمثل أكبر استدعاء لجنود الاحتياط، باتجاه طرح العديد من الخطط، الرامية إلى إعادة هيكلة الجيش الإسرائيلي، وهو ما برز فيما كشفت عنه صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، من أن الجيش الإسرائيلي وضع خطة لزيادة مدة خدمة المجندين وجنود الاحتياط في صفوفه، وكذلك تجنيد بعض الفئات الأخرى وعلى رأسها “الحريديم” من أجل تعويض نقص القوى العاملة، وتشمل التغييرات المقترحة ضمن الخطة، التي كشفتها الصحيفة الإسرائيلية، رفع شروط الخدمة العسكرية الإلزامية للذكور والمجندات في القتال والأدوار الخاصة الأخرى إلى ثلاث سنوات، وعلى نفس المنوال قال مشرعون إسرائيليون إن “العبئ المتزايد على الخدمة العسكرية يجب أن يقع على عاتق المجتمع الحريدي بدلاً من إضافته إلى أولئك الذين يخدمون بالفعل”، كذلك طالبت العديد من الأوساط الدينية بالتحاق “الحريديم” بالجيش على الفور كغيرهم من جنود الاحتياط، وحتى من دون انتظار التصويت على قانون أو أوامر تنفيذية في هذا الشأن.
2– الزيادة العددية الكبيرة في “الحريديم”: تمثل الزيادة العددية الكبيرة لفئة “الحريديم”، أحد الاعتبارات الرئيسية التي تدفع باتجاه اشتعال أزمة تجنيدهم في الجيش الإسرائيلي، إذ يشكل اليهود المتشددون 13 في المائة من سكان إسرائيل، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 19 في المائة بحلول عام 2035، إذ أنهم فئة تؤمن بوجوب الزواج وحرمة وقف النسل بخلاف الغالبية العلمانية الليبرالية، وفي المقابل لا يؤمنون بالديمقراطية أو العمل السياسي، فضلاً عن إيمانهم بعدم انطباق مبدأ التجنيد العسكري عليهم، إذ أنهم يرون أن نمط حياتهم المتدين وتعارضه مع الأعراف العسكرية وتناقضه الأيديولوجي مع الدولة الليبرالية، ويرون أن مهمتهم تقتصر على الانشغال بدراسة تعاليم اليهودية والشرائع التوراتية، وأن التفرغ لدراستها لا يقل أهمية عن الخدمة العسكرية.
3- سخط داخل بعض الأوساط الإسرائيلية: برزت في إسرائيل في ثنايا الحرب الجارية خصوصاً، العديد من الحركات التي دعت إلى تجنيد “الحريديم” في الجيش انطلاقاً من مبدأ “تقاسم الأعباء”، واستجابةً للتهديدات والتحديات الراهنة التي تواجهها الدولة العبرية في إشارة إلى الحرب في غزة، واشتعال الجبهة الشمالية، في ضوء المواجهات المتصاعدة مع حزب الله، ولم تقتصر هذه الحركات على الأحزاب والحركات التي تقدمت بالتماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية بخصوص إلغاء قوانين تمنع تجنيد “الحريديم”، فعلى سبيل المثال ظهرت حركة في ثنايا الحرب الجارية أطلقت على نفسها “أمهات في الجبهة” تطالب بـ “تجنيد الحريديم في الجيش بدون أية حوارات معهم وإلغاء حق من يرفض تأدية الخدمة العسكرية في التصويت وفي الترشح للانتخابات”، واتهمت مؤسسة هذه الحركة المحامية أييلت هشاحر سايدوف، “الحريديم” بممارسة الابتزاز من خلال “دعمها للانقلاب القضائي في مقابل إعفاء شبانها من الخدمة العسكرية وإغداق ميزانيات كبيرة عليهم وعلى مدارسهم الدينية”.
في الختام، يمكن القول إن مسألة تجنيد “الحريديم” أخذت زخماً كبيراً في الداخل الإسرائيلي بفعل الحرب الجارية في قطاع غزة وما أحدثته من تداعيات، لكن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة بنيامين نتنياهو والتي أشار فيها إلى أن الائتلاف الحاكم سوف يحسم هذه المسألة قريبا، تعكس أن الحكومة الإسرائيلية الحالية سوف تكون أميل إلى اتخاذ قرارات تتجاوب مع تداعيات الحرب، وكذا مع سخط بعض الفئات المجتمعية والسياسية تجاه هذه المسألة، على أن تكون هذه القرارات أميل إلى تقليص حجم الامتيازات التي يحصل عليها “الحريديم” بما في ذلك مسألة التجنيد، لكن ذلك ينذر باشتعال الأزمات في داخل إسرائيل خصوصاً مع الشرخ العميق بين اليمين المتشدد ويمين الوسط، جنباً إلى جنب مع العديد من الأزمات الأخرى التي يشهدها الداخل الإسرائيلي على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81040/