- تنطلق مقاربة أديس أبابا للعلاقة مع أسمرة من كون الأخيرة: أولاً، تؤثر في تفاعلاتها الداخلية، وبالتالي يتعين تحجيم الدور والنفوذ الإريتريين؛ ثانياً، أنَّ إريتريا أكثر جاراتها ملائمة لتحقيق طموحاتها البحرية الجيوسياسية، لكن في الوقت نفسه أكثرها تصلباً إزاء تلك الطموحات.
- يرى النظام الإريتري أن أديس أبابا تُمارس عليه نوعاً من الوصاية وتُسهم في عزلته. وتتعاطى أسمرة بحذر ويقظة مع التحوُّل المفاجئ في خطاب جارتها بشأن المنفذ البحري، وتستشعر فيه تهديداً مباشراً وبمثابة إعلان حرب ضدها.
- يُمكن توقُّع ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا: سيناريو الانزلاق إلى الحرب، وسيناريو الاحتواء الناعم، وسيناريو المراوحة والجمود.
- قد يُدلِّل تغيُّر لهجة رئيس الوزراء الإثيوبي على أنَّ حكومته تُعيد تقييم خياراتها، مُستبعِدةً خيار القوة العسكرية لتجنُّب إغراق المنطقة في صراع آخر. وعليه، يُمكن ترجيح سيناريو المراوحة والجمود في المدى المنظور، لكن دونما استبعاد السيناريوهَين الآخرَين، اللذَينِ تبقى احتمالات حدوث أحدهما، ولاسيما الأول، كبيرة.
شهدت العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا ملامح فتور أخذَ في التزايد منذ توقيع أديس أبابا اتفاق السلام مع جبهة التيغراي في نوفمبر 2022، على خلفية تباين موقفيهما إزاء الكيفية التي جرى بها إنهاء الحرب التي خاضاها معاً ضد الجبهة، ودور واشنطن والغرب في ترتيبات السلام، والتي تُتَّهم إريتريا بدور معرقل لها لعدم سحب كامل قواتها من الإقليم، فضلاً عن نفوذها المتزايد في الداخل الإثيوبي، ودعمها المفترض لمتمردي الأمهرا الذين يرفضون توجُّه الحكومة الفيدرالية لحل قواتهم ونزع أسلحتهم كجزء من خطتها لدمج وتوحيد الجيوش الإثيوبية. غير أنَّ الحملة الإثيوبية لتأمين منفذ بحري، والتي أطلقها رئيس الوزراء آبي أحمد في 13 أكتوبر2023، فاقمت التوترات بين البلدين، وقرَّبتهما أكثر من منعطف حاسم مُقلِق ليس فقط لشعبي البلدين، وإنَّما أيضاً للفاعلين وذوي المصلحة الإقليميين والدوليين، لاسيما مع تزايد المؤشرات على استعدادات الطرفين لسيناريو المواجهة العسكرية الذي يلوح في الأفق.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على العوامل الجوهرية التي أدت إلى الانفصال التدريجي بين حليفَي الأمس، وتأرجحهما مؤخراً بالقرب من حافة الحرب، وتستكشف السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات بين الجارتين.
عوامل تفكُّك تحالف آبي أحمد-أفورقي وأسباب التوتر بينهما
يمكن إيجاز أهم عوامل تفكُّك تحالف آبي أحمد-أفورقي وأسباب التوتر المتصاعد بين الجانبين الإثيوبي والإريتري، في الآتي:
1) ديناميات التحالفات المتغيرة: نتائج الحرب والسلام مع تيغراي
تسبَّب اتفاق بريتوريا للسلام في نوفمبر 2022، والذي أنهى نحو عامين من الحرب المدمرة شمال إثيوبيا، بحدوث تغيُّرات دراماتيكية كبيرة في خريطة التحالفات، حيث كانت حكومة آبي أحمد وكُلّ من إريتريا وقومية أمهرة، تجمعهم نفس الأهداف والتهديدات المشتركة الدافعة للدخول في تحالف حرب ضد عدو مشترك تمثَّل في “جبهة تحرير تيغراي”، والتي طالما بقيت عقبة أمام طموحاتهم النخبوية، ولاسيما وقوف الجبهة حجر عثرة أمام تقارب أديس أبابا مع أسمرة ومشروع آبي أحمد الرامي إلى تغيير الحكم القائم على الفيدرالية العرقية لصالح تعزيز المركزية، والذي كان ينسجم في البداية مع توجهات النظام الإريتري، ويخدم القوميين الأمهرا، إذ يُعزِّز فرصهم في إحياء حلمهم بالعودة لحكم البلاد، قبل أن تتكشَّف لاحقاً خلافات حول درجة ونوعية التغيير، حيث أراد أفورقي والأمهرا تغييراً جذرياً للنظام الفيدرالي باعتباره أساس مشكلات إثيوبيا، واعتبرا ما يقوم به أحمد نوعاً من التكييف للنظام عبر إفراغه من البعد الفيدرالي،[i] بما يخدم فقط تحقيق أهدافه المزدوجة طويلة الأجل المتمثلة في هيمنة حزبه الحاكم وقومية الأورومو التي ينحدر منها.
وبالتالي فقد كان هذا التحالف أشبه بـ”زواج المصلحة”، وبقدر نجاحه في إزاحة الجبهة وإضعافها، فقد أثار تناقضات المشهد الإثيوبي وراكم المظالم والعداء التاريخيَّين، وأورث توجُّساً وانعدام ثقة بين حلفاء الأمس (وتحديداً بين أديس أبابا من جهة، والنظام الإريتري ومليشيا فانو “الأمهرية” من جهة ثانية). وبمجرد انتهاء حالة العداء بين الحكومة الإثيوبية وجبهة التيغراي، بدأ تفكُّك تحالف “آبي أحمد-أمهرة-أفورقي”، إذ رأى الأخيران في اتفاق السلام الذي ليسا جزءاً منه، بمثابة “طعنة في الظهر”، ويُمثِّل توجُّهاً لا يُراعي مخاوفهم، وتحوُّلاً في تحالفات آبي أحمد السياسية لجهة التقارُب مع جبهة التيغراي التي لا تزال تشكِّل تهديداً كبيراً لهما.
وبالنسبة لأسمرة على وجه الخصوص، ولأنَّ تفضيلاتها كانت إخضاع “ميكيلي” بالقوَّة والقضاء على جبهة التيغراي وتدمير قدراتها بشكل نهائي، فلم تكن غير راضية عن الاتفاق فحسب، وإنَّما أيضاً عملت على تقويضه، وإظهار أديس أبابا كطرف غير موثوق ومنقاد لواشنطن؛ فخلال مقابلة تلفزيونية للرئيس الإريتري أسياس أفورقي في فبراير 2023، كان واضحاً بشكل صادم في انتقاده للاتفاق، مُعتبراً إيَّاه هُندِس مُسبقاً من قِبَل واشنطن، بطريقة تمنح الجبهة مخرجاً من المأزق العسكري وفرصة أخرى للعودة للمشاركة في حكم أديس أبابا، زاعماً أنَّ من أسماهم “زمرة واشنطن” أحضروا “وثيقة جاهزة للتوقيع عليها”، وأنَّ دور المفاوضين من الطرفين لم يتعدَّ حدود تنفيذ الأوامر الأمريكية.[ii]
وفي المحصلة، أدى تبايُن مواقف وحسابات النظامين الإثيوبي والإريتري، بشأن الطريقة التي سُوِّي بها الصراع، إلى نشوب خلافات بينهما، بما في ذلك حول توفير ضمانات أمنية كافية لإريتريا لإقناعها بسحب كامل قواتها من إقليم تيغراي، وربما لتعويضها عن الكُلفة التي تكبَّدتها خلال الحرب، فضلاً عن بروز خلافات مُحتملة حول ملفات أخرى شائكة، مثل إمكانية المضي في تنفيذ اتفاقيتي السلام بين البلدين، والنفوذ الإريتري المتزايد في الداخل الإثيوبي.
2) تحالف أسمرة-أمهرة وقضايا الحدود: صداع متزايد لأديس أبابا
استغلت إريتريا الحرب شمال جارتها، لتحقيق هدفين استراتيجيين: أولهما، تعميق نفوذها في الداخل الإثيوبي، عبر إضعاف خصومها التاريخيِّين (التيغراي)، وتوثيق تحالفاتها مع منافسيهم من القوميات الأخرى وخصوصاً الأمهرا؛ والثاني، استعادة -وفرض أمر واقع في- مناطق أقرّت لجنة تدعمها الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين البلدين عام 2002 بتبعيتها لإريتريا (أهمها “بادمي” و”إيروب”)، وأعلن آبي أحمد منتصف 2018 عزم بلاده الانسحاب منها، لكن ذلك لم يحدث حتى أواخر 2020.
كما ساعد الجيش الإريتري حلفاءه الأمهرا على بسط نفوذهم على مناطق “ولقايت” و”رايا”، ومحيطها، المتنازع عليها بين إقليمي أمهرا وتيغراي غرب وجنوب إقليم تيغراي، على نحوٍ تسبَّب في تضييق الخناق على جبهة التيغراي وسد منافذها الغربية مع السودان.
ومع أنَّ أديس أبابا تغاضت عن سلوك حليفيها إبَّان الحرب، لحاجتها لمجهودهما الحربي، إلَّا أنَّ تحالف أسمرة-أمهرة، لاسيما بعد تفاقم التوترات في إقليم أمهرة منذ ابريل الماضي، بات يُثير قلق حكومة آبي أحمد ويُحبط توجهاتها لتعزيز المركزية وفرض السيادة في ربوع البلاد، وبخاصة مساعيها لتفكيك القوات والميليشيات الإقليمية للحد ممَّا تثيره من مشكلات مع المركز وفيما بينها، وحلحلة النزاعات الحدودية بين الأقاليم العرقية.
فعلى سبيل المثال، يُشكِّل النزاع الحدودي بين أمهرة وتيغراي دوامة استقطاب أخرى، إذ يضع على عاتق أديس أبابا مسؤولية كبرى لجهة الإيفاء بالتزاماتها بشأن تنفيذ أهم بنود اتفاقية بريتوريا للسلام التي تنص على إعادة الوضع في تلك المناطق لما كان عليه قبل اندلاع الحرب، وهو توجُّه حكومي يُؤجّج التمرد المسلَّح للقوميين الأمهرا الذين يرفضون الانسحاب من تلك المناطق، لتهيئة الشروط السياسية والموضوعية لتسوية النزاع سلمياً، بما في ذلك من خلال إعادة مئات الآلاف من المواطنين المشردين منها قسراً، تمهيداً لتنظيم استفتاء شعبي لتقرير مصير تلك المناطق.[iii]
3) الحملة الإثيوبية لتأمين منفذ بحري: الاقتراب من حافة الحرب
الخطاب الإثيوبي بشأن الطموح البحري، الذي بدأ بخروج تسريبات عن اجتماع لرئيس الوزراء الإثيوبي مع رجال أعمال في أديس أبابا في 20 يوليو الماضي، لوَّح خلاله باستخدام كافة الخيارات بما فيها القوة لتأمين ميناء للبلاد،[iv] زاد من تدهوُر العلاقة المتوترة بالأصل بين البلدين، ومثَّل أبرز المؤشرات على تحوُّل الصداقة إلى عداء.
فبعد الخطاب الطويل لآبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي في 13 أكتوبر، والذي فتح شهية الإثيوبيين لنقاش أجندة البحر الأحمر “دون مواربة”، معتبراً أنها باتت مسألة “حياة أو موت”،[v] ورغم سعيه لاحقاً لطمأنة جاراته وتهدئة المخاوف الإقليمية، مؤكداً في أكثر من مناسبة أن بلاده “لن تعمل على تحقيق تطلعاتها بالقوة والغزو”، وإنما “من خلال نهج مربح للجانبين”؛[vi] إلَّا أن جملة من المعطيات والشواهد تؤكد بأن الأمور بين إثيوبيا وإريتريا دخلت منعطفاً مقلقاً مع اقترابهما من حافة الحرب.
ووسط تصاعد التوتر بين الجارتين مؤخراً، تُفِيد التقارير بوجود حالة استنفار وتأهب لجيشيهما اللذين عزَّزا وجودهما على الشريط الحدودي، لاسيما في المناطق المتاخمة لشمالي جيبوتي. بينما تعمل أديس أبابا على تشديد الضغوط الغربية على النظام الإريتري، بذريعة أنه يُعرقل تنفيذ اتفاق السلام، ويُواصل احتلال أجزاء من تيغراي وتسليح ميليشيا فانو الأمهرية.[vii]
4) التجاذبات الإقليمية والدولية: تعقيدات الموائمة الجيوسياسية
تدفع المناخات الإقليمية والدولية باتجاه التباعد بين إثيوبيا وإريتريا، حيث تعمل واشنطن والغرب على معاقبة النظام الإريتري وعزله عن محيطه الإقليمي والدولي، على خلفية مشاركته في الحرب ضد تيغراي، ومواقفه الداعمة للمحور الروسي- الصيني، من بين أمور أخرى.
وكان الرئيس الإريتري قام منذ مطلع العام الحالي 2023، بحراك خارجي لافت (شمل كلاً من كينيا والسعودية ومصر والصين وروسيا وجنوب أفريقيا)، في مسعى للتكيُّف مع التغيُّرات الديناميكية في المنطقة والعالم، لاسيما في جارته الإثيوبية، مع استشعاره لبدء تفكُّك تحالفه مع آبي أحمد، بعد توقيع هذا الأخير اتفاقية السلام مع تيغراي وتقاربه مع الولايات المتحدة.
وتُشِير ذاكرة التاريخ السياسي إلى أن تقارب أسمرة مع بعض القوى الإقليمية دائماً ما عَنَى تباعُدها عن أخرى منافسة. ومن هذا المنظور، على سبيل المثال، انطوت مساعي أفورقي للتقارب مع كينيا التي زارها في 8 فبراير الماضي، مُعلناً عودته إلى حضن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “إيغاد”، على دعمه الضمني لمساعي نيروبي لقيادة الكتلة الإقليمية والبروز إقليمياً على حساب إثيوبيا. كما عكَس تقاربه مع القاهرة والخرطوم (بُعَيد اندلاع الصراع السوداني)، قدراً من تضارب المصالح على المستوى الإقليمي، وعدم رضى أسمرة عن نهج “إيغاد”، والذي تُمليه موازين القوى داخلها، بما في ذلك فيما يخص التعاطي مع الأزمة السودانية مؤخراً، ناهيك عن هواجس أفورقي إزاء كل ما قد يُسهم في استعادة إثيوبيا لهيمنتها التاريخية، ونزعتها لفرض شروطها على إريتريا نفسها، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا العالقة بين الدولتين، كالحدود وطموح إثيوبيا للحصول على منفذ بحري من البوابة الإريترية.
مُقاربات تُفاقِم التوترات
تنطلق مقاربة أديس أبابا للعلاقة المتذبذبة مع جارتها أسمرة من كون الأخيرة: أولاً، تؤثر في تفاعلاتها الداخلية، وبالتالي تعمل الأولى على تحجيم الدور والنفوذ الإريتريين في مسعى لتحييد أسمرة عن دعم مناهضيها وتأجيج بؤر التوتر العديدة، وتقويض عملية السلام الهشة في إثيوبيا؛ ثانياً، أنَّ إريتريا أكثر جاراتها ملائمة لتحقيق طموحاتها البحرية الجيوسياسية، لكن في الوقت نفسه أكثرها استقلالية وتصلّباً إزاء تلك الطموحات.
ألمح رئيس الوزراء الإثيوبي إلى أن “المزاج الشعبي الذي أفضى إلى استقلال إريتريا عن إثيوبيا عام 1993 لم يعد قائماً الآن”، وهو ما عدَّه مراقبون انتقاصاً من السيادة الإريترية.[viii] ووفق اعتقاد نسبة كبيرة من النخب الإثيوبية على رأسهم آبي أحمد والقوميين الأمهرة، فإن ذلك القرار غير قانوني من الناحية الفنية، إذ لم يوافق عليه جميع الإثيوبيين كونه سبق وضع الدستور الفيدرالي في ذلك الحين (عام 1995). وبالتالي، يحاول آبي أحمد القول إن منح إريتريا الاستقلال دون الحصول على ميناء منها كان خطأً تاريخياً ارتكبه التحالف الحاكم السابق لإثيوبيا والذي هيمنت عليه جبهة التيغراي(1991-2018)، وبالتالي ينطوي على ثغرات قانونية تتيح التفاوض حول هذه النقطة بالذات (الوصول البحري)، أو حتى العودة للوضع السابق لاندلاع الحرب (أي لما بين عامي 1993 و1998)، والذي فيه ظلت إثيوبيا تستخدم ميناء عصب بدون دفع أي رسوم، كنوع من رد الجميل لاعترافها باستقلال جارتها.
وبينما تحشد حكومة آبي أحمد لطموحاتها البحرية المبررات التاريخية والديموغرافية والاقتصادية، وفي اعتقادها بأحقيتها في السواحل والجزر والمياه الإقليمية الإريترية، فإن تفضيلاتها حالياً تتمحور في إبرام صفقة مربحة تُمنَح بموجبها أسمرة نسبة من أسهم سد النهضة أو شركتي الاتصالات والطيران الإثيوبيين، مقابل قبولها بمنح إثيوبيا وصولاً دائماً وموثوقاً إلى البحر الأحمر.
أما النظام الإريتري فرؤيته تجاه النخب الحاكمة في أديس أبابا وتفاعلات المشهد الإثيوبي تنطوي على حسابات معقدة وعُقد مزمنة، فهو يرى جارته تُمارس عليه نوعاً من الوصاية وتُسهم في عزلته، ولا يقبل أفورقي بتهميشه إقليمياً، لذلك ساءه مثلاً أن يتم إقصائه عن ترتيبات السلام شمال إثيوبيا، بالرغم مع حقيقة أنَّ مشاركته كانت حاسمة لنصرة الحكومة الفيدرالية ضد متمردي التيغراي.
وبعكس جيبوتي والصومال، تتعاطى أسمرة بحذر ويقظة مع هذا التحوُّل المفاجئ في خطاب جارتها بشأن المنفذ البحري، إذ استشعر النظام الإريتري فيه تهديد مباشر وبمثابة إعلان حرب، وعززت مخاوفه وتقديراته بأنَّ الخطاب موجه له بالدرجة الأولى، العديدُ من التحرُّكات الإثيوبية المريبة، منها على سبيل المثال، استعراض القوة الذي قام به الجيش الإثيوبي في الذكرى الـ 116 لتأسيسه في 26 أكتوبر، وقيام الحكومة الإثيوبية بتعزيز التعاون الأمني والدفاعي مع نظيرتيها الجيبوتية والصومالية (حيث وقعَّت مع الأولى اتفاقية للدفاع المشترك في 20 نوفمبر، وجدَّدت مع الثانية في 6 ديسمبر اتفاقية مماثلة سابقة مُبرمة في فبراير 2014). ولذلك فقد اتخذت إريتريا بدورها خطوات وتدابير عملية للاستعداد لأي غزو إثيوبي لأراضيها لاسيما المتاخمة لجيبوتي، بما في ذلك من خلال تكثيف الاجتماعات العسكرية ومع زعماء القبائل (لاسيما العفر)، والتحشيد الداخلي وعلى جانبي الحدود، فضلاً عن الحراك الدبلوماسي الخارجي الذي قاده أفورقي ووزير خارجيته عثمان صالح، وبخاصة إلى القاهرة والرياض، اللتَين تنظران بقلق متزايد لتصاعد الطموح الإثيوبي في الوصول إلى البحر الأحمر.
وفي أعقاب المصالحة التاريخية بين البلدين منتصف 2018، كانت تفضيلات أفورقي هي وجود نظام مركزي قوي في أديس أبابا، على رأسه نخبة حليفة له، على نحوٍ يُمكِن معه تأسيس اتحاد كونفدرالي بين إثيوبيا وإريتريا، لتحقيق حلم التفوق والنفوذ الإقليمي، و/أو على الأقل تصفير المشكلات بين البلدين وتعزيز التحالف والتعاون من خلال تنفيذ الاتفاقات السابقة والتوصُّل إلى اتفاقيات سياسية وأمنية واقتصادية جديدة. لكن هذا الطموح اضمحل مؤخراً، وباتت شواغل أسمرة أن تأمَن جانب جارتها دون أن تكون مضطرة للمخاطرة بخسارة نفوذها في الأخيرة أو لخوض حرب معها، وتتوخى أسمرة ألَّا يندفع حكام أديس أبابا لتهديد سيادتها وسلامتها الإقليمية، بما في ذلك من خلال توظيف القوميين المتحفزين (بمن فيهم الأمهرة والأورومو، وبشكل خاص التيغراي والعفر لتداخلهما الجغرافي والإثني والاجتماعي والثقافي واللغوي مع بني عمومتهم في إريتريا التي تُشكِّل العرقيتان غالبية سكانها) لتفكيك الواقع الإريتري، من أجل تحقيق طموحاتهم البحرية والجيوسياسية.
السيناريوهات المحتملة
في ضوء ما سبق، يُمكن توقُّع ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا، وذلك على النحو الآتي:
1) الانزلاق إلى الحرب، وتُعزِّز احتمالات حدوثه واحدة أو أكثر من الحالات الآتية:
- إحراز الحكومة الإثيوبية نجاحات مهمة على الصعيد الداخلي الأمني والسياسي والاقتصادي، من قبيل المصالحة الوطنية واحتواء التوترات والتمردات في إقليمي أمهرة وأورومو، وتحسين الوضع المعيشي، وتوحيد وتحريض الشعوب الإثيوبية ضد إريتريا.
- تشكُّل تحالفات جديدة أو إضفاء الشرعية والبعد القومي على التحالفات الراهنة غير المعلنة، ومن ذلك مثلاً بين قوميتي الأورومو والتيغراي، أو التعاون بين حكومة آبي أحمد وجبهة التيغراي ضد تحالف أسمرة-أمهرة الذي سيتعزز ويصبح رسمياً وملموساً، لاسيما في حال كان الهدف إخراج القوات الإريترية والمليشيات الأمهرية من أراضي إقليم تيغراي بالقوة.
- سوء تقدير من أحد الجانبين أو كليها، يدفع باتجاه تصعيد الوضع الحدودي كالقيام ببعض الاستفزازات و/أو شن هجمات محدودة تقود إلى حرب مفتوحة.
- تصاعُد التوترات والخطاب المعادي والتحشيد، وتفاقم انعدام الثقة واستمرار تصلُّب مواقف الطرفين وتباين رؤاهما بشأن الخلافات العالقة.
- إسهام بعض القوى الدولية والإقليمية في تأجيج الوضع عبر دعم وتشجيع الجانبين على فرض شروطهما على بعضهما البعض.
2) الاحتواء الناعم، ويفترِض تحقُّق أحد الشروط الآتية أو بعضها:
- تبلوُر استجابة إيجابية وعملية من قبل بعض أصدقاء الدولتين والمعنيين بالأمن والاستقرار في المنطقة، للقيام بوساطة ناجحة لتليين المواقف وخفض التوترات، والدفع باتجاه عودة التقارب والوئام بين الجانبين.
- ممارسة الجانبين قدراً كبيراً من ضبط النفس، والسعي لاغتنام أي فرص للتهدئة والتقارب، بما في ذلك مثلاً لقاء قيادتي البلدين على هامش بعض المؤتمرات والقمم المقبلة، بدلاً من تجنُّب بعضهما البعض كما كان منهما خلال الأشهر القليلة الماضية.
- حدوث تطورات أو تحولات في البلدين ومنطقة القرن الأفريقي تنجم عنها فرص جديدة للمشاركة والتكامل الإقليمي، أو تهديدات ومخاطر مشتركة تُحتِّم على الجانبين التنسيق المشترك والتعاون لمواجهتها وتجاوزها.
- تغيُّر النخب الحاكمة في الدولتين ولاسيما في أسمرة، وتشكُّل وعي وقناعة لدى هذه النخب والشعبين الإثيوبي والإريتري بضرورة تجاوز التراكمات التاريخية وبدء حقبة جديدة يسودها حسن الجوار وموائمة الأهداف والمصالح المشتركة وفق مقاربات جماعية مربحة للجميع.
3) المراوحة والجمود، وفيه يُتَوقَّع الآتي:
- استمرار الوضع كما هو عليه، نتيجة تحوُّط الطرفان ومحاذيرهما العديدة بشأن المواجهة التي لا تُحتَمل كُلفتها، وفي نفس الوقت استمرار انعدام الثقة على نحوٍ يعيق إمكانية التقارب.
- قد تفكر أديس أبابا في العمل على خلخلة النسيج الاجتماعي الإريتري عبر استمالة ودعم قبائل العفر لاسيما المعارِضة للنظام الإريتري، وتأجيج نزعتهم للتمرد وفك الارتباط عن أسمرة، بما يخلق للنظام الإريتري مشاكل تدفعه للتركيز على شؤونه الداخلية أو حتى الاستعانة بأديس أبابا مقابل تقديمه تنازلات بشأن القضايا العالقة كالحدود والموانئ.
- انسحاب جُزئي للقوات الإريترية من إقليم تيغراي مع بقائها في “بادمي” و”إيروب” وبعض المناطق الحدودية شمالي الإقليم. بينما ستعمل أسمرة بما لديها من خبرة وأدوات نفوذ، على زيادة تأثيرها في المشهد الإثيوبي، وخلق المزيد من التَّحديات لأديس أبابا على المستوى الأمني والجيوسياسي، بما في ذلك ضمان عدم تسبب خطاب الأخيرة بشأن البحر الأحمر في احتواء الأمهرا وإضعاف أو تفكيك التحالف الإريتري-الأمهري.
استنتاجات
لعل حكومة آبي أحمد تتقصَّد توظيف مساعيها بشأن تأمين منفذ بحري، لكسب تأييد الرأي العام الإثيوبي وتعزيز الالتفاف والتَّماسك الداخلي، وإضعاف تحالف أمهرة-أسمرة، وتوجيه مزيد الضغوط لأسمرة لثنيها عن التدخل في شؤونها الداخلية، بخاصة دعمها المفترض لميليشيات “فانو” الأمهرية المتمردة، والمساهمة الإيجابية في إنجاح اتفاق السلام من خلال سحب كامل القوات الإريترية من أراضي إقليم تيغراي.
وقد يُدلِّل تغيُّر لهجة رئيس الوزراء الإثيوبي على أنَّ حكومته تُعيد تقييم خياراتها، مستبعدة خيار القوة العسكرية لتجنُّب إغراق المنطقة في صراع آخر. وعليه، يُمكن ترجيح السيناريو الثالث للحدوث في المدى المنظور، دونما استبعاد السيناريوهَين الآخرَين، الذين تبقى احتمالات حدوث أحدهما، ولاسيما الأول، كبيرة.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/thalf-y-oarth-aladaa-altotrat-bin-ithiobia-wiritraia-walsainariohat-alamuhtmlah