تحت سَقْف التعايش الهشّ: مسارات تشكيل الحكومة الفرنسية وانعكاساتها على سياسة باريس الخارجية

  • كشفت نتائج الاستحقاق التشريعي عن محدودية النظام الدستوري للجمهورية الخامسة، القائم على وجود مركز ثقل رئاسي وكتلتين أساسيتين، يسار الوسط ويمين الوسط، تتداولان على الحكم، حيث غدت الجمعية الوطنية مركز الثقل داخل النظام السياسي، وهي مَنْ يُحدد هوية الحكومة وشكلها.
  • وفقاً للنتائج المعلنة، والتي تتوزع فيها الجمعية الوطنية، على ثلاث قوى رئيسة هي: اليمين المتطرف، وتحالف اليسار، والمعسكر الرئاسي، دون أن يكون لأي أحد من هذه القوى أغلبية مطلقة، فإن مسار تشكيل الحكومة الفرنسية المقبلة سيكون مُعقَّداً على نحو غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة.
  • ستكون الحكومة الفرنسية المقبلة، على عكس حكومات التعايش السياسي السابقة، هشَّة وعُرضة لتقلُّبات الوضع السياسي الفرنسي والأوروبي، وخاصة تقلبات المشهد البرلماني القائم على ائتلافات حزبية قابلة للتفكيك وإعادة التشكل على قواعد مختلفة للعملية الانتخابية. 
  • في المديين القريب والمتوسط، لن تكون هناك تغييرات جذرية على مستوى السياسة الخارجية الفرنسية، بسبب هشاشة الوضع السياسي، وهشاشة مراكز القوى المتساوية بين الرئيس والحكومة، وبفعل احتفاظ الرئيس بصلاحيات دستورية قوية في مجال الدفاع والعلاقات الخارجية.
  • من المتوقع أن تشهد السياسة الخارجية الفرنسية تعديلات نسبية في المستقبل، خاصةً على مستوى الموقف السلبي الذي بصدد التطور من حكومة بنيامين نتنياهو، والاتجاه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

 

كشفت الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية عن عددٍ من المفاجآت، التي كانت خارج توقعات جميع المراقبين ووسائل الإعلام ومؤسسات استطلاعات الرأي. فقد حقق تحالف الأحزاب اليسارية المركز الأول، فيما تراجع اليمين المتطرف إلى المركز الثالث، في مقابل حلول معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون في المركز الثاني، مع تراجعٍ واضحٍ لقاعدته الشعبية والانتخابية. دون أن يحقق أي طرفٍ من القوى الثلاث، أغلبية مطلقة تُمكِّنه من الحكم منفرداً.

 

في ظل هذه الضبابية التي مازالت تكلل المشهد السياسي الفرنسي، تسعى هذه الورقة إلى رصد السيناريوهات الممكنة لشكل الحكومة الفرنسية المقبلة وطبيعتها، وانعكاس ذلك على السياسة الخارجية لفرنسا، لاسيما إزاء منطقة الشرق الأوسط.

 

دلالات نتائج الانتخابات الفرنسية 

عبر النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع للجولة الثانية يمكن رصد ستة مؤشرات أساسية، بوصفها محددات للواقع السياسي الفرنسي الجديد، سيكون لها تأثيرات في المديين القريب والمتوسط على تشكيل الحكومة، وعلى الأزمة السياسية المزمنة التي دخلتها البلاد منذ أن قرر الرئيس ماكرون حلّ الجمعية الوطنية في أعقاب انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة:

 

  • نسبة المشاركة المرتفعة، وغير المسبوقة من طرف الناخبين الفرنسيين، في استحقاق تشريعي ليس بالأهمية التي ينطوي عليها الاستحقاق الرئاسي، حيث تجاوزت النسبة الــ60%، أعلى نسبة مشاركة منذ الحل الأخير للبرلمان عام 1997. وتكشف هذه العودة إلى صناديق الاقتراع، بعد سنواتٍ من الامتناع، عن طبيعة الرهان الذي يعيشه البلد، الذي يتأرجح بين أقصى اليسار وأقصى اليمين في ظل ضمور تيار الوسط.
  • العودة القوية لليسار الفرنسي من طريق توحيد أحزابه الأربعة – فرنسا الأبية، والحزب الاشتراكي، وحزب الخضر، والحزب الشيوعي – على نحو سريع، وعلى أرضية برنامج مشترك، في إطار ائتلاف انتخابي هو “الجبهة الشعبية الجديدة”، وتحقيقه 182 مقعداً في الجمعية الوطنية الجديدة، وهو تطور لافت قياساً بانتخابات عام 2022، بحوالي 40 مقعداً. لكنه يبقى نصف انتصار بسبب عجز التحالف اليساري عن إدراك الــ 289 مقعداً، وهي الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل حكومة منفرداً.
  • تعرُّض اليمين المتطرف لهزيمة غير متوقعة، على رغم أن أغلب التوقعات كانت تشير إلى أنه سيكون في المركز الأول، وربما يحقق الأغلبية المطلقة، إلا أنه لم يتمكن سوى من حجز 143 مقعداً في الجمعية الوطنية. ومع هذا، تبقى هذه نصف هزيمة، لأنه حقق زيادة كبيرة في عدد مقاعده البرلمانية قياساً للانتخابات الأخيرة عام 2022، بحوالي 53 مقعداً. فضلاً عن أنه حقق عدداً أكبر من الأصوات من الناحية الكمية قياساً بما حصل عليه اليسار ومعسكر الرئيس ماكرون، وبالتالي حافظ على نسق تصاعدي في توسيع قاعدته الانتخابية والشعبية، شرع فيه منذ عام 2012. وفي المقابل، لم يحقق الرئيس ماكرون هدفه الأساسي من حلّ البرلمان، والذي كان محاولةً لإعادة البحث عن شرعية انتخابية مستقرة، بل ساهم قرار الحلّ والتوجه نحو الانتخابات في مزيد من تعقيد المشهد، وأديا إلى فقدان الرئيس ومعسكره المزيد من شرعيتهما الانتخابية.
  • تعرَّض معسكر الأغلبية الرئاسية، بقيادة إيمانويل ماكرون، لهزيمة واضحة، إذ جاء في المركز الثاني بــ 168 مقعداً، متراجعاً بــ 68 مقعداً عن الانتخابات الأخيرة عام 2022، كما خسر حوالي 200 مقعد قياساً بالانتخابات التشريعية لعام 2017. فضلاً عن أنه خسر زمام المبادرة في تشكيل الحكومة، وأصبح مُجبراً عن البحث عن تحالفات أوسع في سبيل محاولات تشكيل حكومة قادمة.
  • كشفت نتائج الاستحقاق التشريعي عن محدودية النظام الدستوري للجمهورية الخامسة، الذي وضعه الجنرال شارل ديغول قبل أكثر من ستة عقود، والذي كان قائماً على وجود مركز ثقل رئاسي وكتلتين أساسيتين، يسار/يمين، تتداولان على الحكم. لكن الوضع الحالي، فقد فيه الرئيس مركزيته داخل النظام السياسي، لصالح الجمعية الوطنية، التي أصبحت وحدها مَن يحدد هوية الحكومة وشكلها، وبالتالي أصبح النظام أقرب إلى نموذج الديمقراطيات البرلمانية في إيطاليا وإسبانيا، الأمر الذي يفرض على المكونات السياسية الكثير من ثقافة التسوية السياسية والمساومة بين الأحزاب، وهي ثقافة تبدو حتى الآن غريبةً أو غائبةً عن التشكيلات السياسية الفرنسية، يميناً ويساراً.
  • كشفت نتائج الانتخابات التي جاءت خارج كل التوقعات، عن حدود مؤسسات سبر الآراء والاستطلاعات، وفشل المؤسسات الإعلامية في تقديم رؤية أكثر وضوحاً، وذلك بسبب توجه جميع هذه المؤسسات نحو صناعة الرأي العام وتوجيهه وليس البحث عن الصورة الحقيقية للمشهد، لذلك أبرزت النتائج انفصال النخبة الإعلامية وجزء من النخبة السياسية عن الواقع، وعن الشارع الفرنسي، وهذا الانفصال هو المجال الذي يستثمر فيه كلٌّ من أقصى اليسار وأقصى اليمين للتعبئة.

 

بتحقيقه “نصف انتصار” في الانتخابات، فإن اليسار الفرنسي فشل في الفوز بالأغلبية المطلقة التي تُمكِّنه من تشكيل حكومة منفرداً (AFP)

 

مسارات الحكومة المقبلة 

وفقاً للنتائج المعلنة، والتي تتوزع فيها الجمعية الوطنية، على ثلاث قوى رئيسة هي: اليمين المتطرف، وتحالف اليسار، والمعسكر الرئاسي، دون أن يكون لأي أحد من هذه القوى أغلبية مطلقة، فإن مسار تشكيل الحكومة الفرنسية المقبلة وشكلها وبرنامجها سيكون معقداً على نحو غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة. وفي هذا الإطار، يمكننا الخروج بأربعة مسارات أساسية متوقعة للحكومة المقبلة:

 

1. مسار الحكومة اليسارية: وفقاً للعُرف السياسيين فإن الرئيس الفرنسي من المفترض أن يدعو شخصية من الحزب والائتلاف الحاصل على أكبر عددٍ من المقاعد في الجمعية الوطنية ليقود مشاورات تشكيل حكومة جديدة. وفي هذه الحالة ستكون هذه الشخصية من الجبهة الشعبية الجديدة، التي تضم تحالف اليسار، لأنها الائتلاف الحاصل على أعلى عددٍ من المقاعد، وهو الأمر الذي يطالب به قادة هذه الجبهة منذ ظهور النتائج. ومع ذلك، سيكون تشكيل حكومة يسارية لا يدعهما سوى 200 نائب على أقصى تقدير، صعباً، أولاً في تجاوز جلسة منح الثقة، بسبب معارضة اليمين المتطرف والمعسكر الرئاسي، وثانياً ستكون استدامتها شبه مستحيلة، لأنها ستكون مشلولةً في برلمان لا تملك فيه أغلبيةً مطلقة لتمرير مشاريع القوانين. فضلاً عن ذلك لا يبدو أن الرئيس ماكرون مستعد لدعوة الجبهة الشعبية الجديدة للحكم. وقد عبَّر عن ذلك بوضوح في رسالة قال فيها إن “أي قوة سياسية لم تتمكن من تحقيق الأغلبية الكافية، وأن الكُتَل أو الائتلافات التي خرجت من هذه الانتخابات تمثل كلها أقلية”، وأنَّه لن يُعين رئيس وزراء إلا بدعم من ائتلاف “قوي، متعدد بالضرورة”. ومع ذلك يبقى هذا المسار، من الناحية النظرية، قائماً.

 

2. مسار حكومة الوسط: من طريق تشكيل حكومة تضم المعسكر الرئاسي وعدد من مكونات الجبهة الشعبية الجديدة مثل الحزب الاشتراكي والخضر إلى جانب الديغوليين من يمين الوسط، وبالتالي يتم استبعاد أقصى اليسار، وتحديداً حزب فرنسا الأبية بقيادة جان لوك ميلنشون، وهي الخطة التي يسعى الرئيس ماكرون إلى تحقيقها من طريق إعلانه الواضح أنه لن يكلف يسارياً بقيادة الحكومة إلا في حال بناء ما سماه بــ “الجبهة الجمهورية” التي تستبعد أقصى اليمين وأقصى اليسار. وماكرون بذلك يراهن على انقسام تحالف اليسار، الذي يعاني من تناقضات سياسية وحزبية. ويعد هذا المسار أكثر احتماليةً من مسار الحكومة اليسارية، لأنه سيفرز حكومة مستقرة وتحظى بالأغلبية المطلقة، ولكنه يبقى رهين التنازلات التي يمكن أن يقدمها ماكرون للحلفاء الجدد من يسار الوسط ويمين الوسط، كما أنّه رهين بتفكك التحالف اليساري.

 

اقرأ المزيد من تحليلات «أحمد نظيف»:

 

3. مسار الحكومة التقنية أو تصريف الأعمال: وهو حلّ يمكن أن يخرج به الرئيس الفرنسي من توازن القوى الحاصل بين الكتل الثلاثة، من طريق تشكيل حكومة تكنوقراط تدير البلاد مؤقتاً حتى يونيو 2025، وهو التاريخ الذي يمكن فيه دستورياً للرئيس حلّ البرلمان مرة أخرى والتوجه نحو انتخابات تشريعية جديدة. هذا السيناريو قد يكون حلاً وسطاً لإدارة الأزمة وتأمين استمرارية الدولة. كما بإمكان الرئيس ماكرون أن يستغل غموض المواد الدستورية حول مهلة تشكيل الحكومة ويحافظ على حكومة غابريال أتال، إلى حدود الخريف المقبل، حيث تنص المادة 8 من الدستور على أن “رئيس الجمهورية يعين الوزير الأول”، لكنها لا تعطي أي إشارة، حول الجدول الزمني لذلك أو حول كيفية قيام الرئيس باختياره. ومن الناحية العملية، يمكن لإيمانويل ماكرون إما رفض استقالة الحكومة الحالية، أو قبولها مع تأخير تعيين رئيس وزراء جديد، مع الإبقاء بحكم الأمر الواقع على الحكومة المنتهية ولايتها لتصريف الأعمال، في مكانها للمدة التي يرغب فيها. ويمكن للرئيس أن يبرر هذا الوضع من طريق انتقاد البرلمان لعدم اتفاقه على بديل مستدام. ومن الممكن التسامح مع هذا الوضع مؤقتاً، ربما حتى نهاية الصيف، ولكن أي محاولة للإبقاء على الوضع الراهن لمدة أطول من شأنها أن تؤدي إلى تعقيد الأزمة.

 

4. مسار استقالة الرئيس: تبدو هذه الفرضية أقل ترجيحاً، ولكنها تبقى قائمةً ضمن حسابات تعقُّد الأزمة السياسية في البلاد. ففي حال وصول مشاورات تشكيل الحكومة إلى طريق مسدود، أو تعددت حالات حجب الثقة على أي حكومة مفترضة، ربما تكون استقالة الرئيس المخرج الوحيد للأزمة، إذ إنها ستكون مشفوعة بانتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، خاصة وأن حق الرئيس في حل البرلمان لن يكون متاحاً إلا بعد عامٍ كاملٍ.

 

أصبحت الجمعية الوطنية مركز الثقل داخل النظام السياسي الفرنسي، وهي مَنْ يُحدد هوية الحكومة المقبلة وشكلها (AFP)

 

ومهما كان المسار الذي ستتخذه طريقة تشكيل الحكومة الجديدة وهويتها السياسية، فإن الحكومة الفرنسية المقبلة، وعلى عكس حكومات التعايش السياسي الثلاث السابقة التي شهدتها الجمهورية الخامسة (1986-1988، 1993-1995، 1997-2002)، ستكون في كل الأحوال هشَّة وعُرضة لتقلبات الوضع السياسي الفرنسي والأوروبي، وخاصة تقلبات المشهد البرلماني، القائم على ائتلافات حزبية قابلة للتفكيك وإعادة التشكل على قواعد مختلفة للعملية الانتخابية. في المقابل، سيكون مركز الرئيس أيضاً ضعيفاً، بسبب فقدانه قاعدته الانتخابية والشعبية، إضافةً لفقدانه جزءاً من السلطة التنفيذية وهو الحكومة، ولن يبقى له سوى “المجال المحجوز دستورياً” في الدفاع والعلاقات الخارجية.

 

ففي حالات التعايش السابقة كان رئيس الوزراء دائماً يسعى إلى تأكيد دوره في تطوير السياسة الخارجية، ولكن دون التشكيك في تفوق الرئيس في “المجال المحجوز “، لكن في هذه المرة ربما يحدث نوع من الصراع بين الطرفين حول هذا “المجال”. والمسار الذي يبدو محتملاً ويخترق جميع المسارات السابقة هو إمكانية حدوث أزمة ليست داخل السلطة التنفيذية، بل أزمة اقتصادية ومالية عميقة. فقد حذَّرت المفوضية الأوروبية رسمياً، في 24 يونيو الماضي، من أن فرنسا أصبحت واحدة من البلدان الثماني داخل الاتحاد الأوروبي، التي تعاني من صعوبات خطرة فيما يتصل بالعجز المفرط في الميزانية العامة، وهي الأرضية التي يمكن أن تقود مستقبلاً إلى صعود اليمين المتطرف إلى السلطة بوصفه البديل الوحيد، الذي لم يجربه الفرنسيون.

 

الانعكاسات على السياسة الخارجية

يحظى رئيس جمهورية فرنسا في الفقه الدستوري الفرنسي بما يسمى بــ”المجال المحجوز“، والذي يعني سلطة الرئيس المركزية في مجال الدفاع بوصفه رئيس اللجان العليا للدفاع الوطني، وهو الذي يقرر بمفرده استخدام القوة النووية الفرنسية، بالإضافة إلى تمتُّعه بممارسة السلطة في مجال العلاقات الخارجية. فقد أنشأ الجنرال ديغول نموذجاً للحكم اختار خلفاؤه إعادة إنتاجه. لكن في حالات التعايش السياسي، عندما تكون الحكومة من الفريق السياسي المعارض للرئيس، يتحول هذا المجال المحجوز إلى مجال للصراع. لكن يبقى للرئيس مساحةً أكبر في مجالي الدفاع والدبلوماسية من شأنه وحده أن يحدد معالم السياسات الخارجية للبلاد. ويُشير أغلب المسارات المتوقعة للحكومة المقبلة إلى أنها ستكون إما حكومةً يسارية أو حكومة يسار الوسط الرئاسي، ذلك أن اليمين المتطرف أعلن منذ ظهور النتائج إلى أنه لن يكون جزءاً من أي حكومة، وأنه سيكون في المعارضة. لذلك لن تكون هناك تغييرات جذرية على مستوى السياسات الخارجية الفرنسية في المديين القريب والمتوسط، بسبب هشاشة الوضع السياسي، وهشاشة مراكز القوى المتساوية بين الرئيس والحكومة.

 

  • الموقف من الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا: مهما كانت هوية الحكومة الفرنسية المقبلة، فإن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ستظل قويةً. فالمعسكر الرئاسي، من جهة، يُراهن بقوة على العلاقات مع الاتحاد، ويسعى لتوسيع عملية الاندماج. في المقابل، لن تكون القوى اليسارية، سواء شاركت في الحكومة أو شكَّلت حكومتها منفردة، مُتحفظةً بشأن الوحدة الأوروبية، على رغم أنها تريد تعديل ميثاق استقرار الميزانية، وإصلاح السياسة الزراعية المشتركة، ووضع حد لمعاهدات التجارة الحرة. كذلك الأمر بالنسبة للموقف من الحرب الأوكرانية، حيث يكاد يوجد إجماع فرنسي على دعم أوكرانيا في أوساط يسار الوسط واليسار، إلا أن السياسات الخارجية المستقبلية ستكون أقل تحمساً للانخراط في الصراع، بالكيفية التي كانت عليها قبل الانتخابات والتي عبَّر عنها الرئيس ماكرون في خطوة إمكانية إرسال قوات فرنسية إلى الجبهة. وسيكون الرئيس مستقبلاً مكبلاً بتحالفاته داخل الجمعية الوطنية، حيث يوجد إجماع داخل القوى السياسية حول معارضة الانخراط المباشر في الصراع الأوكراني تحت أي مسوغات.

 

  • العلاقات عبر الأطلسية: من المتوقع أن تحافظ العلاقات مع الولايات المتحدة على مستواها الحالي، لكن في حال وصول دونالد ترمب إلى السلطة، من المحتمل أن تتجه نحو الفتور، وربما نحو التوتر في حال تشكلت حكومة يسارية. ذلك أن العلاقات عبر الأطلسية ستكون محدداً أساسياً للعلاقة بين فرنسا والاتحاد الأوربي، وكذلك العلاقة مع حلف شمال الأطلسي. في المقابل، من المتوقع أن تتجه العلاقات مع بريطانيا نحو تطور أكبر، وحلّ قضايا الهجرة ومجالات الصيد المشتركة في المانش، بعد صعود حزب العمال إلى السلطة. ومهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإن الولايات المتحدة ستزيد من تشدد سياستها تجاه الصين، وستجمع حلفائها في أوروبا وآسيا حول محور متشدد فيما يتعلق ببيجين.

 

ستكون العلاقات عبر الأطلسية محدداً أساسياً للعلاقة بين فرنسا والاتحاد الأوربي، وكذلك العلاقة مع حلف الناتو (AFP)

 

  • الموقف من إسرائيل وحرب غزة: في حال تشكلت حكومة يسارية فمن المتوقع أن يشهد الموقف الفرنسي من إسرائيل تحولاً أساسياً في اتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفرض حظر على صادرات السلاح لتل أبيب، ودعم توجه المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة قادة من الحكومة الإسرائيلية وقادة من حركة حماس، وفرض عقوبات على أفراد من حكومة نتنياهو، والسعي إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل كما وعدت الجبهة الشعبية الجديدة بذلك في برنامجها الانتخابي، وكما أكدت على ذلك بعد ظهور نتائج الانتخابات. أما في حال تشكيل حكومة تضم الأحزاب الوسطية، فلن يكون التحول أساسياً، ولكن لن تحافظ الحكومة الجديدة على حالة الدعم التي كانت، حيث أصبح ماكرون يشعر بحرج واضح من مواصلة دعم حكومة بنيامين نتنياهو، وربما يتجه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مع المحافظة على موقف متشدد من حركة حماس. وعلى نحو عامٍ، تبدو نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية في غير صالح حكومة نتنياهو، وتؤكد أن ثمة مزاجاً جديداً في عموم أوروبا، بصدد التشكل، شعبياً وسياسياً، أكثر نقديةً وتحفُّظاً بشأن السياسات الإسرائيلية.

 

  • العلاقات مع الشرق الأوسط: في المدى القريب لن تشهد العلاقات الفرنسية الشرق أوسطية تغيرات جذرية، حيث يوجد شبه إجماع حول طبيعة العلاقات الباهتة نسبياً مع تركيا. في المقابل، من المحتمل أن تؤكد أي حكومة يسارية مستقبلية على تعديل اتفاقيات الهجرة مع دول شمال أفريقيا، وتُحسِّن طريقة التعاطي مع المهاجرين العرب. لكنها أيضاً من المحتمل أن تزيد من توتر العلاقات مع المغرب بشأن قضية الصحراء، حيث تحتفظ القوى اليسارية بموقف شبه مؤيد للبوليساريو. كما أن لديها موقف شديد التحفظ بشأن طبيعة النظام الإيراني الاستبدادية، لكنها ستكون أكثر مرونة بشأن التفاوض حول المسار النووي. أما في حال تشكيل حكومة وسطية حول المعسكر الرئاسي، فمن المتوقع أن تحافظ السياسات الخارجية الفرنسية تجاه المنطقة على الوضع الحالي.

 

استنتاجات 

على غير المتوقع حقق تحالف اليسار الفرنسي المركز الأول في الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، مُتقدماً على اليمين المتطرف ومعسكر الرئيس ماكرون. لكن ذلك لا يشكل سوى نصف انتصار، لأن أياً من القوى الرئيسة الثلاثة لم يحقق أغلبية مطلقة لتشكيل حكومة مستقرة، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة. ويأتي هذا الوضع السياسي وسط أزمة مالية حادة تعيشها البلاد، يمكن أن تقود إلى اختلال مفرط في عجز الميزانية العامة.

 

وفي ظل المشهد البرلماني المعقد، تتأرجح البلاد بين خيار تشكيل حكومة يسارية، لا يريد لها الرئيس ماكرون الظهور، وبين تشكيل حكومة تضم أحزاب الوسط من اليمين واليسار، يبحث ماكرون عليها مراهناً على تفكك تحالف اليسار. وعلى رغم أن الرئيس الفرنسي سيحافظ على صلاحيات كبيرة في مجالي الدفاع والدبلوماسية، فإنّ السياسة الخارجية الفرنسية ستشهد تعديلات نسبية في المستقبل، خاصةً على مستوى الموقف السلبي الذي بصدد التطور من حكومة بنيامين نتنياهو، والاتجاه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/masarat-tashkil-alhukuma-alfaransia-waineikasatuha-ala-siasat-paris-alkharijia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M