كشفت أحداث الثامن من يناير فى البرازيل واقتحام عناصر اليمين المتطرف من أنصار الرئيس الخاسر فى الانتخابات الأخيرة بولسنارو الكونجرس والقصر الجمهورى والمحكمة الدستورية العليا، مدى تأثير وعدوى اليمين الأمريكى على اليمين البرازيلى، وتكرار نفس السيناريو، حيث اقتحم أنصار الرئيس ترامب من اليمين الشعبوى المتطرف الكونجرس فى 6 يناير 2021 رفضا لتنصيب الرئيس بايدن ولنتائج الانتخابات الرئاسية التى يعتبرونها من وجهة نظرهم مزورة، كما اقتحم أنصار الرئيس بولسنارو المؤسسات الحكومية بعد أسبوع من تنصيب الرئيس دى سيلفا أيضا بسبب ما اعتبروه سرقة الانتخابات وتزويرها عبر التصويت الإلكترونى حيث شككوا فى أجهزة الاقتراع المباشر، وأنه تم برمجتها لتكون النتيجة لمصلحة سيلفا. فى كلتا الحالتين الأمريكية والبرازيلية هناك العديد من القواسم المشتركة، أولا: الصراع العميق بين اليمين الشعبوى المتطرف وبين اليسار الديمقراطى، واتهام ترامب وبولسنارو بتحريض أنصارهما لاقتحام رموز الدولة من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو ما يعنى أن اليمين الشعبوى المتطرف لا يعترف بمفهوم الدولة والمؤسسات والأحزاب السياسية التقليدية من اليمين والوسط، باعتبار أنها من وجهة نظرهم فاسدة، ولذلك جاء صعود اليمين الشعبوى فى البلدين نتيجة لفشل المؤسسات التقليدية وتراجع الأوضاع الاقتصادية إضافة إلى قضايا الهجرة والأقليات، حيث يتخذ اليمين الشعبوى مواقف متطرفة إزاء الأقليات والمهاجرين والسود، كما يرفض فرض ضرائب على الأغنياء، ويتخذ سياسات انعزالية فى السياسة الخارجية. وقد أدت السياسة الخارجية لترامب وبولسنارو إلى انعزال البلدين، وتصادمهما مع الكثير من دول العالم من الحلفاء والخصوم، بسبب تراجعهما عن مفاهيم العمل الجماعى الدولى وعدم الثقة فى المؤسسات الدولية، كذلك اتخاذ مواقف مناوئة تجاه المناخ، حيث انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ وجمد بولسنارو صندوق غابات الأمازون للحفاظ على البيئة، كما لم يعترف كل من الرئيسين بجائحة كورونا ورفضا اتخاذ الإجراءات الاحترازية والغلق الاقتصادى، ولذلك كانت أمريكا والبرازيل من أعلى دول العالم فى عدد الوفيات والإصابات. ثانيا: هناك تشابه بين الرئيسين بايدن ودى سيلفا حيث انقلب كل منهما على سياسات الرئيس اليمينى السابق داخليا وخارجيا. فبايدن تراجع عن معظم قرارات وسياسات الرئيس ترامب الداخلية فى المجال الاقتصادى حيث دعم خطة الانعاش الاقتصادى وتمويلها من خلال فرض ضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء، كما تراجع عن سياسة الهجرة التى تبناها ترامب وأوقف بناء الجدار العازل مع المكسيك وسعى إلى تفاهمات معها لتقنين عملية الهجرة والسماح بأعداد محددة من أمريكا اللاتينية لدخول أمريكا. وعلى المستوى الخارجى عاد بايدن لاتفاقية باريس للتغير المناخى واتخذ سياسات عديدة لحماية البيئة والمناخ ومنها إصدار مشروع قانون من الكونجرس للتوسع فى الطاقة البديلة والمتجددة وتحفيز الأفراد والشركات على التحول نحو الاقتصاد الأخضر، كما سعى بايدن لترميم الشراكات مع حلفاء أمريكا التقليديين، خاصة مع الأوروبيين وفى شرق آسيا مع اليابان وكوريا الجنوبية وسعى إلى تغليب الدبلوماسية والحوار فى التعاطى مع الملف النووى الإيرانى، لكنه اتخذ مواقف متشددة تجاه روسيا ودعم أوكرانيا اللامحدود، وكذلك استفزاز الصين والضغط عليها عبر ورقة تايوان.
وفى المقابل أصدر دى سيلفا بعد تنصيبه عددا من المراسيم لإلغاء قرارات الرئيس بولسنارو حيث عزز من سياسات إدارته فى حماية البيئة، وأعاد تفعيل صندوق الأمازون، وبالتالى تحسين العلاقات مع أوروبا والعالم الخارجى. كما أنه يسعى إلى فرض ضرائب على الأثرياء والشركات لتمويل سياساته الاجتماعية فى دعم الفقراء وتحسين أوضاعهم. وخارجيا يسعى دى سيلفا لإنهاء عزلة البرازيل وتعظيم دورها الإقليمى فى نطاق أمريكا اللاتينية، خاصة فى ظل صعود اليسار فى عدد كبير من دول القارة والعودة إلى منظمة الدول الأمريكية. كذلك تحسين العلاقات مع أمريكا وأوروبا والصين وتفعيل دور البرازيل فى الدفاع عن قضايا الدول النامية، خاصة فيما يتعلق بسياسات العولمة والفقر والتغير المناخى. لكن تظل هناك تحديات كبيرة أمام سيلفا، فخارجيا عليه أن يتخذ موقفا متوازنا من الحرب فى أوكرانيا فى ظل ارتباط البرازيل بالصين وروسيا عبر تجمع البريكس وتزايد العلاقات الاقتصادية بينهما، وتأييد سيلفا للنظام الدولى متعدد القطبية، وفى ذات الوقت تعزيز علاقاته مع إدارة بايدن التى وقفت بقوة إلى جانبه فى مواجهة عملية الاقتحامات فى إطار معركة مواجهة اليمين المتطرف الشعبوى، وتقارب بايدن مع البرازيل ودول أمريكا اللاتينية لمواجهة النفوذ والتمدد الروسى والصينى فى القارة. وداخليا الظروف مختلفة، فالبرازيل ليست هى فى فترتى سيلفا السابقتين بين 2003 و2010، حيث استطاعت أن تحتل المرتبة السادسة فى الاقتصاد العالمى، لكنها الآن تراجعت للمرتبة 12 وزادت نسبة الفقر وأعداد الفقراء وتدهورت الأوضاع الاقتصادية التى فاقمتها جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الغذاء عالميا، كما أن أكبر تحد أمامه هو كيف سيعيد تماسك النسيج المجتمعى وينهى حالة الاستقطاب الحادة فى المجتمع البرازيلى، وهو نفس التحدى الذى يواجهه بايدن مع استمرار نفوذ اليمين الأمريكى الشعبوى. رغم خسارة ترامب وبولسنارو إلا أن اليمين الشعبوى فى كلا البلدين يمثل تحديا كبيرا خاصة أن لديه قاعدة شعبية كبيرة، وهو يعبر عن منظومة فكرية وأيديولوجية ولذلك فإن أكبر مهمة أمامهما هى استعادة الثقة فى الديمقراطية والنظام الانتخابى بعد أن كشفت الاقتحامات فى كلا البلدين ثغرات وعيوب الديمقراطية، وفقدان الثقة فى آلية الانتخابات.
نقلا عن جريدة الاهرام بتاريخ16 يناير 2023 ا
.
رابط المصدر: