نحو ستة أشهر تفصل تركيا عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مصيرية تشكل اختبارًا للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية اللذين أظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبيتهما جراء الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالاقتصاد، ومحورية فيما يتعلق بالقضايا المحلية كالأوضاع الاقتصادية وقضية اللاجئين والوضع الديمقراطي، ولها تأثير أيضًا على توجهات السياسة الخارجية التركية. ومن منطلق الأهمية الحاسمة لتلك الانتخابات، شكلت المعارضة تحالفًا سداسيًا؛ لمحاولة إلحاق الهزيمة بأردوغان الذي انخرط في سياسات لتقويض وإفشال المعارضة، لكن محاولات المعارضة لإيقاع هزيمة بالتحالف الحاكم لا تزال تواجه بعض العقبات والتحديات، سواء تتعلق بمحاولات الحكومة عرقلة خطواتها، أو وجود أزمات وخلافات داخلية بين أحزابها.
سياسات حكومية لتقويض المعارضة
أمام محاولات المعارضة للاتحاد وتراجع شعبية أردوغان في استطلاعات الرأي، لجأ الرئيس التركي وحكومته ومستشاريه إلى توظيف أدوات السلطة؛ من أجل إضعاف فرص أحزاب المعارضة، وشمل ذلك الآتي:
1. إقصاء منافسة المحتمل الأقوى: يُعد الحكم على رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو بالسجن عامين وسبعة أشهر و15 يومًا بتهمة إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات، وما يعنيه هذا من حظره من ممارسة العمل السياسي -حال رفض الاستئناف المُقدم منه- أحد الأنماط المألوفة لحكومة أردوغان لإقصاء المعارضين، فهو يسعى إلى التخلص من رجل يُمثل تهديدًا لآماله في إعادة انتخابه بوصفه المرشح المحتمل الأكثر شعبية والأكثر ترجيحًا للفوز عليه؛ إذ يخشى تكرار سيناريو انتخابات 2019 البلدية عندما تفوق إمام أوغلو على مرشح حزب العدالة والتنمية مرتين، لاسيمَّا أن استطلاعات الرأي تُظهر إمكانية وصوله لجولة الإعادة أمام أردوغان؛ نظرًا إلى خبرته السياسية الواسعة، وقدرته على التواصل مع طيف أوسع من الناخبين بما في ذلك المحافظين. بينما يفضل أردوغان وحليفه حزب الحركة الوطنية كمال كيليجدار أوغلو كمرشح للمعارضة كونهم يعتقدون أن هزيمته أسهل.
2. محاولة تخفيف الأزمة الاقتصادية: يسعى الرئيس التركي إلى تخفيف حدة تأثيرات الأزمة الاقتصادية على الناخبين؛ كونها عاملًا رئيسًا لتراجع شعبيته، لذلك أعلن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 8.500 ليرة (455 دولارًا أمريكيًا) بدءًا من عام 2023 بنسبة 55% لمواجهة أزمة غلاء المعيشة التي أغرقت الملايين في ضائقة مالية وأضرت بالشركات الصغيرة وجعلت الكثيرين غير قادرين على شراء السلع الأساسية، مع الوعد برفع آخر حال استمر معدل التضخم في الارتفاع. وعدلت الحكومة في سبتمبر عجز الميزانية في نهاية العام إلى 461.2 مليار ليرة تركية أي حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك أعلن أردوغان في سبتمبر الماضي خطة لبناء 500 ألف وحدة سكنية خلال السنوات الخمس المقبلة بقيمة 50 مليار دولار، وبيع 250 ألف قطعة أرض لمقدمي الطلبات المؤهلين من قبل إدارة تنمية الإسكان العامة، مع تمديد فترة السداد إلى 20 عامًا؛ للحفاظ على المدفوعات الشهرية عند 2800 ليرة (125 دولارًا).
3. التضييق على الأحزاب الموالية للأكراد: بالنظر إلى حقيقة أن الأكراد يشكلون ثقلًا مرجحًا خلال الانتخابات؛ كونهم يقدرون بحوالي 6 ملايين ناخب أي نحو 12% من الناخبين، فإن الحزب الحاكم يخشى استقطابهم من قِبل المعارضة وتكرار تجربة انتخابات 2019 المحلية، حيث سمح دعم حزب الشعوب الديمقراطي لمرشحي المعارضة بالتقدم على مرشحي العدالة والتنمية لرئاسة البلدية في إسطنبول وأنقرة ومدن أخرى. لذلك يسعى الحزب الحاكم إلى تحييد حزب الشعوب وإضعاف قدرته على حشد المصوتين لصالح مرشح المعارضة حال وصوله للجولة الثانية، وشمل ذلك طلب المدعي العام التركي من القضاة تجريد الحزب من التمويل الحكومي بسبب صلات مزعومة بحزب العمال الكردستاني، ويُحاكم 108 من السياسيين الموالين له بتهم تتعلق بالإرهاب، وفي حال إدانتهم يمكن منع المئات من أعضاء الحزب من ممارسة السياسة وتمهيد الطريق لحظر الحزب في قضية منفصلة جارية في المحكمة العليا في تركيا.
4. تكثيف مكتب الاتصالات الرئاسية الدعاية لأردوغان: يقود مدير الاتصالات الرئاسية فخر الدين ألتون حملة دعائية للترويج لأردوغان، تشمل عناصرها نشر عشرات الكتب الدعائية لأردوغان بعدما يصيغ مقدماتها بدقة، وهي تغطي موضوعات مثل: زيارات أردوغان إلى أفريقيا، ورؤيته لإصلاح الأمم المتحدة، ونجاح تركيا في مواجهة فيروس كورونا، والأهمية التي يوليها أردوغان وعائلته للبيئة، ومشاركة صور الرئيس التركي مع القادة الآخرين؛ بحيث يتم اختيار الصور التي تُظهر أردوغان كشخصية جذابة وتعزز صورته كزعيم عالمي، ثم يُعاد نشر الصور بشكل متكرر من قبل أعضاء حزب العدالة والتنمية على وسائل التواصل الاجتماعي مع رسائل تقول إن المعارضة ليس لديها بديل لزعيم قوي مثل أردوغان، والترويج لمنتجات تركيا الجديدة في صناعة الدفاع والطائرات العسكرية بدون طيار التي أنتجها صهر أردوغان، وأول سيارة كهربائية محلية في تركيا، وعقد اجتماعات رئاسية مع الشباب الذين سيكون تصويتهم حاسمًا خلال الانتخابات المقبلة مع دخول نحو 6 ملايين شاب القاعدة الانتخابية لأول مرة.
5. التشديد على وسائل التواصل الاجتماعي: وقع الرئيس التركي في 18 أكتوبر قانون وسائل التواصل الاجتماعي الجديد المثير للجدل الذي يشدد الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية على الإنترنت، ويجرم نشر المعلومات المضللة، مع إقرار أحكام بالسجن تصل إلى أربع وخمس سنوات حال نشر معلومات غير دقيقة؛ بغرض خلق الخوف والذعر أو الإخلال بالأمن الداخلي والخارجي لتركيا أو النظام العام أو الصحة العامة.
6. تبني إصلاحات اجتماعية محافظة: لجأ أردوغان إلى مغازلة قاعدته الانتخابية القومية باقتراح تعديلات دستورية توسع الحق في ارتداء الحجاب في الأماكن العامة وتحظر زواج المثليين، ورغم أن التعديلات لا تؤدي إلا لتكريس الوضع الراهن بالفعل -حيث يُعرّف القانون المدني الزواج على أنه ترتيب بين “الرجل والمرأة” كما تم رفع جميع القيود المفروضة على ارتداء الحجاب في المدارس والمباني الحكومية منذ أكثر من عقد- لكن تعهد زعيم المعارضة كمال كيليجدار أوغلو بتقديم مشروع قانون يكرس حرية ارتداء الحجاب دفع أردوغان إلى المضي بعيدًا وطرحها كتعديل دستوري، بجانب أن إثارة تلك القضية يتيح للرئيس التركي استغلال أي تردد من جانب المعارضة حول المسألتين المثيرتين للجدل لمهاجمتها، لاسيمَّا أن التحالف الحاكم لا يشغل المقاعد المطلوبة لتعديل الدستور (400 صوتًا من أصل 600) أو طرح القضية للاستفتاء (360 صوتًا) مما يجعل أي خطوة مستحيلة بدون دعم المعارضة، ويقوم أعضاء كتلة المعارضة الآن بتقييم ما إذا كان ينبغي عليهم رفض المسودة بالكامل أو التصويت فقط على مسألة الحجاب الذي يحظى بأوسع جاذبية بين الأحزاب.
7. تنظيم فاعليات انتخابية بالخارج: إحدى الاستراتيجيات الرئيسة لحزب العدالة والتنمية فيما يتعلق بالانتخابات هي الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات في الخارج، بالنظر إلى حقيقة أن استطلاعات الرأي تتنبأ بأن الهامش بين أردوغان ومنافسيه سيكون ضيقًا، ما يعني أن كل صوت مهم. لذلك تنظم البعثات الدبلوماسية التركية اجتماعات لممثلي حزب العدالة والتنمية لجمعهم مع المواطنين الأتراك، دون عقد اجتماعات مماثلة لممثلي أحزاب المعارضة أو تضمينها في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي للبعثات الدبلوماسية، ما يؤكد الأجندة السياسية لهذه الاجتماعات. وقد أفادت معلومات صحفية بلقاء جمع مسؤولي الحزب في تركيا بأعضائه في البعثات الدبلوماسية التركية بأوروبا وتنظيم السفراء اجتماعات مع المنظمات غير الحكومية الموالية للحكومة.
أزمات داخلية تواجه المعارضة
رغم توقيع قادة ستة أحزاب معارضة تركية هي: الشعب الجمهوري، والديمقراطية والتقدم، والديمقراطي، والمستقبل، والجيد، والسعادة، إعلانًا مشتركًا لتشكيل تحالف انتخابي “تحالف الأمة”؛ لمواجهة “تحالف الشعب” الحاكم، فإنه لا يزال يواجه تحديات داخلية منها:
1 – معضلة اختيار مرشح مشترك وفرصه المحتملة: لم يحدد تحالف الأمة مرشحه الرئاسي المشترك لمواجهة أردوغان بدعوى الانتظار حتى يحدد أردوغان موعد الانتخابات؛ خشية أن الإعلان المبكر ربما يمنح فرصة لوسائل الإعلام الموالية للحكومة لتشويه سمعته. ومع ذلك، هناك أسباب أخرى للتأجيل، أهمها شعور الأحزاب الصغيرة في التحالف بالقلق من التهميش بعد الانتخابات المقبلة وبالتالي التردد بشأن الاستقرار على أحد المرشحين، والخلافات بشأن تحديد اسم المرشح؛ فبينما يمتلك رئيسا بلديتي إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش على الترتيب فرصًا أكبر للفوز، يريد كمال كيليجدار أوغلو ترشيح نفسه رغم إظهار استطلاعات الرأي عدم قدرته على الإطاحة بأردوغان وتراجع فرص انتخابه؟
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: انتماؤه للأقلية الدينية العلوية ما يجعله مرشحًا غير مفضل للناخبين السنة وقد استغل أردوغان في الماضي الخلفية الدينية لكيليجدار أوغلو لتحفيز الناخبين المحافظين ضد حزب الشعب الجمهوري، وعدم فوزه قبلًا بأي انتخابات، وافتقاره إلى الخبرة في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية والقانون، وفشله في وضع أجندة سياسية شاملة أو فريق سياسي قوي، وبالتالي فهو غير قادر على اجتذاب كتلة مرجحة من القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية. ومع ذلك، تجلت تطلعات كيليجدار الرئاسية بعد الحكم الصادر بحق إمام أوغلو عندما أعلن صراحةً تفضيله بقاء رئيس بلدية إسطنبول في منصبه وموافقته على خوض الانتخابات الرئاسية لعام 2023 كمرشح وحيد من تحالف المعارضة.
بالمقابل، يتمتع منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو بفرص منافسة أكبر؛ فالأول يحظى بدعم بين الناخبين القوميين واليمينيين، ويُمكن إيعاز ذلك إلى امتناعه عن التعليق على القضايا الخلافية مع العدالة والتنمية وإبقاء نفسه فوق الصراع السياسي، وكونه عضوًا سابقًا في حزب الحركة القومية المتشدد، وحفاظه على مسافة من حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، ما جعله مقبولًا لدى الناخبين اليمينيين، بما في ذلك بعض أنصار حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، لكنه لا يحظى بدعم حزب الشعوب الديمقراطي كمرشح مشترك للمعارضة. ويتمتع إمام أوغلو بقبول بين الجماعات الكردية والسنية والعلوية والناخبين من جميع الفئات العمرية؛ كونه يظهر كرئيس بلدية ديمقراطي اجتماعي معتدل، استطاع تقديم العديد من المشروعات التنموية لإسطنبول ذات الثقل الاقتصادي والديموجرافي الكبير، وخلفيته السياسية كرئيس لبلدية بيليك دوزو ثم إسطنبول وهي خلفية مشابهة لخلفية أردوغان.
2. الموقف من القضية الكردية وحزب الشعوب الديموقراطي: بينما يستطيع حزب الشعوب الديمقراطي تأمين حوالي 12% من الأصوات ما يجعله مصدر قوة كبير لأي تحالف أو مرشح، فإنه لم يتم تضمينه ضمن أحزاب الطاولة السداسية؛ بسبب هويته الكردية خشية اتهامهم بالتعاطف مع القضية الكردية،وهي تهمة سيوظفها أردوغان ضد التحالف. ويبدو كذلك أن هناك خلافات بين الأحزاب الستة بشأن التنسيق أو التواصل مع حزب الشعوب الديموقراطي؛ بسبب الموقف المتشدد لحزب الجيد، فبينما جادل جورسيل تكين العضو البرلماني من حزب الشعب الجمهوري بأن حزب الشعوب الديمقراطي يمكن أن يدير وزارة إذا فازت المعارضة العام المقبل، قالت رئيسة حزب الجيد ميرال أكشنار إن حزبها لن يجلس على أي طاولة حيث يوجد مقعد للشعوب الديمقراطي، ولا يمكن للأخير الجلوس على أي طاولة حيث لدينا مقعد. وفي حال لجأ الحزب الكردي إلى تقديم مرشح رئاسي خاص به فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تقسيم تصويت المعارضة؛ الأمر الذي يصب في مصلحة أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
3. غياب برنامج واضح للمعارضة: يراهن أحزاب الطاولة السداسية على غضب الناخبين من سياسات الحكومة الحالية في إحداث تغيير سياسي دون طرح برنامج بديل أمام الناخبين لإدارة الملفات الداخلية والخارجية؛ فلم يتم الإعلان عن أي خطط وسياسات بشأن كيفية معالجة المسائل المتعلقة بالاقتصاد والسياسة الخارجية والقضايا المهمة الأخرى، وبدلًا من ذلك اكتفوا بقطع وعد بإعادة بناء الديمقراطية التركية من خلال إعادة إضفاء الطابع المؤسسي على العودة إلى نظام الحكم البرلماني وتعزيز فصل السلطات وضمان حرية الفكر والتعبير والصحافة، بينما تحتاج المعارضة إلى تقديم خطاب سياسي بديل يعالج مشاكل تركيا العميقة الجذور، ويضع توجهًا جديدًا لتركيا، علاوة على ذلك، ليس لدى تحالف الأمة منصة سياسية رسمية يمكن التحدث عنها.
ختامًا، باتت المعارضة التركية تشكل إزعاجًا لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، لكنها لاتزال تواجه تحديات تجعل التقديرات السياسية تستبعد نجاحها في الإطاحة الكلية بالنظام الحالي، وإنما إحراجه أمام ناخبيهن وتصعيب قدرته على تأمين أغلبية مريحة. وهو ما يزيد الترجيحات بشأن تصاعد السياسات الحكومية التضيقية على المعارضة خلال المرحلة المقبلة، مع التأكيد على ضرورة عمل أحزاب الطاولة السداسية على تجاوز الخلافات الداخلية حتى تستطيع الوقوف كمنافس قوي أمام التحالف الحاكم.
.
رابط المصدر: