وقّعت إيران وفنزويلا يوم السبت 11 يونيو الجاري اتفاقية شاملة استراتيجية لمدة 20 عامًا، تشمل التعاون على عدة أصعدة اقتصادية وتجارية أهمُّها قطاع الطاقة والبتروكيماويات، إلى جانب بعض الاتفاقيات غير المعلن عن تفاصيلها في المجال الدفاعي المشترك.
وقد جاءت هذه الاتفاقية بعد أشهر من التحضير لها على المستوى الثنائي بين البلدين، منذ أن أعلن الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أواخر العام الماضي عزمه زيارة إيران “في القريب العاجل” آنذاك من أجل التوقيع على اتفاقية استراتيجية. كما أن الاتفاقية تأتي في الواقع بعد سنوات طويلة من التعاون والتقارب الثنائي على مستوياتٍ عدة سياسية واقتصادية وعسكرية بين طهران وكراكاس، وهو تقارب يمكننا على الأقل أن نصفه بـ “الائتلاف”.
وفي الوقت نفسه، لا تنفصل الاتفاقية الإيرانية الأخيرة مع فنزويلا عن تحركات موازية منذ أشهر طويلة تتبعها إيران بالتزامن مع عقدها جولات حوار نووية مع القوى الكبرى في فيينا. لذا، يأتي التوقيع الإيراني على هذه الاتفاقية في إطار تحركات أكثر شمولًا ذات أهداف طويلة المدى تُعد في الحقيقة انعكاسًا لطبيعة العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة بوجه خاص والدول الغربية بوجه عام، واستعدادًا خاصًا من إيران لسيناريوهات ما بعد التوصل لاتفاق نووي.
التحرك “النووي” الموازي لمفاوضات فيينا
على الرغم من المدة الزمنية الطويلة التي استغرقتها – ولا تزال- المحادثات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى في العاصمة النمساوية فيينا، حيث كانت قد بدأت في أبريل 2021، إلا أن إيران تسعى للاستفادة من هذه الإطالة بشكل سياسي وجيوستراتيجي.
أي أن تأخير التوصل لاتفاق نووي مع القوى الكبرى يعزز من النفوذ السياسي الإيراني في مواجهة الخارج على المدى المتوسط والبعيد، علاوة على أنه يخلق أرضية جديدة للمفاوض الإيراني في المحادثات المنعقدة في فيينا منذ العام الماضي.
وعلى سبيل المثال، فمنذ انطلاق المفاوضات النووية في التاريخ المذكور، عملت إيران بشكل ملموس على تطوير قدراتها النووية بشكل ملحوظ، وهو ما تطرقت إليه بعض التقارير الدولية المعنية وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي كان أحدثها العثور على آثار مواد نووية مخصبة في ثلاثة مواقع سرية غير معلن عنها من جانب طهران. هذا إلى جانب ما قالت إيران، وتناولته بالتحليل بعض المؤسسات المختصة في عدة دول، من أن إيران رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60% بعد أن كان مسموحًا لها فقط بنسبة لا تتعدى 3.67% طبقًا لاتفاق 2015 النووي، وهو ما يدق ناقوس الخطر عند القول إن صنع قنبلة نووية لا يستلزم معدل تخصيب نووي أكثر من 90%.
إن هذه المستويات العالية من التخصيب وفي ميدان التفاوض سوف تُكْسِبُ الطرف الحائز عليها، أيًا كانت هويته، ثقلًا سياسيًا في مثل هذه المحادثات سواء في الوقت الراهن أو مستقبلًا، في ظل طرح الإيرانيين سيناريو خروج واشنطن مرة أخرى من الاتفاق النووي المتوقع على غرار ما حدث في مايو 2018.
كما أن الوصول إلى هذه النسب من التخصيب، قد يفرض لاحقًا أمرًا واقعًا (de facto) سوف تضطر القوى المتفاعلة مع إيران إلى التعامل معها طبقًا له على أصعدة عدة لن تستثني حينذاك الجانب العسكري، وذلك في وقت سيكون من الصعب عليهم إعادة عقارب الساعة للوراء.
وعلى هذا النحو، تستفيد إيران من الوقت الضائع فيما بين جولات الحوار النووي وخلال مدة التفاوض الطويلة لكسب المزيد من أوراق الضغط المستقبلية.
التحركات الاقتصادية الرامية لإبطال مفعول العقوبات الاقتصادية مستقبلًا
تُعد هذه النقطة هي حجر الزاوية في تحركات إيران الأخيرة داخل نطاق إقليمها الآسيوي، علاوة على ما تقوم به مع فنزويلا، كاستثناءٍ من بين دول هذا الإقليم. حيث تحاول طهران عقد تحالفات واسعة مع الدول المحيطة بها في منطقة آسيا الوسطى، مثل طاجيكستان وقرغيزستان وأوزبكستان، ودول فاعلة ومؤثرة أخرى مثل روسيا والصين، وذلك عن طريق الارتباط معهم باتفاقيات اقتصادية ثنائية استراتيجية طويلة المدى.
وقد قامت طهران بالفعل بعقد بعض التحالفات الاستراتيجية على هذا النحو مع بعض الدول، مثل الصين حيث تم في مارس 2021، وفنزويلا في يونيو 2022. ولولا الحرب الروسية الأوكرانية لكان من الممكن لإيران التوصل لاتفاق مماثل مع روسيا لمدة 20 عامًا.
ولا تنحصر بنود هذه الاتفاقيات بوجه عام على التعاون الاقتصادي فقط، بل تتعداها بشكل صريح في بعض الأحيان، للتعاون العسكري. وهذا بالطبع إلى جانب حالة “الائتلاف” السياسية الثنائية، وأحيانًا المتعددة، مثل ما ترمي إيران إلى تحقيقه من وراء سعيها لتقوية علاقاتها بدول مجموعة “البريكس-BRICS”. إن المرمى الإيراني الرئيس من وراء هذه التحركات يمكن تفسيره من خلال عاملين اثنين:
- الأول: وهو التجربة التي مرت بها إيران بعد التوصل لاتفاق نووي مع القوى الكبرى في مدينة لوزان السويسرية عام 2015، من حيث عدم تحقيقها مكاسب اقتصادية واسعة؛ خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في 8 مايو 2018 خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
فقد فرض ترامب بعد ذلك التاريخ حزم عقوبات اقتصادية واسعة ضد إيران، لم تكن مسبوقة منذ تأسيس النظام الجديد بها عام 1979، كانت إحدى العوامل التي قادت إلى انهيار اقتصادي واسع في إيران.
- الثاني: ويتمثل في خشية إيران من تكرار هذه التجربة مرة أخرى بعد التوصل لاتفاق نووي جديد مع القوى الكبرى في العاصمة النمساوية. حيث تنتاب طهران مخاوف من أن يعلن الجمهوريون في الولايات المتحدة مرة أخرى خروجهم من الاتفاق النووي؛ في ظل معارضتهم الحالية له وللمحادثات التي قد تكون إلى التوصل إليه.
ولا تستبعد إيران أيضًا في هذا الإطار عودة الرئيس الأمريكي الجمهوري السابق ترامب نفسه إلى السلطة في واشنطن بعد انتخابات 2024 الرئاسية.
وعليه، فإن مسعى إيران للحوار مع دول الإقليم الواقعة شمال شرق حدودها، وعقدها تحالفات اقتصادية استراتيجية مع دول مثل الصين وفنزويلا ومحاولتها تكرار الأمر نفسه مع روسيا ودول أخرى، يمكن تفسيره في هذا الإطار، وهو سيطرة بعض المخاوف عليها من جانب عدم فاعلية الاتفاق النووي لها على الناحية الاقتصادية مستقبلًا، أو انهياره مرة أخرى عن طريق خروج الولايات المتحدة منه لاحقًا، وهو ما ترى فرصَه تزداد في عهد الرؤساء الجمهوريين منهم إلى الديمقراطيين.
لماذا فنزيلا؟
تجيء فنزويلا لتشكل أحدث محاولات إيران للالتفاف “المستقبلي” وليس الآني على العقوبات الخارجية بشكل عام والأمريكية بوجه خاص. وعلى الرغم من أن محتوى الاتفاقية التي وقعها الرئيس مادورو مع المسؤولين الإيرانيين في طهران، بعد لقاءاته مع المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، لا تختلف (من حيث الشكل) عن تلك الموقعة مع الصين أو تلك الأخرى التي يحاول الإيرانيون التوصل إليها مع موسكو، إلا أن توقيع إيران اتفاقية بهذا الحجم مع دولة خارج إطارها الجغرافي لا تشكل ثقلًا دوليًا ملحوظًا مثل الصين أو روسيا، قد يثير التساؤل لأسباب اختيار طهران كراكاس إحدى الوجهات المستقبلية التي تسعى من خلال التعاون معها إلى الالتفاف على العقوبات الخارجية.
ومع ذلك، يمكن تفسير رغبة إيران في توطيد علاقاتها على المستوى الاستراتيجي مع كراكاس من منطلق ما يلي:
- توجهات السياسة الخارجية المتشابهة:
مثلت طبيعة العلاقات الخارجية لإيران وفنزويلا مع الدول الكبرى حول العالم على وجه الخصوص دافعًا لأن يتقارب البلدان سويًا منذ مطلع العقد الأول في القرن الواحد والعشرين. حيث تتسم العلاقات الإيرانية والفنزويلية، بدرجات متفاوتة، بالتوتر مع أغلب هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة، مما مثل منطلقًا لهما للتقارب الثنائي.
وقد قاد هذا التوتر أيضًا إلى فرض عقوبات خارجية على كلتا الدولتين، خاصة من جانب واشنطن، ما شكّل عاملًا آخر للائتلاف الثنائي. واتصالًا، بذلك أيضًا، فإن معاداة نظامي البلدين للولايات المتحدة خاصة قد دفعهما بشكل جدي أكبر للتقارب سويًا.
- أوضاع مجتمعية محلية متقاربة:
تتشابه الحالة الاقتصادية المحلية في إيران وفنزويلا، من حيث الركود الاقتصادي الشديد الذي يدفع البلدين إلى محاولة السعي سويًا من أجل تعزيز عملية التبادل التجاري والاقتصادي؛ كسبيل للخروج من الحالة الاقتصادية الحالية.
وتخطط إيران من ناحية أخرى، ومنذ سنوات، لمقايضة النفط مقابل الحصول على السلع الغذائية والزراعية من فنزويلًا، فيما يُعرف بالنفط مقابل الغذاء. وتُعد هذه سياسة قديمة نسبيًا فيما يخص التعامل بين طهران وكراكاس منذ سنوات.
ج- فنزويلا، الفناء الخلفي للولايات المتحدة:
تكتسب دولة فنزويلا أهمية خاصة بالنسبة للسياسة الخارجية الإيرانية عند الحديث عن طبيعة العلاقات بين طهران وواشنطن على وجه التحديد. حيث تُعد فنزويلا إحدى الدول التي تشكل الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، أي منطقة النفوذ التقليدية لها.
لذا، فإنه وبالنظر إلى مسار وأهداف تحركات السياسة الخارجية الإيرانية، سنجد أن فنزويلا تستحوذ على أهمية كبيرة لطهران لموقعها الجغرافي الذي ترغب من خلاله الأخيرة في اختراق النفوذ الأمريكي التقليدي وتشكيل “ورقة ضغط ومساومة” لها أمام واشنطن.
ويعني هذا أن أهداف إيران من وراء إيجاد موطيء قدمٍ لها في فنزويلا تتشابه في إحدى زواياها مع تلك الأهداف الإيرانية القائمة على تعزيز دورها في سوريا ولبنان على وجه التحديد.
الخلاصة، بينما تتفاوض إيران مع القوى الكبرى في العاصمة فيينا، تتحرك طهران في مسار موازٍ لا ينفصل عن مآلات المفاوضات النووية وإمكانية التوصل لاتفاق نووي علاوة على نتائجه المتوقعة مستقبلًا.
حيث تحاول إيران استغلال “الفراغ النووي”، من حيث توقف المحادثات المعنية في فيينا لأشهر بالإضافة لطول مدة التفاوض نفسها، في الإقدام على خطوات تعتقد أنها من شأنها مساعدتها في إبطال مفعول العقوبات الاقتصادية الخارجية لاحقًا، وذلك سواء بَقي الاتفاق النووي أو انهار، أي أن الهدف النهائي من تلك التحركات الإيرانية هو تنفيذ الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي حين توليه منصبه، وهي فك الارتباط بين مستقبل الداخل الإيراني الاقتصادي والاتفاق النووي.
.
رابط المصدر: