أحمد دياب
في ذكري مرور 75 عاماً من تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان، كثَّفت الدولتان محاولاتهما لإصلاح العلاقات الثنائية، التي شهدت مؤخراً توتراً ملحوظاً بسبب تداعيات الأوضاع في أفغانستان، وانتقادات رئيس الوزراء السابق عمران خان الشديدة للسياسة الأمريكية تجاه بلاده والمنطقة.
وفي أبريل الماضي، تولى دونالد أرمين بلومي دوره كسفير للولايات المتحدة في باكستان، لملء المنصب الذي ظل شاغراً منذ عام 2018. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، زار العديد من المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى وأعضاء الكونجرس باكستان. وفي 27 سبتمبر الماضي، التقى وزير الخارجية الباكستاني الجديد بيلاوال بوتو زرداري بمسؤولين أمريكيين، بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكين، على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وفي أوائل أكتوبر الجاري، زار قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا الولايات المتحدة لمدة أسبوع كامل، وهي الزيارة الأولى لباجوا منذ عام 2019، وبعد أكثر من عام على انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، حيث التقي وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.
الحسابات والمتغيرات
المساعي الأمريكية والباكستانية لتحسين العلاقات بين الدولتين ترتبط في الواقع بعدد من الحسابات والمتغيرات على الجانبين، أهمها الآتي:
1. على الجانب الباكستاني
أ. غياب عمران خان عن السلطة في باكستان: حتى الإطاحة به في أبريل 2022، حاول رئيس الوزراء السابق عمران خان تغيير السياسات الباكستانية جذرياً. وشدد على ضرورة إنتهاج إسلام أباد “سياسة خارجية مستقلة”. وكان خان أول زعيم باكستاني يزور روسيا منذ أكثر من 20 عاماً، مما أدى إلى تعميق العلاقات مع روسيا. لكن علاقات إسلام أباد مع واشنطن ظلت متوترة خلال فترة حكمه، حيث أثار استعداء الولايات المتحدة، ورحَّب باستيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان، واتهم واشنطن بالوقوف وراء محاولة الإطاحة به. وقد أثَّرت تلك الرواية التي روَّج لها خان سلباً على العلاقات بين البلدين. ومؤخراً، قال رئيس الوزراء شهباز شريف إن سلفَهُ أضرَّ بعلاقات باكستان مع الولايات المتحدة.
ب. تفاقُم الأزمة الاقتصادية في باكستان: تعتبر باكستان من أكثر الدول في آسيا التي تعاني من الديون الخارجية بعد سريلانكا، حيث بلغت ديونها 86 مليار دولار حتى يونيو 2021، وبلغت 128 مليار دولار حتى مارس 2022. وتسببت الفيضانات التي غمرت ثلث مساحة البلاد في نهاية شهر أغسطس الماضي، والتي وُصِفَت بأنها “الأسوأ في تاريخ باكستان”، في مقتل نحو 1700 شخص ونزوح 8 ملايين، وتَضرُّر أكثر من 33 مليون نسمة، وتدمير البنية التحتية الحيوية، وجرف أكثر من 4 ملايين فدان من المحاصيل، ونفوق ما يقرب من مليون رأس من الماشية. وناشدت الحكومة المجتمع الدولي للمساعدة مُقدِّرةً الأضرار بأكثر من 10 مليارات دولار، وسط تسارع جهود الإغاثة الدولية. وخلال كلمته في واشنطن في 4 أكتوبر الجاري، شدد الجنرال باجوا على أن إنعاش الاقتصاد المتعثر في بلاده يجب أن يكون أولوية رئيسة، مُضيفاً إنه “لا يمكن أن تكون هناك دبلوماسية دون اقتصاد قوي”. وأظهر الجنرال باجوا رغبة قوية في التحول من الجيو-سياسي إلى الجيو-اقتصادي، الأمر الذي يعكس التفكير المتغير في باكستان.
ج. رغبة المؤسسة العسكرية الباكستانية في استمرار العلاقات الوثيقة مع واشنطن: تربط باكستان والولايات المتحدة علاقات عسكرية وثيقة منذ الحرب الباردة عندما كانت باكستان جزءاً من الاتفاقيات المناهضة للسوفييت بقيادة الولايات المتحدة مثل CENTO وSEATO. وحتى عندما انقلب الرأي العام في باكستان ضد الولايات المتحدة، بسبب إطاحة حكم حركة طالبان عام 2001، احتفظ الجيش الباكستاني بصلاته مع البنتاجون. ومنذ أن قررت الولايات المتحدة تعليق معظم المساعدات الأمنية لباكستان في ظل إدارة دونالد ترامب عام 2018، كان الجيش الباكستاني، الذي يُدير البلاد بحكم الأمر الواقع، يتطلع إلى العودة إلى صداقة واشنطن باعتبارها قوة موازنة لبيجين.
وفي أبريل 2022، أقر باجوا بأن بلاده تتمتع بعلاقات “ممتازة” مع الولايات المتحدة، مُضيفاً إن أفضل المعدات العسكرية التي تلقتها باكستان كانت من الأمريكيين. ويبدو أن الغرض من زيارة باجوا الأخيرة إلى واشنطن هو تأكيد أن العلاقات بين الجيش الباكستاني والبنتاجون لا تزال راسخة ومؤسسية، ولن تتأثر سلباً بعد تقاعده في أواخر نوفمبر 2022.
العلاقات الباكستانية-الأمريكية ظلت متوترة خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق عمران خان، الذي أثار استعداء الولايات المتحدة، ورحَّب باستيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان، واتهم واشنطن بالوقوف وراء محاولة الإطاحة به؛ وقد أثَّرت تلك الرواية التي روَّج لها خان سلباً على علاقات البلدين
2. على الجانب الأمريكي
أ. امتعاض الولايات المتحدة من سياسة “الاستقلال الاستراتيجي” الهندية: تشعر الولايات المتحدة بالقلق من أن الهند، خصم باكستان اللدود، تنتهج سياسات خارجية تعزز التعددية القطبية في النظام الدولي، مما يُقوض الهيمنة الأمريكية العالمية. والأهم من ذلك، أن محاولات واشنطن لعزل روسيا قد ضعُفت بسبب رفض الهند (والصين) فرض عقوبات على موسكو. ومنذ أن وجدت واشنطن الهند شريكاً صعباً، نظراً لميل نيودلهي إلى “الاستقلال الذاتي الاستراتيجي”، عادت واشنطن إلى سياستها القديمة المتمثلة في تحسين العلاقات مع باكستان، بالنظر إلى أن الأخيرة لا تزال تتمتع بالأولوية في السياسة الهندية الدولية والإقليمية.
ب. رغبة واشنطن في الحصول على دعم باكستان لمواجهة الأوضاع في أفغانستان: بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وعودة طالبان إلى السلطة في أغسطس 2021، سعت واشنطن إلى الحصول على مساعدة باكستان في مراقبة نشاط طالبان الأفغانية فيما يتعلق بالجهاد عبر الحدود والإرهاب. وبالتالي ازداد اعتماد الولايات المتحدة على الاستخبارات الباكستانية، ولم يكن قتل زعيم القاعدة أيمن الظواهري مُمكناً دون مساعدة باكستان. وبالمثل، لا يزال الوضع الأفغاني خطيراً، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تُدير ظهرها لما يحدث هناك. وفي هذا السياق، جاء استئناف وزارة الخارجية الأمريكية، في سبتمبر الماضي، المساعدة العسكرية المهمة لباكستان بعد تعليقها لسنوات، من خلال الموافقة على بيع باكستان صفقة طائرات F-16 بقيمة 450 مليون دولار لإسلام أباد، شريطة استخدامها في مجال محاربة الإرهاب.
الكوابح والتحديات
رغم المستجدات الدافعة لتحسين العلاقات الأمريكية – الباكستانية، لكن ثمة عقبات وتحديات بنيوية تعرقل من إمكانية تحسُّن جدي للعلاقات بين الدولتين خلال المدى القريب، أهمها الآتي:
1. العامل الباكستاني الداخلي: حيث تعاني باكستان من الاضطرابات السياسية والأزمة المالية وتداعيات إنسانية كارثية نتيجة أسوأ فيضانات في تاريخها، وهي بؤرة للانقسامات والتطرف الديني والعنف الطائفي، وهناك خطر حقيقي من فشل الدولة وانهيار القانون والنظام على غرار مشاهد الفوضى التي اجتاحت سريلانكا. ويُحذِّر تقرير جديد صادر عن مجموعة الأزمات الدولية من أن تيارات متطرفة جديدة في البلاد تُمهِّد الطريق لتصاعد العنف الطائفي في البلاد. وتُظهِر البيانات أن الهجمات العنيفة آخذة في الارتفاع في حقبة ما بعد كورونا. وفي يونيو 2022، قررت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) التي تراقب تمويل الإرهاب وغسيل الأموال إبقاء باكستان على “القائمة الرمادية” للبلدان التي تحتاج إلى تحسين تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
2. العامل الأفغاني: لا تزال شكوك واشنطن قوية بشأن علاقات المؤسسة العسكرية الباكستانية مع التنظيمات المتطرفة في أفغانستان، ويرى العديد من الدوائر الأمريكية أن إسلام آباد دعمت سيطرة طالبان على الحكم في أغسطس 2021. وساد العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وباكستان الاضطراب بسبب انعدام الثقة المتبادل، بما في ذلك رفض حكومة عمران خان السماح للولايات المتحدة بالوصول إلى قواعدها العسكرية لعمليات مكافحة الإرهاب في أفغانستان بعد الانسحاب.
لا أحد في النخبة الحاكمة في باكستان يريد حالياً تقويض العلاقة مع واشنطن في وقت تواجه فيه البلاد مجموعة من التحديات الاقتصادية والمالية، تتطلب مواجهتها مساعدة قوية من الولايات المتحدة، التي تُدرك بدورها أن استراتيجياتها في المنطقة لا يمكن أن تكون فعَّالة دون التعاون مع إسلام أباد
3. العامل الهندي: منذ انتهاء الحرب الباردة، سعت السياسة الأمريكية من أجل “فصل” علاقات واشنطن مع الهند وباكستان، مع تعزيز العلاقات الطبيعية بين الخصمين في جنوب آسيا. وفي 27 سبتمبر الماضي، ناشد وزير الخارجية الأمريكي بلينكن نظيره الباكستاني بيلاوال بوتو زارداري بـ”أهمية إدارة علاقة مسؤولة مع الهند”. بيد أن الهند عازمة بشدة على عزل باكستان في الساحة الدولية بشأن قضية الإرهاب عبر الحدود. في حين ركزت سياسة الأمن القومي الباكستانية (PDF)، التي صدرت في يناير 2022، على أهداف نيودلهي “للهيمنة” الإقليمية، والقمع الهندي للكشميريين. ووصف رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف سياسات الهند في المنطقة المتنازع عليها في كشمير بأنها “إبادة جماعية”.
4. العامل الصيني: بعد انتهاء الحرب الأفغانية، من المُرجَّح أن تُحدَّد العلاقات بين واشنطن وإسلام أباد من خلال المنافسة الجيوسياسية العالمية بين الولايات المتحدة والصين، ويقول قادة عسكريون ومدنيون باكستانيون إنهم لا يريدون الاختيار بين “معسكر الصين” أو الولايات المتحدة. لكن الولايات المتحدة لا تستطيع، ولا تريد أن تحل محل الصين في باكستان. فنحو 30% من ديون باكستان الآن مُستحقَّة للصين، وهذا يعني أن الولايات المتحدة ينبغي أن تضخ بطريقة ما مليارات الدولارات إلى باكستان لتحل محل الصين. ورغم أن الولايات المتحدة هي أكبر شريك تجاري لباكستان (حوالي 6 مليارات دولار)، لكن استثمارات الصين في باكستان تبلغ حوالي 60 مليار دولار، معظمها في مشاريع البنية التحتية المتعلقة بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC) ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. وإدراكاً لصلات إسلام أباد الوثيقة ببيجين، طلب وزير الخارجية الأمريكي بلينكن من نظيره الباكستاني بيلاوال خلال لقائهما الأخير بضرورة “إشراك الصين في بعض القضايا المهمة المتعلقة بتخفيف الديون وإعادة الهيكلة حتى تتمكن باكستان من التعافي بسرعة أكبر من الفيضانات”.
الاستنتاجات
لطالما اعتمدت الحكومات المدنية والجيش الباكستاني على واشنطن للحصول على الدعم المالي والمعدات العسكرية والتدريب والشرعية الدولية. ولذا يمكن القول إنه لا أحد في النخبة الحاكمة في باكستان يريد تقويض تلك العلاقة مع واشنطن في وقت تواجه فيه إسلام أباد مجموعة من التحديات الاقتصادية والمالية، والتي تتطلب بالتأكيد مساعدة الولايات المتحدة في العديد من المنتديات والجهات الدولية المانحة.
وفي المقابل، من المؤكد أن باكستان تظل قوة إقليمية مهمة، وأن الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة لا يمكن أن تكون فعَّالة دون تعاون إسلام أباد، لاسيما بشأن التطورات في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي منها وعودة طالبان. وما يُعرقل محاولات واشنطن لإحداث توازن في العلاقات بين الهند وباكستان، هو استمرار الخلافات بين الجارين اللدودين، إذ لم تُغيِّر نيودلهي ولا إسلام آباد بشكل أساسي تصورهما للتهديد الذي يشكله الطرف الآخر.
والمرجَّح، أيضاً، أن الولايات المتحدة ستواجه عاملاً قوياً مؤيداً للصين في باكستان. فليس هناك أي رغبة أو قدرة في الولايات المتحدة لتقديم مساعدات مالية واقتصادية كبيرة لباكستان تُعادل أو تُعوض نظيرتها الصينية. لكن مع الأخذ في الاعتبار أن الجيش حكم باكستان لجزء كبير من تاريخها، وأن الحكومات المدنية تظل غير مستقرة، وأن المشاعر المعادية لأمريكا تبقى راسخة بين معظم الباكستانيين، فإن واشنطن ترى الجيش الباكستاني عنصراً مستقراً وفاعلاً يُمكِن بناء علاقة طويلة الأمد معه، بغض النظر عمن يقوده.
.
رابط المصدر: