بقلم: أندرو سكوت
لندن ــ من الواضح أن عدم الرضا عن الناتج المحلي الإجمالي كمقياس آخذ في الازدياد. إذ يشكك العديد من الاقتصاديين وصناع السياسات، وغيرهم من المنتقدين، في قدرة هذا المقياس المركزي للنجاح الحكومي والاجتماعي على إدراك مكاسب الرفاهة من التكنولوجيا، أو التعبير عن التدهور البيئي، أو تفسير اتساع فجوات التفاوت. مع اقتراب التطورات الطارئة على الذكاء الاصطناعي والروبوتات من إنتاج زخم كبير مربك في سوق العمل مع تعزيز الناتج المحلي الإجمالي في ذات الوقت ــ وهي العملية التي من المحتمل أن تتسارع بفعل الجائحة المستمرة ــ ستزداد هذه الشكاوى صخبا خلال فترة وجيزة.
جرى تقديم العديد من المؤشرات البديلة لفترة طويلة، لكن أحد الخيارات الواعدة بشكل خاص يتمثل في متوسط العمر المتوقع الصحي، وهو مقياس يسهل فهمه ويشكل أهمية واضحة لكل منا بشكل فردي. علاوة على ذلك، يجري الآن قياس متوسط العمر المتوقع الصحي بالفعل، وتَـصَـادَف أنه يعالج العديد من العوامل التي قد يغفلها الناتج المحلي الإجمالي.
على سبيل المثال، لا تُـفضي الظروف البيئية السيئة إلى حياة طويلة وصحية. وهناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن الأفراد الذين يشعرون بالسعادة والرضا يميلون أيضا إلى طول العمر والتمتع بالصحة لفترة أطول. الأمر الأكثر أهمية هو أن الحياة الصحية الأطول ترتبط بالناتج المحلي الإجمالي ذاته. فكما يساعد ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في توفير الموارد اللازمة لدعم الصحة، يدعم السكان الذين يتمتعون بالصحة الناتج المحلي الإجمالي الأقوى.
علاوة على ذلك، من خلال استهداف متوسط العمر المتوقع الصحي، تستطيع الحكومات تسليط ضوء أقوى على قضية التفاوت الاقتصادي. لأن دخل الأسر الأكثر ثراء قد يكون أكبر بعدة آلاف من المرات من دخل الأسر الأكثر فقرا، فإن متوسط الناتج المحلي الإجمالي يكون دائما أكبر من الدخل المعتاد (الأوسط). ولكن عندما يتعلق الأمر بمتوسط العمر المتوقع في البلدان أكثر ثراء، يصبح العكس هو الصحيح. تميل القيم الإحصائية الشاذة إلى تمثيل أولئك الذين يموتون صغارا، وعلى هذا فإن العمر المتوقع المعتاد (الأوسط) يصبح أعلى من متوسط العمر المتوقع.
هذا يعني أن رفع متوسط العمر المتوقع الصحي يمكن تحقيقه عن طريق زيادة العمر المتوقع الصحي بين أولئك عند أسفل جدول توزيع الصحة إلى مستوى العمر المتوقع للشخص المعتاد (الأوسط). هذا لا يجعل استهداف التفاوت بين الناس أكثر جاذبية وحسب، بل إن الأمر لا يتطلب ابتكارات طبية رائدة لتحقيق أعمار أطول ــ بل مجرد إنجاز نتائج نموذجية لعدد أكبر من الناس. وبناء على هذا فمن الأهمية بمكان أن نعمل على سد الفجوة الكبيرة في متوسط العمر المتوقع بين الأغنياء والفقراء ــ نحو 15 عاما ــ في الولايات المتحدة.
إن استهداف العمر المتوقع الصحي، باعتباره مقياسا للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، يقر ضمنا بأن الشيخوخة مطواعة (إن لم تكن كذلك، فلن يكون الهدف قابلا للتطبيق). وقد تبين أن مجموعة من السلوكيات والسياسات، فضلا عن البيئة التي نعيش فيها، تؤثر على الكيفية التي نتقدم بها في العمر وطول مدة حياتنا. وتشير بعض التقديرات إلى أن جيناتنا تمثل فقط ربع العوامل التي تساهم في كيفية تقدمنا في العمر. ونظرا لهذه المرونة، فمن الأهمية بمكان أن تركز الحكومات على العمر المتوقع الصحي لأقصى عدد ممكن من الأشخاص.
من شأن مثل هذا التركيز أن يساعد الحكومات أيضا على مواجهة واحد من أكبر تحديات المستقبل: الشيخوخة المجتمعية. بالنظر إلى أن كل بلد في العالم من المتوقع أن يشهد شيخوخة مجتمعية، فإن التركيز على مدى جودة تقدمنا في العمر يصبح أمرا شديد الأهمية. وتتطلب مرونة العمر على هذا النحو التمييز بين المقاييس الزمنية والبيولوجية للعمر والتركيز على الأخيرة.
مع ذلك، ولأن الكثير من السياسات الحكومية تركز حاليا على المقياس الزمني غير المطواع، فإن عددا كبيرا للغاية من الحكومات تصبح على غير استعداد لمواجهة التحديات الديموغرافية في المستقبل مثل أنظمة الصحة والمعاشات المرهقة. وبدلا من استكشاف طرق للتأثير في كيفية تقدمنا في العمر، كان صناع السياسات يركزون بشكل شبه كامل على عدد “كبار السن”. ولكن من خلال استهداف طول العمر الصحي، يصبح بوسعهم مساعدة عدد أكبر من الناس على عيش حياة أطول وأكثر إنتاجية، وبالتالي الحد من التكاليف الاقتصادية المترتبة على الشيخوخة المجتمعية.
بعد أزمة 2008 المالية، التزم صناع السياسات بالقيام “بكل ما يلزم” لتثبيت استقرار النظام المالي واستعادة نمو الناتج المحلي الإجمالي. أدى التباطؤ اللاحق في اتجاه نمو الإنتاجية والتداعيات الاقتصادية العالمية المدمرة المترتبة على الجائحة الحالية إلى إنتاج العديد من اقتراحات السياسات وقدر غير مسبوق من الإنفاق بهدف عكس اتجاه التباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
على النقيض من ذلك، لم تسفر الأخبار حول انخفاض متوسط العمر المتوقع في العديد من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن تدفق مماثل من الحلول المقترحة. كيف يمكننا أن نخصص تريليونات الدولارات لضمان دعم الناتج المحلي الإجمالي في حين نبذل أقل القليل من الجهد لتجنب انحدار متوسط العمر المتوقع؟ من المؤكد أن الاستجابة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي نتيجة للتدابير المنقذة للحياة، يشير إلى أن التدابير السياسية الجوهرية لتعزيز العمر المتوقع الصحي تستحق الاهتمام.
لتفعيل استهداف العمر المتوقع الصحي، ينبغي للحكومات أن تحذو حذو اليابان في إنشاء “مجلس طول العمر”. وبمجرد أن يبدأ صناع السياسات في التركيز على هذه القضية، سوف يدركون ثلاثة أمور. أولا، الرعاية الصحية الوقائية هي الأساس. في مختلف أنحاء العالم، تميل الأنظمة الصحية إلى التوجه في المقام الأول نحو التدخل الطبي والاستجابة للأمراض، بدلا من التوجه نحو تعزيز الصحة العامة. ثانيا، الأمر الثاني، والذي يتصل بالأول، هو أن العديد من محددات الحياة الصحية الطويلة تقع خارج سيطرة النظام الصحي، وترتبط بالعمل، والتعليم، والمجتمع، كما أوضح الاقتصاديان آن كيس وأنجوس ديتون في عملهما في توثيق “الموت يأسا”. وعلى هذا فإن تركيز السياسة على العمر المتوقع الصحي يتطلب نهجا حكوميا مشتركا بين الإدارات المختلفة.
تقودنا حقيقة مفادها أن الموت يأسا اليوم يؤثر بشكل غير متناسب على الأفراد في منتصف العمر إلى الإدراك الثالث: وهو أن طول العمر يتعلق بالحياة بالكامل وليس فقط نتائج نهاية الحياة. تشير تقديرات الحكومة البريطانية إلى أن الفتاة المولودة حديثا لديها الآن فرصة واحدة من خمس فرص للعيش حتى يبلغ عمرها 100 عام، وعلى هذا فمن الأهمية بمكان أن نعمل على توسيع نظرتنا لطول العمر بحيث تشمل مسار الحياة بالكامل. يجب أن تكون التدابير التي تستهدف العمر المتوقع الصحي شاملة لجميع الفئات العمرية وأن تركز على طول العمر، وليس فقط على كبار السن. فشباب اليوم هم كبار السن في الغد، وكل وقت يعيشه أي فرد على هذا الكوكب مهم.
هناك العديد من المقاييس التي يمكن أن تستخدمها الحكومات للحكم على مدى نجاح سياساتها وصحة المجتمع. ولكن أيا كانت التدابير الأخرى التي تستخدمها، فإن العمر المتوقع الصحي يستحق أن يحتل مكانة مركزية في مزيج السياسات. الواقع أن قِـلة من المتغيرات الأخرى قد تكون على هذا القدر من الأهمية بالنسبة إلينا كأفراد وفي ذات الوقت فَـعّـالة في التعبير عن فوائد أعرض اتساعا في ما يتصل بالاقتصاد الكلي.
رابط المصدر: