بعد حرب غزة، على واشنطن التأكيد على ضرورة العودة إلى القيود العسكرية المنصوص عليها في معاهدة السلام على المدى الطويل، فضلاً عن معالجة مخاوف كل دولة بشأن السيادة على الحدود والتهريب والمزعجات الأخرى.
عندما سافر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى القاهرة الأسبوع الماضي لترؤس “الحوار الاستراتيجي” السنوي بين الولايات المتحدة ومصر، كان أحد أهدافه الرئيسية هو المضي قدماً في مفاوضات وقف إطلاق النار المتوقفة بين “حماس” وإسرائيل. وتتمثل نقطة الخلاف الرئيسية العالقة في تلك المحادثات في (التوصل إلى) ترتيب لـ “ممر فيلادلفيا”، وهو جزء ضيق من قطاع غزة يمتد على طول الحدود مع مصر. ويتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الانسحاب من هذا الممر لأن “حماس” قامت في كثير من الأحيان بحفر أنفاق تحته لتهريب الأسلحة. ومع ذلك، تنظر القاهرة إلى الوجود العسكري الإسرائيلي المستمر هناك باعتباره انتهاكاً للملحق الأمني لمعاهدة السلام بينهما. وقد أصبحت هذه الخلافات، إلى جانب اتهامات إسرائيل لمصر بالتواطؤ في تهريبات “حماس” (للأسلحة)، مصدر توتر ثنائي خطير، مما قد يؤدي إلى تفاقم قضايا أمنية أخرى لم تُحَل بعد في شبه جزيرة سيناء.
الالتزامات الأمنية في “اتفاقية كامب ديفيد”
حددت “اتفاقية كامب ديفيد” لعام 1979 الترتيبات الأمنية التي يجب على مصر وإسرائيل الالتزام بها في سيناء وعلى طول حدودهما المشتركة، وذلك جزئياً عن طريق تقسيم شبه الجزيرة إلى ثلاث مناطق. في المنطقة “أ” المجاورة لقناة السويس، سُمح لمصر بنشر فرقة عسكرية مؤللة واحدة تضم ما يصل إلى 22,000 جندي و230 دبابة و480 ناقلة جنود مدرعة. وفي المنطقة “ب” في وسط سيناء، سُمح فقط بتواجد حرس الحدود. وفي المنطقة “ج”، وهي الجزء المتاخم لغزة وإسرائيل، سُمح فقط بتواجد وحدات الشرطة. كما تم فرض قيود على الانتشار العسكري الإسرائيلي على الجانب الإسرائيلي من الحدود (المنطقة “د”).
ولم يتم ذكر “ممر فيلادلفيا” على وجه التحديد في المعاهدة لأن إسرائيل كانت تحتل غزة في ذلك الوقت. ومع ذلك، فوفقاً “للملحق الأول، المادة الثانية”، يُسمح لإسرائيل بنشر أربع كتائب مشاة على طول الحدود من البحر المتوسط إلى إيلات، بما يصل إلى 180 مركبة شخصية مدرعة و4000 جندي، بالإضافة إلى منشآت وتحصينات ميدانية. ولا يُسمح بالدبابات والمدفعية والصواريخ المضادة للطائرات في هذه المنطقة، ولكن يُسمح بنشر أنظمة الدفاع الجوي المحمولة.
انتهاكات من كلا الجانبين
ظلت الانتشارات العسكرية المصرية في شبه جزيرة سيناء متسقة إلى حد ما مع هذه الشروط حتى عام 2013، عندما دفع تمرد جهادي قوي القاهرة إلى طلب استثناءات للسماح بقوات ومعدات إضافية لمواجهة التهديد، بما في ذلك ما يصل إلى 200 دبابة إضافية. ووافقت إسرائيل على هذه الطلبات من خلال “القوة متعددة الجنسيات والمراقبين”، وهي المنظمة التي تراقب الامتثال للمعاهدة. واليوم، يُقدر عدد القوات المصرية العاملة في سيناء بنحو 45,000 إلى 66,000 جندي.
بالإضافة إلى ذلك، قامت مصر ببناء العديد من القواعد العسكرية والمطارات في شبه الجزيرة منذ عام 2013، وكل ذلك دون إذن من إسرائيل أو “القوة متعددة الجنسيات والمراقبين”. ومن بين المطارات الثلاثة غير المعتمدة، يضم أحدها ملاجئ محصنة لطائرات من طراز “إف-16” ومخابئ للذخيرة. كما تم إنشاء مقرات قيادة في سيناء “للجيش الثاني” و”الجيش الثالث”، و “القيادة الموحدة”، و”كتيبة القوات الخاصة 101”. وتم بناء منشأتين أخريين في انتهاك للمعاهدة دون أي مبرر معقول لمكافحة الإرهاب على الإطلاق، هما: مركز عمليات في مخبأ على عمق 89 قدماً تحت الأرض، وقاعدة بحرية في شرق بورسعيد.
وقد انتهكت إسرائيل مؤخراً المعاهدة أيضاً بنشرها دبابات وأفراداً يتجاوزون حدود المنطقة “د” خلال هجومها في أيار/مايو ضد قوات “حماس” في رفح. ومع ذلك، فإن غياب المدرعات الثقيلة يعني أن استمرار الانتشار الإسرائيلي في “ممر فيلادلفيا” لن يشكل انتهاكاً فنياً للمعاهدة، على الرغم من أن مثل هذا الوجود قد لا يكون مستحسناً لأسباب أخرى تناقش أدناه.
الجهود لتأمين الحدود مع غزة
عندما أنهت إسرائيل احتلالها لغزة في عام 2005، أصبح “ممر فيلادلفيا” حدود السلطة الفلسطينية مع مصر. ولكن بعد أن أطاحت “حماس” بوحشية بالسلطة الفلسطينية وسيطرت على غزة بعد عامين، أفادت بعض التقارير أن مصر أغلقت الحدود.
وفي أعقاب الثورة المصرية عام 2011، بدأت القاهرة في التعبير عن قلقها من أن تهريب الأسلحة من غزة وإليها كان يساعد في تأجيج التمرد المسلح في سيناء. وفي حوالي عام 2015، وسط تمرد متصاعد لتنظيم “الدولة الإسلامية” في شبه الجزيرة، بدأت الحكومة حملة لإغلاق الأنفاق عبر الحدود التي استخدمها أولئك المهربون، حيث قامت بإغراق العديد منها. وبحلول عام 2018، كانت قد دمرت أيضاً مدينة رفح الحدودية في سيناء بأكملها، مما أدى إلى نزوح نحو 70,000 مواطن لإنشاء منطقة عازلة بعرض 1.5 كيلومتر. وفي عام 2020، أكملت مصر بناء جدار خرساني بعمق 16 قدماً تحت سطح الأرض ووسعت المنطقة العازلة إلى حوالي 7 كيلومترات.
وفي المجمل، ادعت القاهرة أنها دمرت حوالي 1,500 نفق تهريب لـ “حماس” بين غزة وسيناء. ومع ذلك، استمر تدفق الأسلحة إلى القطاع، مما مكّن “حماس” من تطوير قدراتها العسكرية إلى درجة أدت في النهاية إلى غزو السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وعندما دخلت القوات الإسرائيلية رفح و“ممر فيلادلفيا” في وقت سابق من هذا العام، أعلنت عن اكتشاف عشرات الأنفاق العاملة الممتدة إلى سيناء.
وكان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو التقارير العديدة عن تواطؤ الدولة المصرية في عمليات التهريب فوق الأرض إلى غزة. ويبدو أن هذا كان جهداً تعاونياً بين “مديرية المخابرات العامة” المصرية ورجل أعمال مشبوه في سيناء يُدعى إبراهيم العرجاني. وقد أشار رئيس “جهاز الأمن الداخلي” الإسرائيلي السابق نداف أرغمان إلى أن معظم عمليات التهريب بعد عام 2018 جرت عبر “معبري رفح وكرم أبو سالم”، وليس عبر الأنفاق.
واليوم، يزداد انزعاج القاهرة من وجود إسرائيل في الممر وسيطرتها على الجانب الغزي من “معبر رفح”، الذي كان رمزاً للسيادة المصرية لفترة طويلة. وفي الوقت نفسه، اتخذت خطوات لتحصين الحدود مع غزة من خلال بناء جدران على شكل حرف “T” وسياج معزز، رغم أن هذه التدابير تبدو مصممة لمنع الاختراقات الجماعية المحتملة من قِبل الفلسطينيين أكثر من معالجة المخاوف بشأن تهريبات “حماس”. وفي 5 أيلول/سبتمبر، قام رئيس أركان الجيش المصري بجولة على الحدود، زار خلالها القوات الخاصة، ووحدات المظليين، وقوات الكوماندوز، والوحدات الميكانيكية والدبابات القريبة – وجميعها متمركزة حالياً بالقرب من الحدود في انتهاك لمعاهدة السلام. ومن غير الواضح ما إذا كانت إسرائيل قد وافقت على أي من هذه الأنشطة.
توصيات في مجال السياسة العامة
لدى واشنطن مصلحة دائمة في تخفيف حدة التوترات بين هذين الشريكين في السلام منذ فترة طويلة، والتنسيق معهما لضمان عدم تمكن “حماس” من إعادة تسليح نفسها وإعادة تنظيم صفوفها بعد الحرب. وقد تكون إسرائيل مستعدة لتخفيف أحد أكبر مصادر الإزعاج لمصر – وهو الانسحاب من “ممر فيلادلفيا” – إذا تم اتخاذ ترتيبات فعّالة للحد من التهريب. وبدعم دولي، بإمكان مصر إنشاء حواجز أعمق وأكثر فعالية على طول حدودها مع غزة البالغ طولها 14 كيلومتراً، على غرار ما استخدمته إسرائيل سابقاً لمنع “حماس” من حفر الأنفاق. كما تستطيع القاهرة أن تنصب أجهزة استشعار للكشف عن الأنفاق على جانبها من الحدود ومشاركة المعلومات مع إسرائيل في الوقت الفعلي. ولمنع تهريب المعدات العسكرية أو ذات الاستخدام المزدوج عبر المعابر الحدودية – وهي مشكلة أكبر كثيراً وفقاً لبعض المحللين وجيش الدفاع الإسرائيلي – يجب أن تضغط واشنطن على مصر لتطبيق آلية تفتيش أكثر صرامة، ربما بالتنسيق مع شريك أوروبي أو إسرائيل.
ومع تراجع العلاقات المصرية الإسرائيلية وسط حرب غزة، تزداد أهمية “القوة متعددة الجنسيات والمراقبين” أكثر من أي وقت مضى لضمان الثقة المتبادلة ومنع المزيد من التدهور. وتتمتع المنظمة بالموارد الكافية في الوقت الحالي، ولكن يمكن تعزيز قدراتها ورؤيتها إذا استخدمت الطائرات بدون طيار على نطاق أوسع، وأضافت الموقعين على “اتفاقيات أبراهيم” إلى قائمة الدول المساهمة فيها.
وحال انتهاء حرب غزة، يجب على واشنطن أن تشجع كلتا الحكومتين على العودة إلى الأحكام الأمنية الأصلية للمعاهدة في سيناء. لقد هزمت مصر تمرد تنظيم “الدولة الإسلامية”، لذلك لم يعد بإمكانها تبرير نشر وجود عسكري كبير في شبه الجزيرة. كما يجب معالجة البناء العسكري الكبير في سيناء. ومن بين المحادثات الأخرى بعد الحرب، يجب على واشنطن و”القوة متعددة الجنسيات والمراقبين” أن يتحدثوا مع إسرائيل ومصر بشأن انتهاكاتهما للمعاهدة والعودة إلى ما كان، لمدة خمسة عقود تقريباً، حجر الأساس للسلام والاستقرار في المنطقة.