نشر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في 18 نوفمبر 2022 تحليلاً إقليمياً للنزاعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يتناول التحليل مسح النزاعات المسلحة 2022 الذي صدر مؤخراً عن المعهد، ويغطي الاتجاهات ذات الأهمية الإستراتيجية، ويقدم رؤى بشأن الديناميكيات الإقليمية البارزة.
اتسم العِقد الذي أعقب الربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط بالدموية والعنف. فسرعان ما فتحت آمال احتجاجات 2011 – التي أدت إلى رحيل ما يسمى بـ “الرؤساء مدى الحياة” – على غرار زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، ثم معمر القذافي في ليبيا – الباب على مصراعيه للاقتتال الداخلي والتشرذم السياسي. وتميزت السنوات التالية لذلك بصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتدخلات الأجنبية والحروب الأهلية.
واعتباراً من منتصف عام 2022، لم تُظهر الحروب الدائرة في ليبيا وسوريا واليمن أي مؤشر على الانتهاء. وبدلاً من ذلك، فقد تطورت، وراوحت مكانها، بل وأصبحت مستعصية على الحل. ولكن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الذي يسبق الربيع العربي، هو فقط الذي شهد تصعيداً كبيراً خلال الفترة المشمولة بالتقرير.
اتجاهات خفض التصعيد في الشرق الأوسط
يمكن وصف الصراعات الحالية في الشرق الأوسط على نطاق واسع بأنها تعيش حالة من الجمود. فاللاعبون المحليون والخارجيون، على حد سواء، يجدون أنفسهم غير قادرين على تحقيق أهدافهم السياسية المختلفة من خلال الوسائل العسكرية. وقد أدى هذا الإدراك إلى سلسلة من التصعيد. ومع ذلك، فإن معظم هذه التدابير في الحقيقة ناتجة عن الإرهاق واستنفاذ الوُسع، وقد لا تكون أبداً سبباً للتفاؤل الذي قد يبدو للوهلة الأولى.
وتعتبر سوريا واليمن خير مثالين على حالة الجمود العسكري تلك والتي أدت إلى خفض التصعيد. ففي الحالة الأولى، يسيطر الرئيس السوري بشار الأسد على ما يقرب من ثلثي الأراضي السورية، لكن لديه احتمال ضئيل للاستيلاء على بقية أراضي البلاد، التي تسيطر عليها مجموعات متنوعة من الفصائل، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. كما أنه من غير المحتمل أن يستعيد الأسد مساندة العديد من السوريين له بعد عِقد من القتال الوحشي ضد الشعب السوري. ومع ذلك، فإن إمكانية استيلاء المعارضة السورية على الأراضي التي يسيطر عليها الأسد تبدو أقل احتمالية. حيث أدى هذا الواقع إلى دولة مجزأة وممزقة.
فمن كثير من النواحي، يمكن اعتبار أن الأسد قد انتصر في الحرب، وببساطة من خلال استطاعته البقاء وتمسكه بالسلطة واستحواذه على جزء من الأراضي السورية. وفي مارس 2022، أدركت الإمارات العربية المتحدة هذه الحقيقة، فقامت باستضافته في دبي – وهي أول زيارة يقوم بها الأسد إلى دولة عربية منذ بدء الانتفاضات في ربوع العالم العربي في عام 2011 [1]. وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية والأوروبية، فمن المرجح أن تستضيف المزيد من الدول العربية الرئيس السوري في الأشهر والسنوات المقبلة.
وفي اليمن، أدى الجمود العسكري بعد سنوات من القتال الذي لم يُحسم لأي من الأطراف إلى حد كبير، إلى خفض التصعيد هناك. ففي أبريل 2022، أعلنت الأمم المتحدة عن هدنة لمدة شهرين تم تمديدها لاحقاً لشهرين آخرين[2]. وقد جاءت الهدنة في أعقاب حملة عسكرية استمرت على مدار عامين – ولا تزال مستمرة – من قبل جماعة الحوثيين، والمعروفة أيضاً باسم (أنصار الله)، للاستيلاء على محافظة مأرب، التي تحتوي على حقول النفط والغاز التي تعتقد قيادة الحوثي أنها يجب أن تسيطر عليها من أجل تحقيق هدفها المتمثل في إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة.
وبعد وقت قصير من إعلان الهدنة، أعلن عبد ربه منصور هادي، الرئيس اليمني الذي كان يعيش طوال السنوات السبع الماضية في المنفى في المملكة العربية السعودية، أنه سيتنحى عن منصب الرئيس ويسلم السلطة التنفيذية إلى مجلس قيادة رئاسي مكون من ثمانية أعضاء[3]. وبينما منح المبعوثون الخاصون للأمم المتحدة والولايات المتحدة إلى اليمن الأولوية لتحويل تلك الهدنة المؤقتة في البلاد إلى تسوية سلمية شاملة – بالاستفادة من الفرص الجديدة التي قدمها إنشاء مجلس القيادة الرئاسي، إلا أنه لا تزال هناك جهود كبيرة يتعين القيام بها في هذا الصدد[4].
(تضخم أسعار الغذاء، 2019-2021)
وهناك حالة جمود مماثلة، على الرغم من عدم حدوث أي اختراق سياسي، ميزت حرب تركيا على حزب العمال الكردستاني (بي كي كي). وفي مصر، لا يبدو الصراع بين الدولة والمسلحين المتمركزين في سيناء أنه حالة من الجمود بقدر ما هو حرب آخذة في التلاشي. ولا يزال يعيش العراق وكذلك ليبيا حالة من التوتر وعدم اليقين. ولا تزال هناك مخاوف في العراق حول مدى إمكانية التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للعراق، بينما تم تأجيل الانتخابات الرئاسية في ليبيا ولا تزال البلاد في حالة من الانقسام الشديد.
وهناك عاملان من المرجح أن يعوقا الجهود المبذولة لتحويل حالة خفض التصعيد هذه إلى تسويات سلام شاملة:
– العامل الأول، هو حالة الطائفية المتصاعدة في المنطقة، والتي تدعم وتغذي العديد من الصراعات بها.
– العامل الثاني، هو الدرجة التي أدت بها العديد من هذه الصراعات بالفعل إلى حدوث انقسام سياسي وإقليمي كبير – وهي تطورات سيكون من الصعب عكس مسارها.
الطائفية
وهناك ثلاثة من أطول النزاعات في المنطقة وأكثرها عنفاً – تلك التي في العراق وسوريا واليمن – يتوفر فيها عنصر طائفي بشكل كبير. حيث تتواجد القوات الإيرانية أو المستشارون العسكريون الإيرانيون أو الميليشيات الإيرانية في جميع هذه الدول، بينما تقوم طهران في نفس الوقت بدأب ونشاط ببث الدعاية اللازمة في كل دولة منها أملاً في ترجمة دعمها السياسي والعسكري إلى تحالف بين أتباع المذهب الديني الواحد. وفي اليمن، حيث ينتمي الحوثيون إلى طائفة الزيدية الشيعية، نجحت إيران في إقناع السلطات هناك بالاحتفال بعاشوراء – وهو مهرجان مذهبي مرتبط بالشيعة الاثني عشرية – لأول مرة في تاريخ البلاد في عام 2019. وفي سوريا، استخدمت إيران مجموعة من المحفزات المالية والمساعدات والمنح الدراسية لتشجيع مثل تلك التحولات. وفي العراق، حيث لا يمثل هذا التحول مشكلة بسبب العدد الكبير من الشيعة الاثني عشرية الموجودين بالفعل في البلاد، فقد استمرت إيران في ممارسة سيطرتها على الميليشيات، مما أدى إلى تصدع الكتلة الشيعية[5] نفسها.
وأدت التصورات بشأن مكاسب طهران (خاصة تلك الموجودة في اليمن وسوريا) والمخاوف بشأن سعيها المتصوَّر لامتلاك أسلحة نووية إلى تقريب خصوم إيران الإقليميين من بعضهم البعض – وعلى الأخص إسرائيل ودول الخليج. حيث مهَّدت اتفاقيات أبراهام في عام 2020 الطريق لمزيد من تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، ومن المرجح أن تؤدي إلى صمت في ردود الأفعال من جانب دول الخليج على مزيد من التطورات في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وفي نفس الوقت، تواصل إسرائيل شن غارات على ما تزعم أنها مواقع إيرانية داخل سوريا، ويبدو أنها تنشط كذلك في اغتيال العلماء الإيرانيين وكذلك قيادات عسكرية بارزة[6]. وقد أدى العنصر الطائفي الكبير المتصاعد في صراعات الشرق الأوسط والمواجهة المتزايدة بين إيران وخصومها الإقليميين إلى تفاقم انقسامات في المنطقة قد يكون من المستحيل تصحيحها على المدى القريب.
التشرذم
ويمثل التشرذم السياسي والإقليمي الذي تعاني منه العديد من دول الشرق الأوسط تحدياً آخر يقف ضد الجهود الرامية إلى تحويل الهدنات الهشة ووقف إطلاق النار إلى تسويات سياسية دائمة في المنطقة. ومرة أخرى، فإن الحالتين الأكثر وضوحاً في ذلك هما سوريا واليمن. ومع ذلك، فإن التشرذم السياسي يلعب أيضاً دوراً مهماً في ليبيا والعراق. ففي سوريا، كما ذكرنا من قبل، يسيطر الأسد على ما يقرب من ثلثي أراضي البلاد ولكن من غير المرجح أن يبسط سيطرته على بقية الأراضي السورية. وهذا يعني أن حالة الانقسام ستستمر في البلاد وأن الأسد سيُحرم من الإيرادات والموارد التي يجدّ في السعى إليها. وفي غضون ذلك، ستقاوم الفصائل المتمركزة في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية جهود نظام الأسد في محاولة استعادة السيطرة على البلاد، خوفاً من الانتقام. حيث تشير هذه الظروف إلى أن الصراع سيستمر في المستقبل المنظور.
وفي اليمن، تبدو القضية أكثر وضوحا. حيث يُسيطر الحوثيون على جزء كبير من شمال البلاد، حيث قاموا بإعادة هيكلة الحكومة وشكلوا اقتصاداً منفصلاً ونفّذوا رؤيتهم الخاصة للدولة. وفي واقع الأمر، لا يريد الحوثيون أن يكونوا جزءاً من الدولة اليمنية ولا يرون أي سبب للتخلي عما كسبوه في ساحة المعارك على طاولة المفاوضات.
وفي ليبيا والعراق، أدى التشرذم السياسي وانتشار مختلف الجماعات المسلحة التي ظهرت خلال العِقد الماضي إلى حدوث مأزق سياسي كبير. ففي ديسمبر 2021، تم تأجيل الانتخابات الرئاسية في ليبيا. وبالمثل، يبدو أن العراق، الذي يتمتع شماله بمنطقة حكم ذاتي للأكراد (كردستان العراق)، ليست لديه القدرة على إعادة تشكيل الدولة مرة أخرى.
الهامش
[1] Associated Press, ‘Assad Visits UAE in Latest Sign of Re-engagement’, New York Times, 18 March 2022
[2] ‘Press Statement by UN Special Envoy for Yemen Hans Grundberg on the Renewal of the UN-Mediated Truce’, Office of the Special Envoy of the Secretary-General for Yemen, 2 June 2022
[3] Ben Hubbard, ‘Yemeni Leader Hands Power to New Body as His Saudi Backers Seek to End War’, New York Times, 7 April 2022
[4] ‘Briefing to the United Nations Security Council by the Special Envoy for Yemen Hans Grundberg’, ReliefWeb, 14 June 2022
[5] Jane Arraf, ‘Efforts to Form a New Government in Iraq Descend into Chaos’, New York Times, 13 June 2022
[6] Farnaz Fassihi and Ronen Bergman, ‘Israel Tells US It Killed Iranian Officer’, New York Times, 27 May 2022
.
رابط المصدر: