خالد عكاشة
وصف الرئيس فلاديمير بوتين السلطة الحاكمة في كييف، والمنتمين للقومية الأوكرانية الذين يمثلون أغلبية الشعب الأوكراني (77%)، بأنهم نازيون جدد، فيما بدا ليس زلة لسان أو ما شابه، بقدر ما يوحى بمضيّه في استحضار الموروثات التاريخية التي بدأها في فصول الأزمة الأولى، قبل الاجتياح العسكري. خلالها وجّه انتقادات حتى لقادة تاريخيين روس باعتبارهم ارتكبوا أخطاء جيواستراتيجية، إبان الحقبة السوفيتية تسببت في ظهور الدولة الأوكرانية على الصورة التي عليها الآن، والحقيقة أنن ما يمكن اعتباره حصاداً أولياً لأيام معدودة منذ اختارت روسيا اللجوء للحل العسكري الشامل، في خلافها مع جارتها الدولة الأوكرانية ومن ورائها «حلف الأطلسي» ومنظومة الاتحاد الأوروبي، أن مطالب الأمن المتكافئ التي طرحتها موسكو قبيل الغزو العسكري، والتي بدت بالمناسبة منطقية ومقبولة للكثيرين من المعسكر الآخر، قد توارت عن صدارة المشهد لصالح الحديث عن هدف مراوغ آخر، وهو إعادة رسم الخرائط والولاءات بواسطة التدخل الخشن واستخدام القوة المسلحة.
المراوغة تمثلت هنا في تنحية التوافق، لصالح قياسات المدى الذي يمكن أن تصل إليه أرتال الآليات العسكرية ومقذوفات الصواريخ المتوسطة وطويلة المدى، مع ربط إنجاز تحقيق الأهداف بحجم التدمير المصحوب بتحطيم الإرادات. هذه تبدو مهمة صعبة ومعقدة حمّل بها الرئيس بوتين الجيش الروسي، أو يمكن اعتبارها اختياراً لطريق محفوف بمخاطر عدم الوصول. خاصة أن العمل العسكري شمل كامل مساحة أوكرانيا، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية، باستهانة فيها الكثير من التعجل لما يمكن أن تلاقيه القوات الروسية على جانبي هذا الطريق الذي زاغت عنه الأهداف الأولية.
الترتيبات الجديدة ومواقع اللاعبين الجدد
لقد ظل الانحياز للسيناريو المحدد الهدف باسترداد كامل مساحة إقليم الدونباس مثلاً، وضمانة السيطرة واستقرار وضع الجمهوريتين اللتين اعترفت بهما روسيا عشية العمل العسكري الشامل، يحقق لمعادلة الأمن الروسية فضلاً عن الإنجاز السياسي في مواجهة الخصوم، فرصة أكثر عقلانية. لكن هذا الهدف الذى بدا سهل التحقق لم يكتمل خاصة أن القوات على الأرض كانت أعينها على كييف العاصمة، فتفرغت لإحراز تقدم واختراق سريع وضع هذا الخيار خلف ظهر القوات الروسية، التي كانت تحتاج لإنجاز هذا الأمر قبل أي مهمة أخرى على الأراضي الأوكرانية، باعتبار وجود ظهير من المنطق والحقوق يحمى سردية التدخل بالقوة لحمايته وتحريره، وفق الرؤية الروسية التي ترى لأغلبية سكانه من العرقية الروسية الحق في تقرير مصيرهم، هذا ما اتفق عليه وجرى ما يشبه قبوله وفق «معاهدة مينسك» التي مثّلت دول أوروبية كأطراف فيها، وظل الإخفاق في إنفاذها معلقاً في رقبة كييف حتى إن كانت الحقيقة على غير ذلك، لكن في أي الأحوال كانت خطوط الاتصال مع النظام الدولي ستظل مفتوحة في نطاق الوصول لتسوية من نوع ما. هذا لم يحدث؛ وانكشفت مساحة كبيرة من العداء والتناقض فتحت المجال أمام الطرف المقابل، الذي وجد مكونات هذا المشهد الجديد مدعاة لتصحيح تموضعه وسد العديد من الثغرات التي تعتري صفوفه.
أبرز الثغرات التي كان يعاني منها المعسكر الغربي هي التناقضات العديدة التي شابت العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها فى حلف الناتو من دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية الأوروبية التي ظلت محل جدل ما بينهما طوال سنوات إدارة دونالد ترامب، مما أصاب دور الحلف، بل ورؤيته لمهامه بشحوب كبير لم يكن خافياً على أحد. لهذا سارعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لمهمة رئيسية تمثلت في إعادة الحيوية لمفهوم «الموقف الموحد»، وهو ما نجح تجاوباً مع التسارع الروسي المقابل، حتى التردد الألماني وجد من تدافع الأحداث ما جعله يحسم أموراً كثيرة ظلت معلقة لسنوات، على الأقل في تأكيد الاصطفاف بكامل قوته تحت مظلة الحلف الغربي الذي لم يكن أمامه سوى إثبات ذاته، أمام هذا الاختبار غير الاعتيادي الذي وصف بالأخطر منذ الحرب العالمية الثانية. لهذا تجاوزت برلين اعتبارات شراكات إمدادات الطاقة مع الجانب الروسي في مشروع استراتيجي بحجم «نورد ستريم 2»، من أجل ضمانة المواجهة من خلف حائط أوروبي أمريكي صلب، فقد مثلت تلك القضية الثغرة الأهم التي تهدد اصطفاف أعضاء هذا المحور، وبالرغم من عدم اكتمال رؤية البدائل المتاحة حتى الآن، إلا أن قرار تجميد المشروع في هذا التوقيت، عكس دلالة واضحة على حجم الإدراك الألماني والأوروبي لخطورة ما يجرى.
لكن في الحقيقة الموقف الألماني تطور بصورة كبيرة، خلال أيام معدودة من عمر الأزمة، وبدا لافتاً أن خيارات استراتيجية تحسم على عجل في مطابخ السياسة الألمانية، فأول إعلان أوروبي بتزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية نوعية خرج من برلين على غير توقع، واستخدم الدور الهولندي لضمانة الإسراع في إيصالها إلى كييف. ليعقب ذلك ما يمكن اعتباره انقلاباً استراتيجياً متكاملاً في عقيدة وثوابت الدولة الألمانية، منذ الحرب العالمية الثانية، أعلن عنه المستشار الألماني «أولاف شولتس» الأحد أمام البوندستاج في جلسة استثنائية ضمت، فضلاً عن الأعضاء، كامل وزراء حكومته وأركان الدولة، قرر خلالها أن ألمانيا ستستثمر 100 مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام. كاشفاً عن خطة الدولة بتخصيص أكثر من 2% من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنوياً، عبر تأسيس صندوق خاص للجيش الألماني سيستخدم للاستثمار في مجال الدفاع، ليصبح هذا القرار أول تغيير في العقيدة والسياسات العسكرية التي ظلت ألمانيا ملتزمة بها لعقود.
المستشار «شولتس» الذي تلقى تأييداً واسعاً من القاعة، تمثل في أكثر من وقفة تصفيق حار داعم ومؤيد لهذه الخطوات، أكمل الإفصاح عن ملامح استراتيجية ألمانيا الأمنية بالتأكيد على أنه من الآن فصاعداً سيستمر هذا التوجه الجديد، بل وسيتطور سنوياً. وهذا يضخ دماء هائلة في شرايين ليس «حلف الناتو» فحسب، بل ربما يحدث انقلاباً كبيراً فى المحددات الأمنية للاتحاد الأوروبي خلال المستقبل القريب. خاصة وللمرة الأولى يستخدم المستشار الألماني عبارة تعريض «أمن أوروبا» للخطر، في إشارة للعدوان الروسي.
تحولات الأزمة: تنامي متصاعد ومشهد متشابك
تنتقل الأزمة الأوكرانية سريعاً إلى المرحلة المركّبة التي يصعب تفكيك مكوناتها، حيث يصعب تصور أن تُترك لتتصاعد بهذا الشكل المتنامي الأقرب لنمط كرة الثلج المندفعة إلى المنحدر بقوة كاسحة. على الأقل هذا ما يبدو في عشرين يوماً من العمل العسكري الروسي، الذي حملها على نحو مفاجئ إلى خارج الأطر التي يمكن توقع إمكانية السيطرة عليها.
في الاستعراض السابق لمواقع اللاعبين، تناولنا موقع القوات العسكرية الروسية باعتبارها أهم الفاعلين الذين سيتحكمون في مسارها، وعلى جانب مقابل رصدنا الموقع الذي بدأ منه المعسكر الغربي إدارته لهذا الصراع، وإلى أين سيمضي بعد هذه النقلة النوعية في طبيعته، وفي هذا الجزء سنتطرق أيضا للاعبين الجدد الذين سريعاً على خط الأزمة، واستدعتهم الأحداث ربما وهذا متوقع، أو تحمل الاستعانة بهم ودفعهم إلى خطوط المواجهة العديد مما فرضته تحديات ساحات المواجهة.
هؤلاء هم «المقاتلون الأجانب» حيث بدا لافتاً حديث الرئيس الروسي، وهو في اجتماع مذاع مع وزير دفاعه، يعطيه موافقته على استقدام من سمّاهم الأخير بـ«المتطوعين»، محدداً عددهم بـ«16 ألف» مقاتل من منطقة الشرق الأوسط.
الذرائع الروسية لتلك الخطوة الاستثنائية ذكرت أنها جاءت رداً على إعلان أوكراني سبقه في دعوة المتطوعين للانضمام إلى «الفيلق الدولي»، وآخرون بعد أيام ذهبوا إلى أن تلك الخطوة أتت بغرض الاستعداد لحرب المدن، في إشارة إلى أن الجيش الروسي لا يريد أن يتحمل كلفة المواجهة المباشرة مع المدنيين الأوكرانيين.
لكن التفسيرات الروسية ربما لم تقف عند تحديد الرئيس بوتين لجبهة «الدونباس»، التي ذكرها بالاسم كساحة مختارة سيجرى الدفع بهم إليها، بل وقرن في نفس الحديث وعده بأن ذات الجبهة سيجرى تزويدها بالسلاح الغربي الذي استولى عليه الجيش الروسي كغنائم أثناء العمليات على الأراضي الأوكرانية.
لا يُتصور بعد هاتين الإشارتين الواضحتين، سوى أن هذه الجبهة المفتوحة منذ العام 2014 تعاني من تعثر بشكل أو بآخر، خاصة والحصاد العملياتي يؤكد تلك الفرضية بعد عجز الجيش الروسي عن تحقيق تغيير فارق في خطوط ومساحات الاستحواذ لصالح الانفصاليين في جمهوريتي “لوهانسك” و”دونتستك”.
فقد بدأت العمليات العسكرية في 24 فبراير، والانفصاليون الموالون لروسيا يسيطرون على ما يقارب 40% من إجمالي مساحة الجمهوريتين الإدارية، واليوم بعد هذه الحملة الضخمة والجهد العسكري الكاسح للجيش الروسي، لم تتبدل نسب سيطرة الانفصاليين والاستحواذ، وفق أقصى تقدير، سوى الوصول لنسبة 65%، عبر الاستيلاء على بعض القرى والبلدات المحدودة التي لم تمكّن الجيش الروسي من الخروج وإعلان نصر جزئي في إحدى الجبهات، فضلاً عن أنها تتمتع بخصوصية كونها الجبهة التي أشعلت الخلاف والعداء مع الدولة الأوكرانية.
لهذا يتصور رغبة الرئيس بوتين في إغراقها بهذا النوع غير التقليدي من المقاتلين القادرين، وفق تقدير الجيش الروسي، على الخوض في مستنقعاتها وغاباتها، وصناعة أكبر قدر من الترويع والإرهاب لأهالي القرى والمدن الصغيرة، العصيّة حتى الآن على الاستسلام، كما يمكن تصور أن تمرُّس المكون الأوكراني في هذه المنطقة، التي تخوض حرباً ضد المكون الموالي لروسيا منذ 2014 شكّل حجر عثرة أمام تحقيق تغير فارق رغم الدعم العسكري الروسي الصريح في هذه الجولة.
ربما هذه مسببات منطقية، تدفع الرئيس الروسي لإلقاء هؤلاء المرتزقة البائسين إلى حوض «الدونباس»، تلك المحرقة المرشحة لأن تطالها فظائع قادمة، المكون الأجنبي قد يمثل فيها عنصراً مثالياً من وجهة التقدير الروسي، لكن الحقيقة أن المشهد على الجانب الآخر لا يقل خطورة، ليس بالحديث المتنامي عن «الفيلق الدولي» الأوكراني وحده، بل أيضاً على نفس هذا المسرح العملياتى الذي تشكّل خلال سنوات الصراع السابقة، ويطل اليوم بقوة، ويمثل إحدى القوى الضاربة التي يراهن عليها الرئيس زلينسكى.
المكون الأول «كتيبة آزوف» التي تشكلت في مايو 2014، فهي ابنة شرعية يمينية متطرفة وُلدت من رحم الصراع في «الدونباس»، اكتسبت شهرتها بعدما استعادت السيطرة على مدينة «ماريوبول» ومينائها الاستراتيجي من الانفصاليين بعد أشهر معدودة من تأسيسها.
مرجعيات «كتيبة آزوف» الأيديولوجية لها ارتباط ببعض العقائد النازية التي تؤمن بتفوق البيض، لذلك يستخدم الرئيس الروسي وصم نظام كييف بالنازيين الجدد، وعد سبباً رئيسياً للعملية الروسية برمتها اجتثاث هذا التيار من حكم أوكرانيا، بعدما حظي هذا المكون العسكري غير التقليدي بتمويل سخى وتسليح متطور، قام به رجال أعمال مقربون من دوائر الحكم الأوكراني، ومن ثم دمج عناصرها في الحرس الوطني ليصيروا جنوداً رسميين للدولة، ولا يقتصر الأمر على «كتيبة آزوف»، فهناك أيضاً «كتيبة آيدار» التابعة للقوات البرية الأوكرانية، أنشئت في التاريخ نفسه تقريباً وتؤمن بذات العقيدة اليمينية القومية.
رغم محدودية عدد أعضائها (1000 مقاتل) بالمقارنة بآزوف، إلا أن اسمها برز بقوة مؤخراً بعد ربطها بالقصف الروسي على «قاعدة يافوريف» في أقصى الغرب الأوكراني، في عملية هجوم صاروخي عابر (30 صاروخاً) شكّل صدمة مباغتة لكييف، بالنظر إلى موقع القاعدة التي تبعد عن الحدود البولندية بنحو 25 كم، ويسميها الأوكرانيون بـ”المركز الدولي لحفظ السلم والأمن الدولي”، أيضاً تُستخدم تلك القاعدة العسكرية فى التدريب الذي اشترك في البعض منه مع الجيش الأوكراني، قوات من «حلف الناتو» قبيل أشهر من بدء العملية الروسية الأخيرة، مما سمح لموسكو أن تصفها بتبعيتها للحلف على أراضى أوكرانيا. الثابت فيما يخص «كتيبة آيدار» أن عدداً ليس بالقليل من عناصرها كان موجوداً هناك منذ بدء القتال، حيث أوكل لهؤلاء مهمة استقبال عناصر المتطوعين فى الفيلق الدولي، فضلاً عن استخدام القاعدة فى تخزين الأسلحة القادمة من الدول الغربية.
المؤكد أيضاً أن الاستهداف الروسى لتلك المهام بمثابة حزمة رسائل مجمّعة لكافة الأطراف المنخرطة فى هذا الأمر، فضلاً عن منسوب الخطر الذى بدأ يلوح بقوة، خاصة مع استخدام الطرفين لهذا النوع غير التقليدى من المقاتلين القادرين على صناعة أكبر قدر من الفوضى والتعقيد فى أزمة لا تخلو من أى منهما بأى حال!
.
رابط المصدر: