- خضر عباس عطوان
- علي حسن نيسان
ثانياً: اتجاهات الصراع
إن النقطة أعلاه، وإن دلت على بدايات تحول في الهرمية الدولية من النمط القائم على الأحادية في القطاع العسكري بعد عام 1989، إلى نمط جديد يؤشر إلى أن هناك تعددية مفرطة في الجوانب الثقافية والاقتصادية والصناعية، وبدأ العالم يؤشر إلى وجود اتجاه نحو التعددية في القطبية العسكرية، وإلى وجود فواعل من غير الدولة القومية، يمكنها أن تؤدي أدواراً موازية للأدوار التي تقوم بها، وربما أكثر فاعلية منها.
إن هذا التحول صار يدفع بالعالم إلى الخيار بين الآتي [12]:
– استمرار مسايرة الولايات المتحدة في قيادتها للنظام الدولي، وعدم الرغبة في معارضتها أو الوقوف ضدها، بانتظار تآكل قوتها، وبيان ضعفها.
– أو العمل على تسريع سقوطها عالمياً وإقليمياً، أو في أقل تقدير إضعافها، عبر إشغالها بأكثر من منطقة صراع وأزمات إقليمية، وهو ما اتضح بالاستنزاف الذي أصابها في أفغانستان والعراق، ثم عدم قدرتها على إدارة ملف إيران النووي، أو إدارة الأزمة السورية، واتجاه الرئيس أوباما في شباط/فبراير عام 2016 إلى إعلان أن لا مصلحة للولايات المتحدة في الانخراط، كطرف محلي، في صراعات الشرق الأوسط، وأن الجهد الأمريكي سينصب على منطقة شرق آسيا، حيث مركز ثقل العالم في السنوات المقبلة [13].
بعبارة أخرى، إن العالم أمام مرحلة انتقال منذ عام 2000، وعلى الرغم من أن الجهد الأمريكي انصب على تأخير ظهور المنافسين والسعي إلى إعلان قيادتها على العالم بجهد عسكري عام 2001، وهو ما ظهر بوضوح في السياسات الأمريكية الشرق الأوسطية، إلا أن الأمر انتهى إلى فشل واضح؛ إذ ارتفعت كلفة الحفاظ على المكتسبات العسكرية، نتيجة ارتفاع كلفة حفظ المصالح الأمريكية المنتشرة عالمياً، وهو ما سمح بأن تتجه دول مثل روسيا والصين إلى تسريع تنمية قوتها، ونحو خلق مجالات نفوذ إقليمية، كما إلى معارضة الولايات المتحدة في بعض المناطق، وهو أمر تسبب بحدوث مجالات للصراع والصدام معها، على نحو بات يدفع إلى القول، إن العالم اليوم مقبل على صراعات دولية وحروب باردة جديدة.
لقد ناقشت قوى إقليمية مسألة الخروج على الإرادة الأمريكية، مثل تركيا، عقب التقاطع في السياسات بشأن إدارة الملفات الإقليمية، وعقب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة فيها صيف 2016، لتضاف إلى دول أخرى، مثل إيران، في معارضة فرض الإرادة الأمريكية في إدارة الملفات الإقليمية والعالمية[14].
إن ما تقدّم، فتح العالم على عدة صراعات، بعضها عالمي وآخر إقليمي وآخر محلي، كون الولايات المتحدة كانت قد وضعت في ذهنها عام 2001 التحول بالصراعات من المستويات العالمية والإقليمية إلى المستويات المحلية، وصراعات الهوية والانتماءات الأولية، كونها ستقود إلى انسحاب عدة دول من التفاعلات الدولية، وتتجه إلى التفكك، وخلق بيئات اضطراب إقليمية واسعة، تسمح للولايات المتحدة بالتمدد عالمياً، في حين ستقود إلى تورط القوى الإقليمية في تلك الصراعات. وهذا النهج يمكن تتبعه في ما جرى من أحداث في المنطقة العربية بعد عام 2003 صعوداً.
إلا أن الأمر اتجه إلى نتيجة مغايرة؛ فقد خلقت الولايات المتحدة بيئة الفوضى في الشرق الأوسط، وبيئة الفوضى ارتدت على المصالح الأمريكية بمعدلات مرتفعة، ونجحت قوى إقليمية في توسيع النفوذ على حساب الحضور الأمريكي. وقد نجحت روسيا في توسيع حضورها عالمياً، بسبب الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط، كما اتجهت الصين إلى تغيير في مسار استراتيجيتها الإقليمية باتجاه توسيع عوامل قوتها وتسريع حضورها في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، قبل أن تصل إلى غاية هدفها اتمام الإصلاحات لعام 1978 والتي تنتهي عام 2030، وهو ما يعني دفع الدول الأخرى إلى تغيير استراتيجياتها، لاستنهاض عوامل قوتها والوصول إلى مرحلة القدرة على منافسة الولايات المتحدة.
إن العالم اليوم، قد خرج من الأنماط التقليدية للصراع، ليدخل ضمن منطق الصراع المعولَم، أي الصراع في ظل عالم مفتوح النهايات، عالم يمكن في أي لحظة أن تنتصر قوى صغيرة فيه على قوى كبرى في النظام الدولي؛ إما نتيجة القيود على استخدام القوى الكبرى عناصر قوتها وإما نتيجة الكفاية والملاءَمة في استخدام القوة الصغرى لعناصر القوة الموجودة، وخصوصاً أن عالم الأسلحة التي تستخدم في صراع القوى، صارت تتجه لتعتمد على المعلوماتية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والدبلوماسية، وتأليب الرأي العام وغيرها.
وتحليل هذه الإشكالية الجديدة للصراع الدولي، يفيد بالآتي:
إن العالم اليوم يتجه نحو مزيد من العولمة، أي التداخل بين الأبعاد والمستويات، وصعوبة الفصل بين خط سيادي وآخر، فما كان منه عالمياً يتجه نحو المستويات الإقليمية ويؤثر فيها، ويؤثر في المستويات المحلية، والعكس صحيح، وهو ما أظهرته الأحداث في سورية، كونها سمحت بوجود أكثر من طرف في تداخل واسع للأبعاد لتفرض توازنات من غير الممكن التأثير فيها بطريقة الحسم العسكري لأنها ستؤثر في التوازن الدولي ككل.
إن العولمة هي كفكرة بسيطة تفيد بتداخل في الحدود وأحياناً في اختفائها وتسارع في الأحداث والتفاعلات، على نحو لا يمكن معه القول بوجود الدولة القومية أو الوطنية، كوحدة وحيدة في التفاعلات الدولية، إنما هذه الوحدة اتجهت إلى خفض حضورها الاقتصادي في الحياة العالمية، حتى إنه يتوقع أن تتجه إلى خفض حضورها العسكري، كون العلاقات الدولية لا تتحمل تكلفة خوض صراعات عسكرية واسعة، بسبب تداعيات توازن الرعب؛ فالصراعات تتجه نحو المناطق غير الحساسة، مثلاً نحو العلاقات الاقتصادية، ونحو مجالات الحرب الاستخبارية، ونحو حروب الاستنزاف بالوكالة. وفي عالم معولم كهذا أي رفع لسقف الصراعات عن هذه المستويات، سيفيد أن العالم سيتجه إلى سباق تسلح لا يمكن كبحه، وخصوصاً أن التطور التكنولوجي سيجعل مستوى ونوع الأسلحة التي ستُصنع قادرة على التأثير في كل الوجود الإنساني، كون الحروب لم تعد فقط في مجال أسلحة الدمار الشامل، إنما صارت التكنولوجيا قادرة على شل الحياة الاجتماعية، وحتى على إنهاء الحياة بكل مظاهرها، وربما من دون الحاجة إلى دخول حروب مباشرة، وأكثر الوسائل القابلة للاستخدام هي التأثير في عقد الاتصالات والتحكم بالمعلومات، وضرب أنظمة القيادة والسيطرة التابعة للخصوم [15].
في بيئة كهذه، إن نتائج أي صراع لا تقاس وفقاً لحجم ما تمتلكه الدول من قوة عسكرية ومن انتشار عسكري، وإنما تتعلق بعدة عوامل، أهمها المباغتة لإجهاض الطرف الآخر. كما أن التحكم بعوامل القوة المعلوماتية، يمكن أن يخدم دولاً صغرى أو وحدات من غير الدول، ويجعلها تحقق نتائج مهمة في علاقات الصراع مع دول كبرى. كما أن دولاً كثيرة، أصبحت لا تفضل مجرد التفكير بخيار الصراع المسلح، وإنما في اعتماد سياسات واستراتيجيات تشل الطرف الآخر في مسائل مثل: القدرة على إدارة الدولة، ونظم المعلومات والسيطرة والاتصالات، أو تحريك أقليات مهمة في داخل الدولة إلى الضد من شرعية الاستمرار تحت حكم الدولة القائمة، أو الاتجاه إلى ضرب الانسجام بين المواطنين والحكومة، وغيرها من استراتيجيات يمكن أن تستخدم في علاقات الصراع الحديثة [16].
إن الولايات المتحدة وروسيا والصين، على المستوى العالمي، ودول مثل إيران وتركيا وإسرائيل والهند وغيرها، على المستوى الإقليمي، وقوى لا تمثل دولة، مثل التنظيمات الإرهابية، وتنظيمات جهادية وحركات مقاومة وغيرها، على المستوى المحلي أو العابر للحدود الإقليمية، وكيانات تصارع من أجل الظهور بمرتبة دولة، مثل الأكراد وغيرهم، كلها قوى حية، تتجه إلى التعامل ليس مع الأنماط التقليدية للصراعات الدولية: تقاطع إرادات بين الدول يدفعها في أحيان إلى اعتماد استراتيجيات توظيف الموارد واستخدام المواجهة[17]، فتلك الاستراتيجيات لا يمكن أن تصلح في عالم اليوم؛ فأي مواجهة تقليدية محسومة نتائجها لمن يمتلك قوة عسكرية أكبر، إنما الحديث هو عن كيفية التأثير في إرادة الطرف الآخر الذي يستهدف في علاقات الصراع، فنجد مثلاً أن الفارق كبير جداً بين مستوى إنفاق الولايات المتحدة وروسيا عسكرياً، وفي الناتج القومي، إلا أن روسيا أعاقت قدرة الولايات المتحدة في مجال إتمام إقامة الدرع الصاروخية حول أوروبا، كما أعاقت جهدها للتعامل مع الأحداث في سورية، وقبلها أعاقت حصول الأمريكيين على شرعية أممية في التعامل العسكري مع البرنامج النووي الإيراني. كذلك فإن إيران أعاقت الولايات المتحدة في إتمام مشروعها بتفكيك الشرق الأوسط، بما يخدم المصالح الأمريكية؛ فالقوى المتوسطة والصغرى، والقوى ما دون الدولة، صارت تركز على استراتيجيات الاستنزاف وتوريط الطرف الأقوى، لدفعه إلى معركة استنزاف، وتعطيل قدرته على استخدام عوامل قوته.
إن استراتيجيات كهذه، لا يمكن تطبيقها ما لم تكن هناك:
1 – بيئة تتيح ذلك، وهي متعلقة بالانتقال من كون التأثير منحصراً بالقوة العسكرية إلى كونه متعلقاً بعوامل قوة شمولية (القدرات)، مع تركيز أكبر على القوة المعرفية والتكنولوجية.
2 – عوامل قوة انتشرت بما يمكّن الطرف الذي يستخدم استراتيجيات إدارة الصراع من اللجوء إليها، والتأثير في العلاقات الدولية بأحد مستوياتها: العالمية أو الدولية أو الإقليمية؛ فضلاً عن المحلية.
ثالثاً: التحولات المتوقعة في النظام الدولي
نتيجة الحقائق المتقدم ذكرها، وما تسببت به الأزمات المتكررة في العراق، ثم مع إيران وكوريا الشمالية، ثم في سورية وأوكرانيا، صار العالم يندفع اليوم بعيداً من تكريس القطبية الأمريكية؛ فحقائق القوة أن العالم صار متعدد القطبية نسبياً على الصعيد العسكري، وبصورة واضحة على الصعد الاقتصادية والثقافية، وسيزداد الاتجاه نحو التعددية القطبية، حتى نجد أن العالم عند مستوى عام 2030 سيكون عالماً فيه القوى الآتية على قمته: الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان والهند والبرازيل، وسنجد أن هناك نظماً إقليمية تدار من جانب قوة واحدة بارزة لها تأثيرها الدولي، مثل تركيا وجنوب أفريقيا. وهذا الأمر تقدم له دراسات متعددة؛ فالنظام الذي يحكم العالم، استناداً إلى تسويات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والممثل بمجلس الأمن وحق الفيتو، لا يمكن أن يستمر إلا إذا اتفق مع حقائق القوة الجديدة، وإلا فإنه سيتفكك بسرعة وسيجد العالم نفسه أمام دول تنسحب من الأمم المتحدة، وتركز على تنظيمات أخرى تجد نفسها فيها، مثلاً منظمة شنغهاي، ونادي بريكس للصين وروسيا، وغيرها للدول الأخرى.
أما القول إن الهيمنة الأمريكية يمكن أن تستمر، متمثلة بوجود مشروع سياسي، تستخدم فيه الولايات المتحدة القوة عسكرياً، والضغوط السياسية والاقتصادية، وحلف الناتو، والتحالفات الثنائية، من أجل الاستمرار على قمة الهرم الدولي، يمكن القول إن طرحاً كهذا يمكن أن يستمر، إلا أنه لن يكون قادراً على أخذ مديات عام 1990 و2001، كون الدول المنافسة أخذت تتجه إلى تشكيل نظمها الإقليمية، بما يناسب مصالحها: روسيا وشرق أوروبا، وروسيا والقوقاز، والصين وجنوب شرق آسيا، والدول المطلة على شرق آسيا، وغيرها. وقد ظهر حلف الناتو نفسه بموقف العاجز عن التصرف في الأحداث السورية، وترك تركيا بلا خيارات، حتى إنه أظهر تدخلاً في الشأن التركي صيف عام 2016، على نحو دفع تركيا إلى إحداث تغيير في استراتيجيتها والانفتاح على روسيا وإيران[18]، بمعنى أن حلف الناتو الذي اعتنق اتجاه التوسع أفقياً وعمودياً في القارة الأوروبية عام 1999، واتجه إلى الانفتاح على العالم عام 2004 عبر توسيع علاقات الشراكة، وجد نفسه غير قادر على الاتفاق على إدارة أحداث إقليمية مهمة تقع على تخومه الجنوبية وترك المبادرة لروسيا فيها. ومن ثَمَّ، فإن قدرة الولايات المتحدة على الاستعانة به مستقبلاً، غير قابلة للتصور ضمن حدود عليا، إنما المسألة نسبية وضعيفة الاحتمال.
يبقى أن تظهر الولايات المتحدة حدثاً عالمياً، على غرار حدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، تدفع معه إلى استقطاب العالم حولها ودفع الدول الأخرى إلى تجديد منظورها للقيادة عالمياً، إلا أن التفكير بخطوة كهذه، سيكون من باب المغامرة الخطرة، لأنها ربما ستنطوي على استخدام سلاح دمار شامل على مصلحة عالمية مهمة.
قد تلجأ الولايات المتحدة إلى خيارات أخرى، ومنها مثلاً استخدام الشركات الأمنية في أداء عمليات شبه عسكرية ضد منافسين، أو ربما القيام بتطوير حروب معلوماتية أو لأنواع جديدة من الحروب قائمة على مزاوجة عوامل طبيعية وتكنولوجية: فيضانات أو زلازل… على نحو تجهد به موارد خصومها وتستنزفهم [19].
ومن ثَمَّ، فإن خلاصة القول، إن العالم يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، وربما عالم اللاقطبية إذا ما وصل الانتشار النووي فيه إلى مرحلة لا تستطيع فيه الدول الكبرى أن تضبط تفاعلات النظام الدولي، على مدى العقد المقبل. أما ما بعده، فإن العالم سينفتح على تعددية قطبية واسعة من دون الحاجة إلى امتلاك السلاح النووي؛ فالقوة تغيّرت في معناها، وصارت تركز على الاقتصاد والتكنولوجيا والمعرفة، أكثر مما تركز على القوة العسكرية. كما أن الدول أضعفت في عالم ينفتح على مؤسسات العولمة والعالمية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، واحتمالات التوسع بعضوية مجلس الأمن ليكون أقرب إلى الحكومة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات… أي أننا هنا أمام عالم لن تتملك الولايات المتحدة فيه عوامل قوة قادرة على إحداث حسم عالمي، إنما يمكنها التأثير والمشاركة في إدارة الأحداث العالمية، والانتصار في حروب وصراعات إقليمية محدودة، ويمكن فيها أيضاً كبح الولايات المتحدة عبر تحالفات دولية – إقليمية، على غرار ما حدث في سورية، عندما وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة العجز عن إدارة الأحداث أو التعامل معها.
وهنا سيكون لدينا الآتي:
1 – من حيث التفاعلات الدولية، يتوقع أن يتجه بعض من الصراعات الدولية للتنشيط، وأن يظهر جلياً في النظام الدولي، أو في النظم الإقليمية الفرعية، وبخاصة في شرق آسيا وجنوبها، وفي الشرق الأوسط، وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغبة من بعض الدول في أن تأخذ مساحة تفاعل ومكانة وأدواراً دولية أوسع من المتحقق الآن، وهو أمر متصور في سلوك القوى الآتية: الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل والهند خلال العقدين المقبلين.
2 – الأطراف الفاعلة، ويتوقع أن تتجه وحدات دولية متعددة إلى ممارسة أدوارها، وعلى الأقل في النطاق الإقليمي، بمعنى أن هناك صعوبة في اختيار الاتجاه نحو الانكفاء في عالم معولم، والاتجاه هو نحو تنشيط كل عوامل الفاعلية بقصد احتلال مكانة دولية أو إقليمية خلال العقدين المقبلين، وأكثر النظم الإقليمية التي ستظهر دينامية ويغلب فيها الصراع، هو الشرق الأوسط.
هذه الدينامية ستقود إلى نتائج مهمة، ألا وهي أن حركة الصراع الدولي بأبعاده العالمية والدولية والإقليمية، ستجعل أغلب دول العالم ترفع من مقدار انخراطها بتفاعلات نشطة، عالمياً ودولياً وإقليمياً، ومن ثَمَّ، ستولّد دينامية مرتفعة، تعيد معها احتساب القوة الداخلة في تعريف الهرمية والقطبية الدولية، لذلك، ستجد دول العالم نفسها أمام حقيقة، مفادها أن هناك اتجاهاً حاداً نحو عالم اللاقطبية، أي عدم وجود مركز للقوة عالمياً، إنما سنكون أمام عالم تسوده مراكز إقليمية لها تفاعلات عالمية؛ فالاتحاد الأوروبي من خلال أوروبا، وروسيا من خلال شرق أوروبا والقوقاز، والصين من خلال جنوب شرق آسيا، واليابان من خلال شرق آسيا، والهند من خلال جنوب آسيا، وجنوب أفريقيا من خلال أفريقيا جنوب الصحراء، والبرازيل من خلال أمريكا الجنوبية، كلها أقطاب عالمية، تستطيع الوصول إلى أي تفاعل عالمي وتشارك فيه أو تؤثر فيه بطريقة أو بأخرى. ولا يمكن الحديث عن حامل ميزان أمريكي على غرار عصر السلام البريطاني، كون التوازن سيفرض نفسه من خلال منطق الكلفة المصاحبة لأي صراع، وهو منطق سيدفع الصراعات لأن تكون داخل النظم الإقليمية القارية الكبرى، أكثر مما ستكون على المستويات العالمية والدولية الشمولية. أما ما يتعلق بالشرق الأوسط، فلا توجد حتى اليوم قوى يمكنها أن تكون دولية وكبرى، إنما ما زالت تقع في مصاف القوى الإقليمية، والكابح الرئيس لبروز قوى كهذه، هو التداخل بين الأبعاد الداخلية (المفككة أحياناً لاستمرار الدولة/ الوحدة الوطنية) والإقليمية (التنافس السلبي) والدولية (التدخل الخارجي، وانكشاف الدول الشرق الأوسطية أمام المصالح والسياسات الدولية).
عموماً، إن التفاعلات التي صارت تسود في العالم اليوم، يتوقع أن تدفع به نحو مزيد من العنف خلال السنوات المقبلة، لكن عند المستويات الإقليمية وليس العالمية الكلية. وفي أقل تقدير الاتجاه المتوقع هو رفع سقف صراعات جديدة، ربما ستقود إلى توسيع سقف الصراعات الدولية والإقليمية، إلا أنها ستكون أكثر تركزاً عند المستويات الإقليمية، منه عند المستويات العالمية.
خاتمة
لقد بيّنا التغير القائم والمتوقع في معنى ومضمون واستخدامات القوة عالمياً، وكيفية تأثير ذلك في التحول في الصراع الدولي من صيغه التقليدية؛ من صراع دولة مع دولة أخرى، إلى كونه صراعاً، يمكن أن يستوعب ويستخدم كل عوامل القوة، وفي كل المستويات: عالمية ودولية وعابرة للقومية ومحلية. وهذا الأمر ينذر بحصول تغيرات في النظام الدولي، لأنه يظهر ضعف الولايات المتحدة في إدارة ملف العلاقات الدولية، ويدفع على نحوٍ متسارع إلى بروز عالم سيسوده مرحلياً تعددية قطبية، وسيندفع بعدها نحو عدم وجود مركز للتفاعلات الدولية (عالم لاقطبي).
في الختام، توصلنا إلى الاستنتاجات الآتية:
1 – إن العالم يشهد مزيداً من التحول في معنى القوة الأكثر قدرة على التأثير عالمياً من كونها متعلقة باستخدامات القوة العسكرية لتكون أكثر تركزاً عند القوة غير التقليدية: تحالفات، المعرفة، التكنولوجيا، الاقتصاد…
2 – إن القوة أصبحت تنتشر عالمياً، ولا يوجد تركيز لها بيد دولة واحدة، ويتوقع أن تصل إلى مستوى لا يمكن معه القول بوجود حالة قطبية محددة، نتيجة الانتشار المفرط في عوامل القوة عالمياً.
3 – إن العالم يتجه نحو مزيد من التوسع في الوحدات التي تمتلك عوامل وعناصر القوة، وعدم بقاء احتكار الدولة لها، وهو عالم يتجه إلى أن ترتبط تلك الوحدات بدفع العالم نحو العالمية والعولمة أكثر من ارتباطه بخاصية العالمية. وعالم اليوم يمهد للتوسع بظهور وحدات ستكون في الأغلب، أكثر فاعلية ودينامية من الدولة في التعامل العالمي أو المحلي مع مصالحها.
4 – إن الصراعات الدولية اليوم تعيش حالاً تتداخل فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والعالمية، على نحو يمكن أن تتورط فيها القوى الكبرى والإقليمية بصراع إقليمي أو محلي موجود في منطقة تقاطع مصالح دولية وإقليمية. وهو ما ظهر بوضوح في حالة سورية، التي تداخلت فيها الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية، على نحو ضاعف من حجم المأساة في هذا البلد.
5 – إن العالم يعيش مرحلة التحول نحو التعددية القطبية التامة، والأكثر توقعاً هو أننا سنشهد وجود مراكز إقليمية تهيمن عليها القوى الكبرى حالياً، أي أن النظام الدولي سيتجه إلى توسيع انتشار القوة إن كلاً من القوى الكبرى ستتجه إلى بسط قوتها ووجودها في نظامها الإقليمي، لأن النظام العالمي سيكون أكبر مما تستوعبه قوة واحدة، وحتى الولايات المتحدة تراجعت لتتخذ مسار الانتقاء من بين الأقاليم في التفاعلات التي تديرها، ومثالها الاتجاه على تركيز تفاعلاتها في شرق آسيا وإضعاف مكانة الشرق الأوسط.
6 – إن أكثر الصراعات المتصورة عالمياً في السنوات المقبلة، هي صراعات داخل النظم الإقليمية، كون تكلفة الصراعات الكبرى ستكون مرتفعة في ظل توافر التكنولوجيا وانتشار عوامل القوة عالمياً.
7 – إن الشرق الأوسط سيعاني التغير الحاصل في علاقات القوة، وفي اتجاهات الصراع، وفي تداخل الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، كون التفاعلات تدار بمنطق التنافس السلبي، المفتوح على التدخل الدولي، وفي غياب مركز قيادة إقليمي، أو منظمة إقليمية جامعة، فهو ما سيجعل هذه المنطقة مقبلة على تحمل تبعات صراع متعدد المستويات، ومن ضمنه تحمل جانب من الصراعات الدولية بالوكالة.
في الختام، لقد حققنا الغايات المتمثلة برصد علاقات القوة والصراع والهرمية الدولية، والتعامل مع مشكلة اللايقين بمخرجات علاقات الصراع المقترن بانتشار القوة عالمياً، وستتحدد بكون التكلفة المترتبة على أي صراع، ستقود إلى دفع الصراعات إلى التعلق بالأنظمة الإقليمية، وليس بالنظام الدولي. وإن مزيداً من الانتشار في عوامل القوة مستقبلاً، سيدفع إلى إحداث تحولات في بنية النظام الدولي، حتى وصولها إلى مرحلة التعددية القطبية ابتداءً، ثم إلى مرحلة اللاقطبية ثانياً.
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 472 في حزيران/يونيو 2018.
(**) خضر عباس عطوان: أستاذ في جامعة النهرين – بغداد.
(***) علي حسن نيسان: أستاذ في الجامعة العراقية – بغداد.
[1] Michael Barnett and Raymond Duvall, «Power in International Politics,» International Organization; no. 59 (Winter 2005), pp. 40 – 43.
[2] جوزيف س. ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي (الرياض: العبيكان، 2007)، صفحات متفرقة.
[3] Dinah Walker, «Trends in U.S. Military Spending,» Council on Foreign Relations, Washington, DC (July 2014), pp. 2 – 3.
[4] روسيا، مؤشرات وإحصاءات البنك الدولي (استخرج بتاريخ 12 تموز/يوليو 2016)،
<http://data.albankaldawli.org/country/russian – federation>.
[5] International Institute for Strategic Studies, The Military Balance 2016 (London: Routledge, 2016), <https://www.iiss.org/en/publications/military%20balance/issues/the-military-balance-2016-d6c9>.
[6] Harry Harding, «Has U.S. China Policy Failed?,» The Washington Quarterly, no. 38 (Fall 2015), pp. 96 – 99.
[7] Brad Glosserman, Peak Japan and Its Implications for Regional Security (Australia: Australian Strategic Policy Institute Limited (ASPI), 2016), pp. 15 – 18.
[8] «تقرير: آسيا… محرك النمو العالمي مع توقعات بتعافٍ اقتصادي متسارع،» مجلة الخليج الاقتصادي، (الشارقة) (كانون الثاني/يناير 2011)، <http://www.alkhaleej.ae/economics/page/f7dc9444-7d76-4c90-ba54-c0f89d7aaed4>.
[9] Zait Yılmaz, «State, Power, and Hegemony,» International Journal of Business and Social Science, vol. 1, no. 3 (December 2010), pp. 201 – 205.
[10] Kira Petersen, «Four Types of Power in International Relations Coercive Power, Bargaining Power, Concerted Power, and Institutionalized Power,» Washington, International Political Science Association (July 2012), pp. 4 – 10, <http://paperroom.ipsa.org/papers/paper_17484.pdf>.
[11] Vipin Narang, «Nuclear Strategies of Emerging Nuclear Powers: North Korea and Iran,» The Washington Quarterly, vol. 1, no. 38 (Spring 2015), pp. 77 – 82.
[12] Alexandra de Hoop Scheffer [et al.], «The Future of Us Global Leadership Implications for Europe Canada and Transatlantic Cooperation,» Research Paper, no. 4, Chatham House, The Royal Institute of International Affairs (May 2016), pp. 4 – 8, <https://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/publications/research/2016-05-10-future-us-global-leadership-hoop-scheffer-kinane-quencez-wickett.pdf>.
[13] ديفيد بولوك، «الشرق الأوسط يلتقي الشرق الأقصى: لم لا يستطيع الرئيس الأمريكي المقبل «الالتفاف نحو آسيا»؟،» معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، <http://www.washingtoninstitute.org/ar/fikraforum/view/mideast-meets-far-east-why-the-next-u.s.-president-cant-pivot-to-asia>.
[14] سونر چاغاپتاي، «هل العلاقات الأمريكية – التركية آخذة في التداعي؟،» المرصد السياسي، العدد 2367 معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 14 آب/ أغسطس 2016، <http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/is-the-u.s.-turkey-relationship-crumbling>.
[15] Neil Bouhan, «Trends in U.S. Military Spending,» Council on Foreign Relations, Washington, DC (June 2011), pp. 3 – 6.
[16] Stefan Wolff, «The Study of Conflict in Political Science and International Relations,» 9 October 2015, pp. 2 – 4, <http://www.stefanwolff.com/>.
[17] منير بدوي، «تحليل الصراع الدولي،» في: علي الدين هلال دسوقي ومحمود إسماعيل محمد، محرران، اتجاهات حديثة في علم السياسة (القاهرة: المجلس الأعلى للجامعات، 1999)، ص 344 – 350.
[18] أحمد عواد الخزاعي، تركيا: الانقلاب والانقلاب المضاد (بغداد: مركز الرافدين للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2016).
[19] Matthew O. Jackson and Massimo Morelli, «The Reasons for Wars: An Updated Survey,» in: Christopher Coyne and Rachel L. Mathers, eds., The Handbook on the Political Economy of War (Stanford, CA: Stanford University, 2009), pp. 19 – 24.