مع دخول الرئيس الأمريكي جو بايدن عتبة البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2021 اتخذت بعض الدول العربيّة جملة قرارات حملت معها تغيرات جديدة في توجهاتها الخارجية، وكسرت جانباً من حالة الجمود السياسي التي كانت سائدةً في المنطقة العربية، حيث انعقدت القمة ال 41 لمجلس التعاون الخليجي في مدينة العلا السعودية في 5 يناير 2021، وشهدت مرحلة ما قبل القمة العديد من الاتصالات والمباحثات والمناقشات وخاصة بين قطر والسعودية رغبةً من الطرفين في حل النزاع الذي تسبب بتصدّع البيت الخليجي، وترتب عليه صِدَامات متعاقبة أثّرت على المنطقة بالمجمل والتي دامت لثلاث سنوات متواصلة، بعد أزمة حصار قطر.
وبما أنّ السعودية حليفة مصر الإستراتيجية كان لا بدّ من انفراجٍ في العلاقة بين قطر ومصر بالتزامن مع حل النزاع الخليجي، الأمر الذي يُفسّر بأنّه توجّه دولي لإعادة النظر في مشاكل الشرق الأوسط، التي كان أبرزها خلاف مصر والسعودية مع قطر.
وعلى ما يبدو أنّ الولايات المتحدة وراء ما يجري في المنطقة، وبالتالي يمكن اعتبار خطابات الوعيد والتهديد الأمريكية كانت الدافع الأكبر لسلسلة التغيرات التي شهدتها المنطقة وخريطة التحالفات والتفاعلات التي تشهدها.
وفي سياق هذه التغيرات، شهدت العلاقات “المصرية القطرية” تطوراً لافتاً، رغم الرهانات الإعلاميّة التي استبعدت هذا التقارب بعد تبادل الاتهامات عبر وسائل الإعلام لكلا الطرفين، والتي استمرت لعدة سنوات بعد انقلاب 2013 الذي شهدته مصر، وكانت المصالحة الخليجية فرصة للنظام الحاكم في مصر لإحياء اتصالاته مع قطر من جديد، خصوصاً بعد التوقيع على “بيان العلا”.
وبدأ التقارب بين القاهرة والدوحة من خلال عدة رسائل إيجابيّة بهدف عودة العلاقات الدبلوماسيّة وطي صفحة الخلافات، وكان أول لقاء رسمي جمع البلدين في الكويت بتاريخ 23 فبراير/ شباط 2021، حيث أُجرِيت مباحثات حول الآليات والإجراءات المشتركة لتنفيذ المصالحة، ثم تلا اللقاء زيارة وزير خارجيّة قطر لمصر للمرة الأولى في شهر مارس/ أذار، حاملاً معه “رسالةً خطيّة” إلى السيسي مَفَادُها الحرص على تعزيز ودعم العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفي السياق يمكن القول أنّ حاجة مصر للمصالحة مع قطر تعود لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسيّة كونها تعاني من تراجع الاستثمار الأجنبي، وتفاقمت الأوضاع سوءاً بسبب جائحة كورونا، وتعزيز العلاقات مع قطر يمكن أن يساهم في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر، خاصة مع وجود أكثر من ربع مليون مصري يقيمون في قطر ويمكن أن تساهم زيادة تحويلاتهم في دعم الاقتصاد المصري، عدا عن الاستثمارات القطريّة سواء الحكومية أو الخاصة والتي واجهت العديد من التحديات خلال السنوات السبع الماضية، ولكنها لم تتوقف مثل شركة الديار القطرية التي حافظت على مشروعاتها البالغ مجموعها 3 مليارات دولار، كما ساهمت شركة قطر للبترول في إطلاق الشركة المصرية للتكرير بقيمة 4.4 مليار دولار وذلك في عام 2019.
إذاً مصر هي المستفيد الأكبر من مصالحتها لقطر واستئناف العلاقات الدبلوماسيّة سيفتح مزيداً من الدعم الاقتصادي والاستثمار في العقارات، والسياحة والطاقة والبنوك، وربما على مستوى الصناعة العسكرية عبر شركة برزان القابضة المملوكة لوزارة الدفاع القطرية.
انعكاسات التقارب المصري القطري على المنطقة:
التقارب المصري القطري كان له انعكاسات إيجابيّة ليس فقط على مستوى البلدين بل على العديد من ملفات المنطقة بالعموم، لأنّ كلا البلدين يمارس دوراً إقليميّاً بارزاً يستطيع به التنسيق بين المحاور الإقليميّة التي حددت خارطة التّحالفات الأخيرة، حيث قامت مصر وقطر بدور كبير أثناء العدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى وقطاع غزّة، في “الوساطة” بين حماس و”إسرائيل” من أجل وقف إطلاق النار، وكانت القضيّة الفلسطينيّة نقطة جوهرية في التقاء الطرفين (القاهرة والدوحة) وتعزيز الاتصالات المباشرة فيما بينهما.
ويرى مراقبون أنّ سبب عودة “مصر” لممارسة دور في وقف التّصعيد على غزّة يعود بالأساس لشعور القاهرة بالقلق من السياسة الخارجيّة الإماراتيّة التي تجاهلت الدور المصري الإقليمي في العلاقة مع إسرائيل، مما جعل مصر تعود للملف وبقوة مدعومة بالدعم القطري في هذا الملف، للتأكيد على حضورها وتأثيرها الفاعل في هذا الملف.
وبجانب الملف الفلسطيني، برز الحديث عن الدور القطري في الوساطة بين مصر وإثيوبيا في ملف سد النهضة، خاصة وأنّ الدوحة لديها علاقات جيدة مع كل من أديس أبابا والخرطوم.
كما تضمنت قائمة التّفاهمات المصرية القطرية الأزمة الليبيّة نظراً لنفوذهما داخل ليبيا، وخاصة مع تعدد التقارير الإعلامية التي تتحدث عن وجود تضارب في المواقف السياسية والعسكرية بين كل من مصر والإمارات فيما يتعلق بالشأن الليبي، وخاصة مع إعلان القاهرة دعمها الكامل لحكومة الوحدة الوطنية الليبية من أجل تحقيق الأمن والاستقرار السياسي.
ومع التعدد في القضايا محل الاهتمام المشترك، سياسياً وأمنياً وعسكرياً بين كل من القاهرة والدوحة، وتأثير هذه الملفات ليس فقط على علاقات الدولتين ولكن على الكثير من التفاعلات في المنطقة، تبقى هناك قضايا معلقة، حول الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، وحديث الإعلام في مصر عن قائمة من المعارضين السياسيين المصريين في قطر، وكذلك ملف الإعلام سواء المصري الذي هاجم قطر بضراوة خلال السنوات السبع الماضية واتهمها بدعم وتمويل الإرهاب، أو الموقف المصري من قناة الجزيرة، والتي يتهمها بإثارة الأزمات في مصر؟ يضاف إلى ذلك العلاقات القطرية ـ التركية، وكيف ينظر إليها النظام في مصر.
لكن ما يمكن قوله في هذا السياق، أن وجود نظام يدير علاقاته الخارجية بمنطق المساومة والابتزاز والصفقات، مثل النظام المصري، يمكنه تجاوز خلفيات المرحلة الماضية كاملة، إذا وجد أن الطرف المواجه يوفر له مكسباً مادياً أياً كان حجم هذا المكسب، وهي نفس السياسة التي تبناها مع النظام الإماراتي والنظام السعودي داعمي انقلابه 2013 وما بعده.