كاترينا سمور
اتخذ العاهلُ الأردني الملك عبدالله بن الحسين عام 2021 خطوةً مهمة باتجاه التحديث السياسي في البلاد. فقد طلب من رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي تشكيل لجنة مؤلفة من 92 شخصاً تضم ممثلين عن النساء والشباب ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، تتمثل مهمتها بإجراء نقاشات وتقديم مقترحات لإجراء تحديثات تدفع بالأردن إلى الأمام فيما يتعلق بالثقافة السياسية. وبدأ الأردن، في أعقاب خروج توصيات اللجنة، حزمة إصلاح غير مسبوق تضم إصلاحات تحديث سياسي واقتصادي.
ويتعين الانتظار لمعرفة النطاق الكامل للإصلاحات وتأثيرها على الأمد البعيد، غير أن العملية الموسعة والشاملة لصياغة التوصيات، وحقيقة أنها أدت إلى تعديلات دستورية تُعَدُّ إنجازات في حد ذاتها في السياق الأردني الذي لا تتحقق فيه الإصلاحات عادة، كما أن هذه الإصلاحات قد تؤدي مستقبلاً في الحقيقة إلى تغيير طريقة التصويت في الانتخابات بالأردن.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على الإصلاحات المقترحة من قِبل “اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية”، وتحاول أن تستكشف ما تحقق بالفعل في سياق التحديث السياسي، والنجاحات والإخفاقات، كما تتناول الورقة النتائج المحتملة لهذه الإصلاحات.
السياق الأكبر
هذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الأردن عن حزمة إصلاحات تتعرض لاحقاً للتهميش والتجاهل. وتُعَدُّ “الأوراق النقاشية الملكية” من الأمثلة البارزة على ذلك، فقد صدرت هذه الأوراق عن الديوان الملكي مباشرة، وشهد عام 2012 نشر أولى هذه الأوراق في حين صدرت الورقة السابعة والأخيرة عام 2017. ويمكن وصف هذه الأوراق بأنها خريطة طريق كلية في مجالات مهمة، مثل التمكين الديمقراطي وسيادة القانون، و“تطوير نظامنا الديمقراطي لخدمة جميع الأردنيين” بحسب تعبير العاهل الأردني، لكنَّ تطبيق هذه المقترحات لاحقاً لم يتحقق كما كان متوقعاً.
على نحو مماثل، وقبل صدور “الأوراق النقاشية”، صدر تقرير “لجنة الحوار الوطني” عام 2011 حول تعزيز حقوق الإنسان واستقلال القضاء ومحاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية. ونتج عن هذا الحوار تشكيل الهيئة المستقلة للانتخاب والمحكمة الدستورية ونقابة المعلمين الأردنيين، لكنَّ الأهداف الأخرى الأكبر مثل قانون الانتخاب لم يُحقق تقدماً.
وفي مثال آخر، ركزت الأجندة الوطنية – التي مَثَّلَتْ “خطةً رئيسة” للإصلاح عام 2005 – بشكل “كُلِّي” على النمو الاقتصادي والمشاركة الاجتماعية. وخرجت هذه الأجندة بتوصيات ومسودات قوانين حول الانتخابات والأحزاب السياسية، غير أنها واجهت تحديات فيما يتعلق بالتطبيق الفعلي. وإذا ما أخذنا هذا السجل في الاعتبار فمن غير المستغرب أن ينظر كثيرون إلى مسعى الإصلاح الجديد بكثير من الشك، وحتى التجاهل التام.
تختلف المقاربة تجاه عملية الإصلاح الحالية عن المحاولات السابقة في عدة أوجه. فعلى سبيل المثال، شكّلت “الأوراق النقاشية” مقترحات من أعلى إلى أسفل، في حين أن الإصلاح الحالي جاء بموجب مقترح من لجنة متنوعة تعكس المجتمع الأردني. كما أن جهود الإصلاح الحالية –على عكس “الأوراق النقاشية” و”الحوار الوطني” اللذين جاءا خلال فترة مضطربة في خضم احتجاجات “الربيع العربي”– لا تُمَثِّلُ استجابة مباشرة لأزمة إقليمية، بل تنبع من تحولات تدريجية بعيدة الأمد أدت إلى تراجع الثقة الشعبية في الحكومة والبرلمان معاً، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، وتنامي غضب الرأي العام.
واجه الأردن خلال السنوات الأخيرة الكثير من التحديات الخارجية والداخلية؛ فعلى المستوى الدولي أدى وصول إدارة ترامب العدوانية، وصعود سياسة اليمين المتطرف في إسرائيل إلى زيادة التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما أثَّر في الديناميات الإقليمية. كما أدى تفشي جائحة كورونا إلى تغييرات جوهرية في الاقتصاد الدولي، ما وضع مزيداً من التحديات أمام الأردن. وعانى الأردن على الصعيد الداخلي من تراجع الاقتصاد، والذي تفاقم بسبب جائحة كورونا، وزيادة البطالة في صفوف الشباب. كما كان الأردن يتعامل مع آثار ما سُميت “قضية الفتنة” قبيل أشهر فقط من تشكيل لجنة التحديث.
وجاءت توصيات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في أكثر من 200 صفحة، واشتملت على خمسة فصول كلها مخصصة لـ “عملية التحديث السياسي”. واقترحت التوصيات إصلاحات في نظام الانتخابات البرلمانية، وقواعد لتنظيم الأحزاب السياسية والإدارة المحلية وتمكين المرأة والشباب.
ولغاية الآن لم تخضع سوى توصيتين فقط – المتعلقة بالانتخابات والأحزاب السياسية – للتعديلات الدستورية. ويتمثل الهدف الرئيس لهذين الإصلاحين المترابطين بإشراك مزيد من المواطنين في الحياة العامة، وإحياء دور الأحزاب السياسية في الأردن، وتشكيل هوية وطنية.
نظرة على القوانين والتوصيات: ما الذي طُبِّقَ لغاية الآن؟
بدأ الأردن عام 2021 بتطبيق بعض توصيات لجنة تحديث المنظومة السياسية، لكنَّ الأمر سيستغرق ثلاث دورات انتخابية ابتداءً من الانتخابات المقبلة عام 2024 وإلى حين التطبيق الكامل. ويُعَدُّ البرلمان (مجلس النواب) المؤسَّسة التي ستشهد معظم التحول الجوهري. وتتضمن الإصلاحات المقترحة تحولاً باتجاه نظام مختلط يشتمل على مستويين من التمثيل: مقاعد الدوائر المحلية (مرشح واحد يُمَثِّلُ دائرة انتخابية محددة من إجمالي الدوائر الـ18)، ومقاعد التمثيل النسبي على مستوى الدائرة الوطنية الواحدة تهدف إلى تخصيص مقاعد تتناسب مع عدد الأصوات التي يحصل عليها كل حزب سياسي، ويزداد هذا التخصيص بشكل تدريجي على مدى ثلاث دورات انتخابية متتالية تبدأ بنحو ثلث عدد المقاعد في المرحلة التمهيدية، وستحظى الأحزاب السياسية في نهاية المطاف بأغلبية مقاعد البرلمان لتصل إلى 65% من مجموع المقاعد في غضون عقد من الزمان، وترْك بقية المقاعد للمرشحين المستقلين الذين لا يرتبطون بالأحزاب السياسية، والذين يحتفظون حالياً بالأغلبية العظمى من مقاعد البرلمان. وستجعل هذه الإصلاحات من الأحزاب السياسية أكبر كتلة في البرلمان والتي ستشكل الحكومات في المستقبل، في الوقت الذي سيحظى فيه المستقلون بعدد لا بأس به من المقاعد. وتدل هذه الزيادة التدريجية على تحوّل متعمد باتجاه نظام سياسي يتمحور بشكل أكبر حول الأحزاب السياسية للتأكيد على أهمية هذه الأحزاب في تشكيل الحكومة في البلاد. وجرى عرض توصيات اللجنة على البرلمان الأردني الذي صوَّت وصادق عليها عام 2022.
ويُرَكِّزُ التغيير الرئيس الثاني على إحياء دور الأحزاب السياسية. فقد تأسس في الأردن في الماضي العديد من الأحزاب السياسية، غير أن الكثير من هذه الأحزاب لم يشارك بشكل فاعل في الانتخابات، إضافة إلى افتقارها إلى استراتيجيات تواصل فاعلة. وإدراكاً من لجنة تحديث المنظومة السياسية للحاجة إلى تعزيز الحياة الحزبية، فقد اقترحت جعل الأحزاب أكثر دمجاً لشرائح المجتمع كافة. وتشتمل هذه المبادرات على تطبيق نظام الحصص (الكوتا) لضمان تمثيل المرأة والشباب، بحيث تهدف هذه الأحزاب من خلال تبني هذه الخطوات إلى تعزيز جاذبيتها، وانخراط شرائح متنوعة من المجتمع فيها، وتعزيز وجودها على الساحة السياسية.
وتضمَّن قانون الأحزاب السياسية سلسلةً من متطلبات التسجيل بهدف ضمان تمثيل الأحزاب السياسية على المستوى الوطني. ويتعين على الأحزاب السياسية من أجل نيل الاعتراف بها ألّا يقل عدد الأعضاء المؤسسين للحزب تحت التأسيس عند انعقاد المؤتمر التأسيسي عن ألف شخص، وأن يكون المؤسِّسون من سكان ست محافظات على الأقل. كما ربط القانون حصول الحزب على التمويل بالفوز بمقاعد في البرلمان، وبالتالي ضمان استمرار نشاطه ومشاركته الفاعلة على الساحة السياسية.
كما وضع القانون ضمانات قانونية لحماية الأفراد الراغبين في الانضمام للأحزاب السياسية. ويسمح القانون الجديد –من أجل تعزيز الاكتفاء الذاتي والاستقلال لهذه الأحزاب– بحصول هذه الأحزاب على تمويل على شكل تبرعات من المواطنين الأردنيين. كما يسمح القانون للحزب بـ”إقامة علاقات سياسية مع أحزاب أخرى داخلية أو خارجية أو مع اتحادات أحزاب سياسية دولية؛ على ألّا تشكل تلك العلاقة ارتباطاً تنظيمياً للحزب بتلك الأحزاب أو الاتحادات وشريطة الالتزام بأحكام الدستور والقانون”. ويُمكّن هذا البند الأحزابَ السياسية من الاستفادة من خبرات نظيراتها العريقة، وتعمل مثل هذه العلاقات على تسهيل التشبيك والتعاون مع الأحزاب التي تشاطرها الفكر نفسه في الخارج.
نجاحات متفاوتة والكثير من التحديات
حقق تطبيق التعديلات الدستورية في عملية تشكيل الأحزاب السياسية الجديدة في الأردن العديدَ من الإنجازات البارزة، غير أنه واجه العديد من التحديات. ونجحت عملية تأسيس الأحزاب السياسية الجديدة في تنويع المشهد السياسي من خلال توسيع عضوية الأحزاب من خارج النخب التقليدية. ويضمن هذا الدمج أن السياسات والأجندات الحزبية تعكس المجتمع الأوسع، وتجسد التزاماً بالمبادئ الديمقراطية، وتعزز انخراطاً منطقياً من شرائح المجتمع كافة، على الأقل أكثر مما كان عليه الوضع قبل تنفيذ هذه الإصلاحات.
واشترط قانون الأحزاب على الأحزاب ألّا يقل عدد الشباب عن 200 عضو من عدد المؤسسين، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة، إضافة إلى أن يكون أحد الأعضاء المؤسسين من أصحاب الهمم. وتنهمك جميع الأحزاب السبعة والعشرين المسجَّلة لغاية الآن في عملية الدمج هذه. وتشكل حقيقة قيام الأحزاب بالتسجيل، وجعل الاتصال مع قطاعات المرأة والشباب ضمن أولوياتها خطوةً جديدة. ويتعين على الأحزاب خلال الانتخابات المقبلة، المقررة في صيف 2024، وضْعَ مرشحين من النساء والشباب ضمن المراتب الخمس الأولى في قوائم المرشحين، وبالتالي زيادة عدد النساء والشباب في مقاعد التمثيل النسبي في البرلمان المقبل.
لكن، وعلى الرغم من هذه الإنجازات، تظل هناك عدة تحدّيات يتعيَّن التعامل معها. ويتمثّل أحد التحديات الرئيسة بهذا الخصوص في محدودية الوعي بين عامة الناس فيما يتعلّق بالتعديلات الدستورية وإنشاء أحزاب جديدة. فلم تُبذل جهود كافية لإيصال تفاصيل نظام الأحزاب السياسية الجديد بشكل فعّال إلى الناس، ما أدّى إلى نقص المشاركة والانخراط في هذا المجال من قبل قطاع كبير من المجتمع. ويُعدّ هذا الإخفاق في نشر المعلومات وزيادة الوعي مسؤولية مشتركة بين الهيئة المستقلّة للانتخابات والحكومة. والمجال الآخر الملحوظ الذي حقّق نجاحاً مُتبايناً هو إنشاء أحزاب مؤيّدة للنظام. وتسمح هذه الأحزاب للأفراد بالتعبير عن دعمهم للحكومة ضمن هيكل حزبي رسمي، وتعزيز التعددية السياسية والتعبئة المُنظّمة للقضايا. وهذا يُشجّع على إطلاق النقاشات الصحية والنقد البنّاء والمناقشات المتوازنة للقضايا العامة، ما يُسهم في نهاية المطاف في تعزيز الديمقراطية في الدولة. وتسعى الأحزاب المؤيّدة للنظام إلى إزالة النظرة السلبية إلى المشاركة السياسية التي تَعتبر أنها تعني بالضرورة مُعارضة سلطات الدولة، كما تسعى إلى تعزيز التواصل بين الأحزاب وهياكل السلطة القائمة، ما يجعلها قنوات للانخراط مع الدولة والتأثير فيها.
ومع ذلك، فإن ذلك يُعيد أيضاً طرح أسماء الشخصيات السياسية المعروفة التي تولّت مناصب في السلطة سابقاً، كقادة للأحزاب السياسية الجديدة. ولغاية الآن، تصف ثلاثة أحزاب على الأقل نفسها بأنها وسطية أو تكنوقراطية، مثل حزب الميثاق الوطني، والتي تستقطب مؤسّسيها إلى حد كبير من الوزراء السابقين والحاليين، وأعضاء البرلمان، وأعضاء مجلس الأعيان، ورؤساء البلديات.
والتحدّي الآخر هو أنه على الرغم من الزيادة النسبية في شمولية الأحزاب السياسية، وإمكانية الإصلاحات الحالية في زيادة الشمولية وتبنّي شخصيات سياسية جديدة، فإنه تجب ملاحظة أن المشهد السياسي في الأردن لا يزال متأثراً بشخصيات معروفة وذات خبرة، بما في ذلك المسؤولون الحكوميون السابقون وقادة الأحزاب. ويُشكّل استمرار الوجوه القديمة تحدياً لتطلّعات الجماهير التي تسعى إلى بروز قيادات جديدة ووضع حدّ لثقافة المحسوبية وضعف الأداء وعدم الكفاءة التي سادت في الماضي. إن وجود مثل هذه الشخصيات داخل الأحزاب السياسية يتناقض مع الدعوة إلى التغيير الحقيقي، ويُثير مخاوف بشأن إدامة نظام يُعطي الأولوية للمصالح الفردية على حساب الرفاه الجماعي للشعب.
تُخاطر الأحزاب التي تدور حول شخصيات مُعيّنة بدلاً من الأيديولوجيات الواضحة والبرامج الحزبية الموضوعية بصرف الانتباه عن الحاجة المُلحّة إلى التغيير التحويلي. وتميل مثل هذه الأحزاب إلى التركيز على جاذبية الفرد وشعبيته بدلاً من تطوير أجندات سياسية شاملة واستراتيجيات حوكمة فعّالة. وفي حين أن عضوية الحزب أصبحت أكثر تنوعاً وشموليةً، فإن الهيمنة المستمرة لنفس القيادة تُلقي بظلالها على هذا التغيير. علاوة على ذلك، قد يختار الناخبون أيضاً الوجوه الأكبر سناً على أمل الحفاظ على الاستقرار في الحكم. وهذه معضلة للناخبين وللأحزاب السياسية الناشئة؛ أي الرغبة في التخلّص من الوجوه القديمة بسبب فشل النظام، وأيضاً رغبة السياسيين ذوي الخبرة في الحفاظ على النظام والكفاءة.
التداعيات المستقبلية
إن أحد التداعيات الرئيسة لتعزيز الأحزاب، وتخصيص حصة أكبر لها في البرلمان هو التأكيد على أن التصويت يتم على أساس الهوية السياسية. لقد صوّت الناخبون دائماً على أساس الانتماء القبلي (بخاصةٍ في الانتخابات البلدية)، أو الانتماء العرقي أو الديني (الشيشان والمسيحيين)، أو الخلفية الأوسع (الأردنيون من أصول فلسطينية). والمجموعة الوحيدة التي صوّتت على أساس الهوية السياسية -حتى على حساب الولاء للحزب- هم الإسلاميون؛ ففي السنوات التي قاطع فيها حزب جبهة العمل الإسلامي -الحزب الإسلامي الرئيس في البلاد- حزب المؤتمر الوطني (زمزم)، وهو حزب إسلامي وسطي، حصل الأخير على عدة مقاعد في البرلمان؛ فلم يُطع أنصار جبهة العمل الإسلامي أوامر الحزب وصوّتوا لصالح الحزب الإسلامي الآخر بناءً على هويتهم السياسية.
قد يكون لإدخال الهويات السياسية آثار طويلة المدى، والتي من شأنها أن تؤثّر في هوية الناخب وسلوكه على المستويين الوطني والمحلي. وحالياً، شهدت المناطق العشائرية إقبالاً كبيراً على التصويت من قبل الناخبين، حيث ارتبط التمثيل النيابي ارتباطاً وثيقاً بالحصول على الخدمات والمساعدات. ومع ذلك، فإن نظام التصويت الجديد هذا يفرز هوية مُزدوجة للناخبين -الاقتراع على انتخاب المُرشّحين لقائمة الأغلبية وقائمة الأحزاب للمقاعد النسبية- ما يُمكّنهم من مراعاة الروابط العائلية جنباً إلى جنب مع الرؤى الأيديولوجية للجماهير.
يُثير هذا التحوّل من التصويت على الأساس العشائري في المقاعد ذات الأغلبية فقط، إلى نظام يشمل مُرشّحي الأغلبية والأحزاب السياسية، تساؤلات حول الاندماج أو الفصل بين العشائر والأحزاب في المُستقبل. فهل ستصطف العشائر مع أحزاب مُعيّنة وتُشكّل تحالفات تدمج الروابط العائلية مع الأيديولوجيات السياسية؟ أو بدلاً من ذلك، هل ستحتفظ العشائر والأحزاب بهويّات مُميّزة والتي من المُحتمل أن تكون مُتضاربة؟ وسيُشكّل هذا التفاعل الديناميكي بين العشائر والأحزاب بشكل كبير التنميةَ السياسية في الأردن وتمثيل المصالح المتنوعة. وسيعتمد نجاح الأحزاب السياسية في بيئة التصويت الجديدة هذه على قدرتها على تلبية احتياجات الناخبين في الدوائر الخدمية التقليدية. وتتمتّع الأحزاب السياسية المُنتخبة بفرصة تقديم برامج على مستوى الدولة تُعالج القضايا المحليّة؛ وبالتالي فإنه من المُحتمل أن يُغيّر ذلك سلوك الناخبين، والذي هو في الغالب زبائنيٌ لغاية الآن. ومع ذلك، يظل مدى نجاح الأحزاب السياسية في هذا السياق مرهوناً بفعاليتها في تلبية مطالب وتوقّعات ناخبيها.
أولاً، تُعالج الأحزاب السياسية الوطنية المصالحَ المحليّة (كما هو الحال في الانتخابات البلدية أو الانتخابات البرلمانية لمقاعد الأغلبية) من خلال ترجمة برنامجها السياسي إلى سياق محلّي. وعلى سبيل المثال، قد ينشط حزب يُركّز على السياسات الخضراء في مدينة مثل الكرك باستخدام برنامجه السياسي للترويج للسياحة البيئية والزراعة المستدامة وتوفير المياه. ومع ذلك، عندما تكون السياسة المحليّة مدفوعة بالمحسوبية العشائرية، يُمكن أن يتحوّل نظام الانتخابات إلى نُخب حزبية سياسية تَعقد صفقات مع النُخب المحليّة بشأن اختيار المُرشّحين أو دعمهم.
ثانياً، بينما قد تُقرّر الأحزاب الاصطفاف مع النُخب المحليّة للوصول إلى السلطة؛ وبالتالي، الحفاظ على هوية الناخبين، فإن إدخال الهويات السياسية قد يُغيّر سلوك الناخبين عن طريق زيادة النزعة الفردانية. فمن خلال الانتخابات، ووسائل الإعلام، والمُناقشات، والترويج الإعلامي، قد يتفاعل الناخبون أكثر مع قضاياهم والبرامج السياسية التي يختارونها -مثل حماية البيئة، أو النزعة القومية، أو الاقتصاد الليبرالي– أكثر من هويتهم العشائرية.
أخيراً، قد ينشأ نتيجة لذلك هويتان لدى الناخبين، إحداها تقوم على الروابط الأسرية أو العشائرية، والأخرى تُحدّدها أيديولوجيتهم السياسية؛ الديمقراطية الاجتماعية، أو الإسلاموية، أو الاشتراكية على سبيل المثال. فإحدى هاتين الهويتين تقوم على روابط الدم أو روابط الأرض، بينما الهوية الثانية أيديولوجية بطبيعتها. وقد لا تتعارض هاتان الهويتان، حيث يُمكن في يوم الانتخابات استخدام الهوية السياسية للقائمة الحزبية على مستوى الدائرة الوطنية، بينما تُستَخدَم الهوية العشائرية للمرشح في الدائرة المحلية. إن التبعات طويلة المدى لتعريف الهويات السياسية للناخبين الأردنيين غير مؤكّدة، وتعتمد على عوامل مُختلفة. إن الاستقلالية الفردية، وتأثير شيوخ العشائر، واستراتيجيات الأحزاب، والأيديولوجيات، فضلاً عن الديناميات الاجتماعية والسياسية الأوسع، ستؤدي جميعها دوراً مهماً بهذا الخصوص.
وبشكل عام، في حين أن التعديلات على قانون الانتخابات توفّر فرصة لتغيير سلوك الناخبين وتقليل أثر المحسوبية، ستُحدَّد النتائج من خلال كيفية تعامل الناخبين مع هوياتهم المزدوجة والتوفيق بينها، وكيف ستتكيّف الأحزاب السياسية وتستجيب للمصالح والاحتياجات المُتنوّعة للناخبين.
الاستنتاجات
تُعدّ عمليةُ التحديث السياسي المُبادرةَ الإصلاحية الأكثر طموحاً في تاريخ الأردن. ومع ذلك، لا تزال هناك العديد من التحدّيات التي تواجهها كما ذكرنا أعلاه، ولن تظهر نتائجها إلى أن تُجرى الانتخابات التالية في عام 2024. ومع ذلك، فإن الأساس المطلوب لنجاح الأحزاب في الانتخابات يعتمد على زيادة وعي المواطنين بالتغييرات، والاهتمام والإيمان بالأحزاب السياسية التي لن تتمتّع بخبرة انتخابية.
وبحكم أن الأردن ينتظره العديد من التحدّيات، بما في ذلك تزايد عدم المساواة، وندرة المياه، والبطالة بين الشباب، والعقد الاجتماعي المُتغيّر، فإنه من الضروري أن ينخرط مواطنوه في عملية الإصلاح المنشود داخل النظام بدلاً من خارجه، ما يُقلّل بشكل فعّال مخاطر السخط الجماعي الذي يُمكن أن يُزعزع الاستقرار. وإن فكرة أن التحديث السياسي تدور حول إدماج مجموعة واسعة من المواطنين في المؤسّسات الرسمية، وتقليل السلطة اللامركزية وبناء الرقابة الديمقراطية، تعني أن إيمان المواطن بالبرلمان والأحزاب أمرٌ حاسم لنجاح هذه العملية برمتها.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/featured/tahwil-almashhad-alsiyasi-taqyim-tahadiyat-altahdith-fi-al-urdun