تعد الحرب الروسية الأوكرانية سلاحًا ذا حدين؛ إذ تتفاوت تأثيراتها الإيجابية والسلبية على حركة الملاحة عالميًا، بالرغم أنه من المعتاد أن طبول الحرب تعني الخراب والتأثير سلبيًا على حركة التجارة مثلما حدث لتجارة الطاقة عالميًا، والتي تسبب الاختناق بها في زيادة معدل التضخم، بالإضافة إلى العديد من الآثار السلبية الجمة؛ لكن الحقيقة هي أن للحرب الروسية الأوكرانية جوانب إيجابية في إعادة رسم سلاسل التوريد عالميًا، والتي ترتب عليها زيادة الحركة الملاحية لبعض الممرات المائية، نستعرض في التالي أثر تلك الحرب على حركة الملاحة عالميًا ومحليًا.
البحر الأسود
يعد البحر الأسود موقعًا استراتيجيًا تتشارك في مياهه كل من بلغاريا ورومانيا وجورجيا وتركيا وروسيا بالإضافة إلى أوكرانيا. بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تأثرت التجارة الدولية بأكملها، وخصوصًا التجارة في البحر الأسود الذي تنبع أهميته من كونه منفذًا لحوالي 7.5 ملايين برميل من النفط ومنتجات الطاقة الأخرى يوميًا، وكون روسيا واحدة من بين أكبر منتجي النفط عالميًا؛ إذ تحتل المركز الثالث كأكبر منتج للنفط في العالم، وتأتي في المرتبة الثانية كأكبر مصدر للنفط عالميًا.
ولأن أوروبا هي الأقرب جغرافيا لروسيا، هذا فضلًا عن أن البنية التحتية الروسية صُممت خصيصًا لنقل تلك الثروات إلى أوروبا؛ تأتي أوروبا في مقدمة مستهلكي النفط الروسي بنسبة تقدر بحوالي ٥٣٪ (البيانات حتي 24 فبراير 2022). وعليه فقد كانت الحرب الروسية في أوكرانيا سببًا منطقيًا لارتفاع أسعار الطاقة. ولأن أسعار السلع عادة ما تتحرك وفقًا للتوقعات المستقبلية للأحداث، فتشير التوقعات إلى أن أوروبا تبحث عن مخرج لتأمين احتياجاتها من الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي، وهو ما يعني فرض حصار طاقة على روسيا، وحرمان العالم من الطاقة الروسية.
تلك التوقعات دفعت أسعار النفط لتتجاوز حاجز 100 دولار وتصل إلى 140 دولارًا، وتعود مرة أخرى إلى مستوى 120 دولارًا لبرميل خام برنت (حتي تاريخ 15 يونيو 2022). أسعار الغاز ارتفعت هي الأخرى من مستوى 3.5 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية لتصل إلى 7.5 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية (وفقا لمؤشر NYMEX في 15 يونيو 2022) وهو ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 114% منذ بداية العام فقط (أعلى سعر وصل له الغاز تاريخيًا كان في شهر مايو عند مستوى 9.6 دولارات للمليون وحدة حرارية).
هذا بالإضافة إلى حقيقة تحول البحر الأسود إلى ساحة حرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد أصبح غير أمن لعبور السفن التجارية خصوصًا بعد انتشار الألغام البحرية التي زرعتها كل من روسيا وأوكرانيا للتصدي لبعضهم البعض، هذا فضلا عن محاصرة الجيش الروسي للموانئ الاوكرانية الذي بدوره عزل أوكرانيا عن الاستيراد أو التصدير، وهو ما استغلته روسيا في مفاوضاتها مع الغرب لرفع العقوبات، فأعربت عن نيتها فتح الموانئ الأوكرانية، لكن سيبقى خطر الألغام البحرية عائقًا أمام التجارة في البحر الأسود.
أدت كل هذه العوائق إلى انخفاض التجارة في البحر الأسود، ومحاصرة حوالي٧٠ سفينة أجنبية في ٦ موانئ أوكرانية. وحسب تقديرات الحكومة الأوكرانية، هناك ٢٠ مليون طن من الحبوب يستحيل شحنها من الدولة بسبب الحصار الروسي. وتعد أوكرانيا رابع أكبر مصدر للذرة وخامس أكبر مصدر للقمح في العالم قبل الحرب، وهناك ما يقرب من ٣٠٪ من التجارة العالمية في القمح من روسيا وأوكرانيا وحدهما، مما يعني مخاطرة بحدوث أزمة غذاء عالمية.
تتبادل الدولتان الاتهامات فيما بينهما باستخدام المناجم لتعطيل الشحن ومنع صادرات الحبوب من مغادرة البلاد، وهو عامل أسهم في ارتفاع أسعار الغذاء عالميًا، حتى أن أوكرانيا اتهمت روسيا بزرع الألغام البحرية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية من أجل تعطيل الشحن والإمدادات الغذائية العالمية عن عمد، قائلة إن هذه المناجم كانت فعليًا “ذخيرة عائمة غير خاضعة للرقابة”، نفت روسيا ذلك وألقت باللوم على أوكرانيا فيما يتعلق بالألغام غير الراسية. وألقت باللوم على العقوبات الدولية المفروضة على البلاد في أزمة الغذاء العالمية، وقالت إن الصادرات يمكن أن تُستأنف بمجرد أن تزيل أوكرانيا المناجم من موانيها.
أسعار النفط
على الرغم من ذلك كله، كانت روسيا قادرة على إيجاد سوق لغالبية إنتاجها من خلال تقديم خصومات في حدود ١٥-٢٠ دولارًا. ومن ناحية أخرى، تطلق دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 60 مليون برميل من النفط- ما يعادل 12 يومًا من الصادرات الروسية- من احتياطاتها الاستراتيجية إلى السوق؛ تهدف هذه الخطوة إلى تخفيف ضغط الأسعار، ولكن يظهر التاريخ أن مثل هذه الإجراءات لها تأثير قصير الأجل ومحدود على الأسعار. يدرس الكونجرس إمكانية إعداد مشروع قانون يحظر استيراد النفط وموارد الطاقة من روسيا، القانون ينص على حظر “واردات النفط الروسي ومصادر الطاقة إلى الولايات المتحدة ويقطع العلاقات التجارية الطبيعية مع روسيا وبيلاروسيا” وسيصبح أول خطوة نحو منع روسيا من الوصول إلى منظمة التجارة العالمية وأدى إلى قفز النفط إلى 139 دولارًا للبرميل عند نقطة واحدة، وهو أعلى مستوى منذ 14 عامًا تقريبًا.
قناة السويس
ربما يكون التساؤل التالي هو مدى استفادة قناة السويس من الحرب الروسية الأوكرانية؟! تخبرنا البيانات أنه جراء العقوبات التي تم فرضها على روسيا بهدف عزلها اقتصاديًا واتخاذ العديد من الإجراءات لوقف استيراد الطاقة منها، ارتفعت الواردات الأوربية والكندية من الخليج العربي، وزادت حركة النفط المتجهة جنوبًا بسبب توجه روسيا إلى تصدير النفط إلى آسيا، بالإضافة للضرر الجسيم التي لحق بالتجارة في البحر الأسود وعدم قدرة الدول على إرسال السفن للعبور من البحر الأسود.
ونتيجة لذلك كله، اتجهت التجارة إلى قناة السويس التي عول عليها العالم لتعويض النقص في حركة التجارة عالميًا، ومن ثم حققت أكبر عائد في تاريخها بسبب تدفق السفن الغربية التي تمر عبرها بحثًا عن النفط ومشتقاته من دول الخليج؛ إذ بلغت الإيرادات الشهرية في أبريل ٦٢٩ مليون دولار، وشهدت الملاحة في القناة عبور ١٩٢٩ سفينة في ذلك الشهر، مقارنة ب ١٨١٤ سفينة في أبريل ٢٠٢١ بفارق ١١٥ سفينة وزيادة بنسبة ٦.٣٪، وكذلك تم نقل ١١٤.٥ مليون طن صافي عبر القناة، وهي أكبر حمولة شهرية في تاريخ القناة.
إن الحرب أدت كذلك إلى زيادة في شحن البضائع السائبة الجافة من آسيا وأستراليا إلى أوروبا وخاصة الفحم والحديد والصلب بسبب نقص الواردات من روسيا وأوكرانيا، في أبريل ٢٠٢٢، لاحظت هيئة الأوراق المالية والسلع زيادة كبيرة في عدد الأنواع المختلفة من السفن التي تعبر القناة مقارنة بالشهر نفسه في العام الماضي، وزادت ناقلات النفط بنسبة ٢٥.٨٪ وزادت سفن الحاويات بنسبة ٩٪، وناقلات الغاز الطبيعي المسال بنسبة ١٢٪ وأصبح الهدف هو الوصول إلى عبور ١٠٠ سفينة يوميًا.
وبدأت النتائج الإيجابية تظهر بالفعل، فبلغت عائدات قناة السويس 1.69 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2022، بنسبة نمو 20.7٪، مقارنة ب 1.4 مليار دولار تم تحقيقها في نفس الفترة من عام 2021، على الرغم من الحرب. إضافة إلى ذلك، بلغ عدد السفن العابرة للقناة خلال الفترة من يناير إلى مارس من العام الجاري 5303 سفن، مقابل 4581 سفينة عابرة خلال نفس الفترة من العام الماضي، بفارق 722 سفينة، بزيادة قدرها 15.8٪.
في حين زادت الحمولة العابرة للقناة بنسبة 7.4٪، فبلغ صافي الحمولات الصافية المسجلة خلال الربع الأول من عام 2022 313.3 مليون طن، مقابل 291.7 مليون طن العام الماضي، بفارق 21.6 مليون طن. ورفعت قناة السويس الرسوم الانتقالية لجميع السفن العابرة بنسبة من 5 إلى 10%. وقد دخلت هذه الزيادة حيز التنفيذ في الأول من مايو 2022، وهي زيادة مؤقتة، وأوضح رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع أن الهيئة يمكنها مراجعة وتخفيض رسوم العبور بناءً على الوضع بالنسبة لحركة التجارة البحرية الدولية.
خلاصة القول، كانت قناة السويس البديل المناسب لتزويد أوروبا والعالم باحتياجاته من الطاقة، بعد أن تقطعت بهم سبل الوصول إلى الطاقة من خلال روسيا، خاصة وأن كلتا الدولتين روسيا وأوكرانيا حولتا حوض البحر الأسود إلى بحر من الألغام التي تعيق مرور الملاحة البحرية خلال تلك المنطقة، وهو ما حول أنظار العالم نحو قناة السويس للحصول على احتياجاته من الطاقة من دول الخليج العربي التي تسهم بنصيب الأسد في مجال الطاقة عالميًا، وما كانت قناة السويس تستطيع أن تلبي تلك الاحتياجات لو لم تكن حُفرت قناة السويس الجديدة، وهو ما يُعد خير رد على الشائعات التي انتشرت عند افتتاحها تدحض في أهميتها كمنفذ بحري تمر من خلاله حركة التجارة العالمية، وأصبح شريان الطاقة إلى أوروبا.
.
رابط المصدر: