تلعب الخدمات الصحية دورًا محوريًا في كافة خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم مما تبذله الدولة المصرية من جهود حثيثة للنهوض بالقطاع الصحي، إلا أن النمو السكاني المتزايد يمثل تحديًا رئيسًا يلتهم تلك الجهود؛ إذ إن الارتفاع في معدلات الزيادة السكانية يعني زيادة الطلب على الخدمات الصحية بكافة أشكالها ومستوياتها، مما يمثل عبئًا على القطاع الصحي في ضرورة تلبية هذا الطلب المتنامي بجودة عالية. وفيما يلي نوضح تأثير النمو السكاني على القطاع الصحي.
الوضع القائم
أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بيانًا صحفيًا في مطلع يوليو 2021، أعلن فيه بلوغ عدد سكان جمهورية مصر العربية بالداخل (102 مليون نسمة) مقابل (101 مليون نسمة) مطلع أكتوبر 2020. ووفقًا للبيان، مع بلوغ هذا العدد من السكان تكون قد تحققت زيادة سكانية قدرها مليون نسمة خلال 275 يومًا (9 أشهر و5 أيام) في عام 2021.
ولتلك الزيادة أبعاد تتعلق بمدى عدالة توزيع الخدمات الصحية بين المواطنين؛ فمع زيادة المعدلات السكانية سيتعذر على بعض الفئات الحصول على الخدمات الصحية المناسبة، لأن ما توفره الدولة من مرافق وخدمات لا يعد كافيًا لتمكين المنظومة من استيعاب تلك الزيادة في الطلب.
مؤشرات إتاحة الخدمات الصحية
وفقًا للنشرة السنوية لإحصاء الخدمات الصحية لعام 2018، كان إجمالي عدد المستشفيات والأسرّة بمنظومة الصحة المصرية في القطاعين الحكومي والخاص حوالي 1848 مستشفى بسعة 131 ألف سرير تقريبًا.
ووفقًا لتقرير التنمية البشرية المصري 2021، ففي خلال الفترة بين 2010 و2018 ارتفع عدد المستشفيات الحكومية من 660 إلى 691 مستشفى. إلا أن هذا التوسع في عدد المستشفيات كان محدودًا للغاية مقارنة بالزيادة السكانية لتلك الأعوام، وبالتالي ارتفع عدد المترددين على كل مستشفى من نحو 86 ألف متردد إلى نحو 136 ألف متردد. وانعكست تلك الزيادة في انخفاض السعة السريرية من 99270 ألف سرير في عام 2010 إلى 95683 ألف سرير في عام 2018، وهو ما مثّل ضغطًا متزايدًا على المنظومة الصحية في مصر.
أما فيما يخص وحدات الرعاية الصحية الأساسية “مكاتب الصحة والعيادات ومراكز رعاية الأمومة والطفولة ووحدات الأسرة ووحدات الرعاية الأولية” فقد ارتفع عدد الوحدات بنحو 365 وحدة بين عامي 2010 و2020. ومع ذلك فإن عدد الوحدات المضافة لم يواكب أيضًا الزيادة السكانية؛ إذ تراجع عدد وحدات الرعاية الصحية لكل 100 ألف نسمة من 6.2 في عام 2010 إلى 5.6 في عام 2017.
وتهدد تلك المؤشرات قدرة المنظومة الصحية على استيعاب الفجوة بين عدد المستشفيات ووحدات الرعاية الأساسية في مقابل الزيادة السكانية المطردة، مما يؤثر على قدرة المنظومة على إتاحة الخدمات الصحية للمواطنين، وهذا ما يتطلب سرعة التوسع في مجال إنشاء المستشفيات وتجهيزها بما يحقق التوزان مع الزيادة السكانية، وهو ما يمثل في النهاية ضغطًا على الموازنة الحكومية.
العنصر البشري في المنظومة الصحية
شهدت الفترة من عام 2010 حتى عام 2018 زيادة في عدد الأطباء البشريين وأعضاء هيئة التمريض في منظومة الصحة الحكومية من نحو 73 ألف طبيب في عام 2010 إلى نحو 91 ألف طبيب في عام 2018، ومن نحو 161 ألف عضو هيئة تمريض إلى 196 ألف تقريبًا.
قابل تلك الزيادة في أعداد الأطباء وهيئة التمريض ارتفاعًا في أعداد المترددين أيضًا؛ إذ بلغ عدد المترددين لكل طبيب 778 فردًا في عام 2010 وارتفع إلى 1026 متردد لكل طبيب في عام 2018. في حين بلغ عدد المترددين لكل عضو هيئة تمريض 353 فردًا في عام 2010 وارتفع في 2018 ليبلغ 476 فردًا. وتؤثر تلك الزيادة على أداء الطبيب أو عضو هيئة التمريض المنوط به تقديم الخدمة، مما يزيد فرص الخطأ الطبي المهني وتعريض حياة بعض الأفراد متلقي الخدمة للخطر.
شهدت كذلك الفترة الممتدة من 2010 حتى عام 2018، تزايدًا في معدلات الأطباء والصيادلة العاملين بالمهن الطبية والمزاولين بوزارة الصحة، إلا أن تلك المعدلات لا تزال منخفضة؛ فقد بلغت النسبة لأطباء الأسنان (2.5 طبيب أسنان لكل 10 آلاف مواطن)، والصيادلة (5.3 صيدلي لكل 10 آلاف مواطن) وفقًا للنشرة السنوية لإحصاء الخدمات الصحية لعام 2018.
في المجمل، تلك الزيادة في الأعداد سواء في الأطباء أو أعضاء هيئة التمريض، لم تكن كافية لمواكبة الزيادة في الطلب على الخدمات الصحية، وهو ما يمثل ضغطًا شديدًا على العنصر البشري داخل المنظومة الصحية من جهة وانخفاضًا في جودة الخدمات الصحية المقدمة من تلك العناصر داخل المنظومة من جهة أخرى، في ظل محدودية إمكانيات البنية التحتية للمستشفيات.
نقص الدواء
يعد الدواء إحدى السلع الاستراتيجية. وهو الشق الثاني في المنظومة العلاجية بعد التشخيص. ويعد استقرار سوق الدواء في الدولة مرهونًا بالقدرة على توفير الدواء للمريض. وعدم القدرة أو التقصير في تلك المهمة يسبب العديد من الأزمات داخل المنظومة الصحية.
وتعاني الدولة المصرية بشكل متقطع من أزمات دوائية، ناتجة عن نقص أو اختفاء أحد الأدوية الضرورية من السوق، لاسيما التي تتعلق بالأمراض الخطيرة. وترتبط تلك الأزمات بأسباب عديدة، أهمها أن الأدوية المصنعة محليًا لا تغطي كافة احتياجات السوق المصرية من الدواء؛ نظرًا لمعدلات الزيادة السكانية السريعة، مما يؤدي إلى الارتفاع الضخم في الطلب، خاصة تلك المتعلقة بمنتجات ألبان الرضع ومحددات الإنجاب التي تصرف مجانًا بالوحدات الصحية في كافة أنحاء الجمهورية.
وللقضاء على تلك الظاهرة، تم افتتاح مدينة الدواء المصرية في أبريل عام 2021, والتي تهدف إلى تصنيع الخامات الدوائية، فضلًا عن الجهود التي تبذلها الدولة في إطار استراتيجية تعميق التصنيع الدوائي في مصر.
الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة
ترتبط الزيادة السكانية بحاجة الدولة إلى رفع مخصصات الإنفاق على الخدمات الطبية لسد العجز التي تسببه تلك الزيادة، وهو ما يمثل فرصة ضائعة على الدولة في تطوير المنظومة الصحية ورفع جودة الخدمات المقدمة؛ إذ يبلغ معدل توزيع الإنفاق الحكومي على الصحة فيما يخص “السلع والخدمات الطبية” ما يقرب من ربع الموازنة المخصصة لوزارة الصحة بإجمالي 25.1% من اجمالي الموازنة.
تلك النسبة التي ارتفعت من 20.2% لعام 2014-2015. لتتقدم على أبواب اخرى أولى في الإنفاق على القطاع الصحي كالاستثمارات التي تمثل 13.7% من الموازنة، والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية (يتضمن تكاليف علاج المواطنين على نفقة الدولة) الذي يمثل 9.7%. وذلك في إطار جهود الدولة في تطوير البنية التحتية لقطاع الصحة، والتوسع في إتاحة الخدمات الصحية؛ لاستيعاب الأعداد المتزايدة المترددة على المنشآت الصحية.
جائحة كورونا والضغط على النظام الصحي
سببت جائحة كورونا صدمة عنيفة للقطاعات الصحية في جميع أنحاء العالم، وعلى المستوي المحلي ارتفع بشدة جانبا العرض والطلب على الخدمات الصحية في المراحل المختلفة للأزمة. إذ تعلق جانب العرض بقدرة المنظومة الصحية على توفير الخدمات الصحية الأساسية لكل المواطنين سواء من المصابين أو غيرهم. وتعلق جانب الطلب بالقدرة البشرية على مواجهة الأزمة، في ظل: انخفاض أعداد الأطباء والتمريض، ومحدودية البنية التحتية، في مقابل الزيادة المتوقعة للمصابين بالفيروس نسبة إلى عدد السكان بالدولة.
وحسب تقرير التنمية البشرية لمصر عام 2021، فقد قامت وزارة الصحة بتخصيص نحو 12 مستشفى مجهزًا للعزل موزعة على المحافظات، وتجهيز 27 مستشفى جامعي للعزل، وتخصيص عدد 109 مستشفى صدر وحميات لفحص الحالات المشتبه فيها.
تخصيص تلك الأعداد من المستشفيات لاستقبال المصابين في ظل محدودية عدد المستشفيات -كما ذُكر سلفًا- مثّل ضغطًا على البنية التحتية للمنظومة، وانخفاضًا في عدد المستشفيات نسبة إلى أعداد المترددين، وتعذر على البعض الوصول للخدمات الصحية المختلفة، مما أدى إلى إطلاق الهيئة العامة للرعاية الصحية تطبيقات ومنصات إلكترونية متنوعة لخدمات الحجز والكشف وتسليم الأدوية بالمنازل، وتقديم الاستشارات الطبية عن بُعد؛ وذلك لتخفيف الضغط على المنظومة الصحية، والوصول الآمن للخدمات الصحية خلال الأزمة.
تداعيات مستقبلية
كشفت وزارة الصحة والسكان عن ثلاثة سيناريوهات لتأثير الزيادة السكانية على متطلبات قطاع الصحة في مصر، وذلك وفقًا لأهم نتائج وتوصيات دراسة التنبؤات السكانية لمصر “2020 – 2050 ” وهي كالآتي:
السيناريو الأول: تمثل في عدم ضبط الزيادة السكانية والوصول إلى معدل الإنجاب الكلي 3.5 طفل لكل سيدة. ووفقًا لهذا السيناريو يصبح عدد سكان مصر حوالي 183 مليون نسمة عام 2050 وفي تلك الحالة:
- يلزم رفع أعداد أعضاء هيئة التمريض من 214 ألف ممرض عام 2017 إلى 429 ألف ممرض عام 2050.
- يلزم رفع عدد الأطباء المطلوب توفيرهم في كافة القطاعات الصحية من 128 ألف طبيب في عام 2017 إلى 257 ألف طبيب عام 2050.
السيناريو الثاني: يتوقع ثبات معدل الإنجاب الكلي عند الوضع الحالي وهو (3.07 طفل لكل سيدة)، ومن ثم يصبح عدد سكان مصر حوالي 160 مليون نسمة عام 2050 وفي تلك الحالة:
- يلزم رفع عدد المستشفيات من 2000 مستشفى تقريبًا عام 2017 إلى 3 آلاف مستشفى عام 2050.
- يلزم توفير عدد أسرّة من 132 ألف سرير عام 2017 إلى 265 ألف سرير عام 2050.
السيناريو الثالث: توقع الوصول بمعدل الإنجاب الكلي إلى 2.4 طفل لكل سيدة، في حال تطبيق الاستراتيجية القومية للسكان. ووفقًا لهذا السيناريو سيكون عدد سكان مصر حوالي 152 مليون نسمة عام 2050 وفي تلك الحالة:
- يلزم رفع عدد الأطباء في كافة القطاعات الصحية من 128 ألف طبيب في عام 2017 إلى 207 ألف طبيب في عام 2050.
- يلزم رفع أعداد أعضاء هيئة التمريض من 214 ألف ممرض عام 2017 إلى 345 ألف ممرض عام 2050.
- يرتفع عدد أسِرّة المستشفيات المطلوب توفيرها من قبل وزارة الصحة من 132 ألف سرير عام 2017 إلى 213 ألف سرير عام 2050.
وفي ذات السياق، صرحت وزارة الصحة والسكان بأن في حالة الزيادة السكانية بواقع مليوني فرد فقط سنويًا يكون القطاع الصحي مُلزمًا بتحمل خدمة طبية تكلفتها 13 مليار جنية، وذلك لتجهيز:
- حوالي 40 مستشفى إضافي بتكلفة مليار جنيه.
- تدشين 15 مركزًا صحيًا بتكلفة 25 مليون جنيه للمركز.
- إنشاء 50 وحدة صحية بتكلفة 15 مليون جنيه.
- توفير 80 عربة إسعاف بتكلفة 174 مليون جنيه.
- زيادة 4 آلاف طبيب و40 ألف ممرضة سنويًا لخدمة مليوني شخص فقط.
تخفيف الضغط على المنظومة الصحية
في ظل الزيادة السكانية المتسارعة، عملت الدولة المصرية على تخفيف العبء عن المنظومة الصحية على نطاقين؛ الأول وهو: التوسع في إتاحة المستشفيات ومراكز الإسعاف لاستيعاب الطلب المتزايد على الخدمة، بالإضافة إلى ميكنة المنظومة الصحية. ويتمثل النطاق الثاني في سد احتياجات المستشفيات من الأطقم الطبية.
وفي الفترة الممتدة بين الأعوام 2015- 2018، أنشئ وطُور ما يقرب من 67 مستشفى و44 مركزًا متخصصًا لأمراض النساء والتوليد بتكلفة إجمالية بلغت 9.2 مليار جنية. وزاد عدد أسرّة الرعاية المركزة من 1968 إلى 5144 سريرًا، وعدد الحضانات من 2269 إلى 5046 حضانة.
كذلك، تم تطوير 122 مستشفى علاجيًا، و35 مركزًا تابعًا لأمانة المراكز الطبية، و8 عيادات جراحات اليوم الواحد و5 مستشفيات للحميات خلال الفترة الممتدة من 2014 وحتى عام 2020. وفي العام المالي 2020-2021، اعتُمد مبلغ 4.8 مليار جنية لمستشفيات المرحلة الأولى من قانون التأمين الصحي الشامل. وقرابة 800 مليون جنية لتطوير أقسام الرعاية الحرجة ونحو 222 مليون جنية للمستشفيات النموذجية.
وفيما يتعلق بخدمات الإسعاف، فقد جرت مضاعفة عدد مراكز الإسعاف على مستوى الجمهورية وارتفاع عدد الحالات التي تم إسعافها، وخلال الفترة الممتدة بين الأعوام 2014 حتى 2017، جرى تجهيز وتشعيل قرابة 1315 سيارة إسعاف، وفي 2018 بلغ إجمالي عدد العاملين بمراكز الإسعاف نحو 17 ألف فرد.
وفيما يخص سد حاجة المستشفيات والمراكز الطبية من الأطقم الطبية، فقد أصدر رئيس مجلس الوزراء -بناءً على توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي- قرارًا بمد سن المعاش للأطقم الطبية؛ بهدف الاستفادة من خبراتهم الطبية وسد العجز داخل المستشفيات، وقررت وزارة الصحة زيادة أعداد الملتحقين بكليات الطب بالتعاون مع وزارة التعليم العالي.ختامًا، تشير البيانات والمؤشرات السالف ذكرها إلى أن هناك فرصًا جادة في تطوير النظام الصحي تتحقق إذا ما تضافرت جميع المؤسسات في الحد من الزيادة السكانية التي تعرقل جهود الدولة المصرية في تحقيق خطط التنمية.
.
رابط المصدر: