- يفتَحُ الإصرار الإسرائيلي على تغييب جيل كامل من الكوادر القياديّة التاريخية في “حزب الله” اللبناني، بابَ السؤال عن مستقبل هذا التنظيم المُسلّح، وأدواره المحلية والإقليمية.
- الخروج المباغت لجيل الآباء المؤسسين لحزب الله، وصعود جيل الأبناء من دون سلوك مسار التدرُّج، سيؤدي إلى تداعيات واسعة، ستُلقي بظلالها على طبيعة تحرُّكات الحزب، وتماسُك خطوطه.
- بات مصير “حزب الله” منكشفًا على أحد احتمالين كبيرين؛ إما بقاء الهيكل التنظيمي للحزب مُتماسكًا، أو انفراط عقده، وتفككه، وذهابه نحو سيناريوهات الانشطارُ، أو التّشظّي والانقسامُ.
- لعل الخطر الأكبر على لبنان والمنطقة، يتمثّل في احتمال تشظّي “حزب الله”، بما يملكه من مخزون سلاح كبير، إلى مجاميع منفلتة وعصابات متنافسة، على غرار ما حصل بعد قرار حلّ الجيش العراقي عام 2003.
توّجت إسرائيل مُسلسَل اغتيالات القيادات الميدانية لـ “حزب الله”، والذي امتدّ على مدار هذا العام، بضربات مُتتالية كُبرى، وصادمة، أتت على معظم “الجيل المؤسس” من قيادات الحزب؛ الميدانية والسياسية، والشرعية: اغتيال رئيس أركان الحزب، وتصفية قادة فرقة الرضوان، وعملية اغتيال حسن نصر الله، ثم اغتيال هاشم صفي الدين، وغيرها.
ومن الأهمية بمكان معرفة الغاية الاستراتيجية الإسرائيلية من مُسلسل الاغتيالات والتصفية الذي أرادت “تل أبيب” من طريقه القضاء على كامل الصفّ القيادي الأول للتنظيم اللبناني الشيعي الذي يعتبره المراقبون الذراع الأهم للمشروع الإيراني للتوسع الإقليمي، كما تعتبره إسرائيل العدو الأول ضمن خريطة أعدائها الكثر. إذ تُشير طبيعة العمليّات الإسرائيلية إلى أنها استهدفت تدمير بُنية الحزب القياديّة، قبل تدمير بنيته التسليحية والعسكرية؛ ما يجعل كمًّا كبيرًا من العتاد والمقاتلين من دون رأس وقيادة فاعلة.
ويبدو أن إسرائيل تتحفظ على ذكر أو إيضاح الهدف الاستراتيجي من هذا السلوك الميداني، وإن كانت تقول إنها تتوخى من كل ما تقوم به على الجبهة اللبنانية، ضمان عودة آمنة للمستوطنين الإسرائيليين إلى مستوطنات الشمال، وتقليص قدرة الحزب على تهديد إسرائيل، ووقف محاولاته لتقديم الإسناد لـ “حركة حماس”، حيثُ يواصل الحزب منذ الثامن من أكتوبر 2023، استهداف إسرائيل ضمن ما يُسميها “معركة الإسناد” لغزة.
سؤال المصير
يفتَحُ الإصرار الإسرائيلي على تغييب جيل كامل من الكوادر القياديّة التي ساهمت في نشوء الحزب، وصنعت قراراته، وقادت حروبه، وأدواره على مدار 35 عامًا، بابَ السؤال عن مستقبل هذا التنظيم المُسلّح الذي انخرط في العملية السياسية اللبنانية، وفي مختلف الصّراعات الإقليمية، بوصفه لاعباً محوريّاً في شبكة الميليشيات الموالية لإيران، فضلًا عن مشاركته على مستوىً واسعٍ في نشاط اقتصاديّ أسود.
وعلى صعيد تغييب القيادة العليا للحزب، كان حسن نصر الله قائدًا كاريزميًّا، يتمتّعُ بحضورٍ، وتأثير لافتَيْن في الأوساط الشيعيّة بخاصة، والعربيّة والإسلاميّة بشكلٍ عامّ، وهو ينتمي إلى فئة القادة الذين يحلمون بالزعامة، والمشاريع الكبرى. وتولّى “نصر الله” منصب الأمين العام في عام 1992، قبل أنّ يتحوّل على مدى ثلاثة عقود إلى قائد ذي رمزيةٍ، وحضورٍ طاغيين في الساحتين اللبنانية، والإقليمية. وكما هو شأنُ كُلّ القيادات الكاريزمية في المنظمات غير الديمقراطيّة، خدمته هذه الكاريزما، وخدمت الحزب في تجاوز الكثير من المحن، وسهّلت عليه اتخاذ القرارات الحاسمة والسريعة، وأضفت الشرعية على العديد من القرارات الجدليّة، وحافظت على قدر كبير من التماسك الداخلي. فكان “نصر الله” في حزبه، صاحب كلمة الفصل الذي يعلو صوته فوق كلّ السِّجالات، والخلافات، ويُنهي كل النقاشات داخل أروقة الحزب.
ويمكنُ القول إن هذه “الكاريزمية” أنقذت الحزب في منعطفات تاريخية صعبة، وكثيرة، وأعادت تشكيل المشهد السياسي في لبنان. لكنْ كما هو الحال في كل التنظيمات والمؤسسات الخاضعة لهذا النوع من القيادات فإنّ غياب “القائد الكاريزمي” بشكل مفاجئ يضع تلك التنظيمات على حافة أزمة صعبة، قد لا تستطيع تجاوزها، أو التعايش معها. وهذا ما تستخلصه العلوم السياسية من التجارب التاريخية التي تُظهِرُ تحولًا نوعيًّا في المؤسسات، بعد غياب “القادة الكاريزميين”. ولن يكون “حزب الله” استثناء في التجربة السياسية.
وفي حالة “حزب الله” يأتي غيابُ “القائد الكاريزمي” مُترافقًا مع هزّات استراتيجية، وغياباتٍ عديدةٍ كُبرى، جعلت مصير الحزب كُلّهُ موضع تساؤُلٍ. ومن دون السقوط في فخ المبالغة، يمكن القول إن مصير الحزب بات منكشفًا على أحد احتمالين كبيرين؛ الأول، بقاء الهيكل التنظيمي للحزب مُتماسكًا، بحيثُ يتواصل التوريث التقليدي للسلطة، سواء كان هذا التوريث لصالح “قائد كاريزميّ” جديد، أو اتّجهت الأمور نحو تشكيل منظومة قيادة جماعيّة ومؤسساتية. وأما الاحتمال الثاني، فهو انفراط العقد، والتفكك، والذهابُ نحو سيناريوهات الانشطارُ، أو التّشظّي والانقسامُ.
ويبدو الاحتمال الأول صعبًا بشكلٍ مُتزايدٍ، نتيجة مركزيّة دور “نصر الله”، وصعوبة تعويضه من جهة، ونتيجة الإصرار الإسرائيلي على اغتيال القيادات البديلة، والصاعدة من جهة ثانية. ومع ذلك، إذا استتبّ الأمر لخليفةٍ مُقتَدِرٍ، يملأ الفراغ الناجم عن غياب “نصر الله” فإنّ احتمال الانشقاق الداخلي، وتشظّي التنظيم سيكون مستبعدًا إلى حدٍّ كبير؛ فقد يتمكّن القائد الجديد من توحيد الصفوف، ليقوم بعد ذلك بتصفية للكوادر المتمرّدة، وغير المُنصاعة، إمّا عبر استبعادها، أو عبر تصفيتها، وتحييدها. وهذا ما حدث في بداية عهد “نصر الله”، وحدث أيضًا في عملية التحوُّل الدامية التي مرّ بها “الحرس الثوري” الإيراني في ثمانينيات القرن العشرين. وهو ما يحدث عادةً في كُلّ الانتقالات الناجحة للسلطة في التنظيمات والفصائل الميليشياوية. لكن في ظلّ غياب شخصية تتمتع بهذا الحضور والتأثير، وغياب الجيل المؤسس الذي يُساعد الخليفة على إقرار مكانته فإنه يظلُّ احتمالًا صعبًا. ويتطلّبُ هذا الاحتمال لجوء القائد الجديد إلى مُمَارسة سلوك ميداني مُتطرّف، وناجحٍ، ومُثيرٍ للإعجاب، بحيثُ يقود إلى استقطاب القيادات الميدانية الجديدة.
خيارات “حزب الله”
على الرغم من وجود نائب للأمين العام للحزب (نعيم قاسم)، فإنّ استتباب الأمر له يبدو صعبًا، خصوصًا في ضوء ضعف كاريزما الرجل، وغياب قادة الجيل الأول، والأنباء عن مقتل الأمين العام المقترح هاشم صفي الدين، حتى قبل الإعلان رسميًّا عن توليه قيادة الحزب. ويبدو نجاح خيار القيادة الجماعية أيضًا مُنعدمًا في “حزب الله” باعتباره من المؤسسات ذات الطبيعة الحَرَكيّة، وغير الديمقراطيّة، والتي لا ينجح فيها هذا النوع من القيادة عادةً. وحتى في حال نجح الحزب بتكريس هذا النمط من القيادة مؤقّتًا، وبداعي الحفاظ على الوجود فإن هذا النّوع من القيادة سوف يُخلّ بفاعليّة الحركة في اللحظات الحرجة، ويجعل استجابة الحزب بطيئة، ويقضي على فرص “الإجماع”، و”الحسم”، والسرّية؛ وهي المبادئ الضروريّة لقيادة أي تنظيم عسكريّ، ينبني على أساس الانتماء العقائدي.
وفي ظلّ تغييب كُلّ القيادات المؤثّرة فإن خيار صعود “قائد كاريزمي” جديد باتَ مُستعصيًا الآن؛ فهو – أيْ القائد الجديد – سيحتاج إلى وقت طويل ليتحوّل إلى رمزٍ يُهيمن على القرار، هذا إنْ لم تنجح إسرائيل في اغتياله قبل ذلك. وفي ظلّ انعدام فرص القيادة الجماعية الكفؤة أيضًا، فمن الصعب تصوُّر أن يبقى شتاتُ هذا الحزب ملتئمًا تحت سقفٍ واحد. لكنّ الأسباب الموضوعية التي تقود عناصر الحزب إلى لمّ الشمل، والإبقاء على الوحدة كثيرة ومتعددة أيضًا؛ منها ما هو عائد إلى الوازع العقائدي، ومنها ما هو راجع إلى هاجس خروج الحزب كُلّه من دائرة السلطة والتأثير في لبنان والمنطقة، ومنها ما يعود إلى نجاح اتفاق محتمل حول تقاسم الصلاحيّات والغنائم بإدارة إيرانية. وكلّها خيارات واردة نظريًّا، خصوصًا في ظلّ احتمال تدخل “الحرس الثوري الإيراني” للحؤول دون تفرُّق شمل الحزب الذي يُعدُّ الذراع الإقليمي الأهم لإيران. لكنّ فشل التوصل إلى اتفاق واضح ومحكم حول توزيع الصلاحيّات، وعدم الشفافيّة في مقدار الغنائم والحصص، سيجعلان مهمة “الحرس الثوري” صعبة للغاية؛ خصوصًا وأنّ الغنائم لا يمكن الاستهانة بها. ولهذا كُلّه، يظلُّ خطر التفكّك مُحدِقًا بالتنظيم، وهو الأمر الذي أكادُ أجزمُ بأنّ القيادة الإسرائيلية تعرفه، بل وتسعى إليه.
ومن هنا تأتي أهمية السؤال عن الغاية الاستراتيجية التي تتوخّاها إسرائيل من عمليّة دفع “حزب الله” إلى التشظّي والانقسام، خصوصًا وأنّ هناك شبه إجماع داخل إسرائيل، وفي المنطقة والعالم، بأنّ تلاشي “حزب الله”، أو انتهائه، والقضاء عليه، أمرٌ غير ممكن التحقيق في أيّ مدىً منظور. وهناك إجماعٌ أيضًا على أن الحزب لا يزال يمتلك مخزونًا كبيرًا من السّلاح، ويمثّل -حتى الآن على الأقلّ – الثلث المعطل في المجال السياسي اللبناني؛ إذ إن نواب الحزب في البرلمان، وفي الحكومة اللبنانية، لم تنالهم شظايا التصفيات.
اقرأ المزيد من تحليلات «د. محمد الزغول»: |
إعادة تشكيل “حزب الله” لإعادة تشكيل البُنية الإقليمية
إنّ اغتيال “نصر الله” على رغم أهميته، ما كان إلّا حلقةً من مسلسل الاغتيالات التي غيّبت الجيل المؤسس في حزب الله، ومعه الصفّ الأول من القادة الميدانيين الذين يمتلكون قرار السّلاح، ويعني هذا التغييب صعود جيل صعيد من القيادات الميدانية الآمرة للسلاح، والتي ستمتلك زمام المبادرة في الحزب، شأنه شأن كل الفصائل التي يمتلك الكلمة الأخيرة فيها من يمتلكُ السلاح. لقد ذهب جيل الآباء الذين شدّتهم الرابطة العقائدية، وشهدوا لحظة الميلاد، وقادتهم الهواجس اللبنانية بمقدار الهواجس العقائدية، وامتازوا أحيانًا بدرجة من استقلالية القرار، والقدرة على التأثير في القرار الإيراني، وارتبطوا مباشرة بالقائد الإيراني الأعلى، ومكتبه، وحالوا دون تحوُّل الحزب إلى أداة بيد الجنرالات، والقادة المتعاقبين على “الحرس الثوري”، و”فيلق القدس”.
ومن المُرجَّح أنْ تتشكّل قيادة الحزب الجديدة من جيل الأبناء الذين تلقّوا تعليمهم، وتدريبهم في إيران؛ وهو جيلٌ يتحدّث الفارسية بطلاقة لا تقلُّ عن العربية. وقد نشأ هؤلاء الأبناء في زمن الرّخاء؛ حيثُ موارد الحزب وافرة، وإيراداته مُتواتِرة من مختلف المصادر، وسلاحُه مُتقدِّمٌ وفيرٌ، ولم يجرّبوا كما جرّب جيل الآباء زمن العُسْرة والعَوْز وقلّة الحيلة وقلة الموارد وندرة السّلاح. ومن المؤكّد أنّ الخروج المباغت لجيل الآباء المؤسسين، والصُّعود الدّفعي لجيل الأبناء من دون سلوك مسار التدرُّج، سيؤدي إلى تداعيات واسعة، ستُلقي بظلالها على طبيعة تحرُّكات الحزب، وتماسُك خطوطه.
وكان “حزب الله” قوّةً مُؤثِّرةً في المشهد اللبناني، تنخرط في مسار توافقي لتشكيل الحكومات قبل تحوله إلى قوة إقليمية، وتغوُّله في الداخل اللبناني؛ حيثُ تحوّل الثلث المُعطّل إلى ثُلثٍ مهيمن، وناب الحزبُ عن الطائفة الشيعية إلى جانب “حركة أمل” في تشكيل الحكومة. والحقيقة أنّ “حزب الله” لم يتحوّل إلى عقبة على طريق المسار السياسي التوافقي في لبنان، إلّا بعد انخراطه في الحروب الطائفيّة الإقليميّة التي أعادت تشكيل أولويّات الحزب وتصوُّراته وأنماط سلوكه.
وحتى في خلال سنوات الحرب في سورية، ظلّت الهواجس اللبنانية تقود الحزب بمقدار الهواجس العقائدية أو أقلّ قليلًا. ربّما نتيجة انصهار كبار قادة الحزب في المسار اللبناني، وكونهم كانوا مرتبطين بعلاقات تاريخية ببقيّة الوجوه المؤثرة في الساحة اللبنانية، شيعية كانت أم سنية أم مسيحية أم درزية. لكنّ الغياب المفاجئ لهذا الجيل، وصعود جيل الأبناء سيُحدِثُ فراغًا كبيرًا. إنّه جيلٌ لا يتمتع بنفس الروابط التاريخية التي تمتعَ بها آباؤه؛ وتتحكّم بقراره العقيدة الشيعية والتوجيهات الإيرانية من دون تأثير يُذكر للدوافع اللبنانية. ومن المؤكد أنّ ذلك سيترك بصمته على مجمل العملية السياسية اللبنانية.
ويمتلك “حزب الله” -حتى الآن – أكبر مخزون غير رسمي للسّلاح في منطقة الشرق الأوسط، وربما في العالم. وقبل اشتعال هذه الحرب، كانت التقديرات تتحدث عن امتلاك الحزب نحو 150 ألف صاروخ، علاوة على أسلحة مختلفة من بينها: راجمات، ومدفعيات، ومضادّات جوية، ومضادات دروع، ورشاشات متوسطة، وثقيلة إلى جانب عشرات الآلاف من البنادق الخفيفة، ومخزونات ضخمة من العتاد، وشبكات أنفاق معقدة.
ولعلّ الخطر الأكبر على لبنان والمنطقة، يتمثّل في احتمال انشقاق وتشظّي “حزب الله” إلى مجموعة من المنظمات والعصابات الإرهابية المتنافسة، والمنتشرة في الساحة اللبنانية، بحكم انتشار خريطة النزوح، وما يرافقه من تغييرات ديموغرافية؛ إذ في ظلّ توافر الحزب على كميات هائلة من السلاح، وأعداد كبيرة من المقاتلين المدرّبين، وذوي الخبرة الواسعة في الحروب الأهلية، والصراعات الطائفية فإن قدرات الجيش اللبناني المحدودة لن تكون قادرة على احتواء المخاطر، الأمر الذي سيضع الأمن الوطني اللبناني بمجمله على المحك، وسيقود إلى إجهاض طويل المدى للعملية السياسية اللبنانية، وإجهاد مؤسسة الدولة في لبنان أو إسقاطها لا سمح الله.
إن تشظّي قوة عسكرية كبيرة إلى مجاميع إرهابية، وتوزيع هذا المخزون من السّلاح على أمراء حرب متخالفين، يعيدُ إلى الأذهان ما آل إليه المشهد العراقي غداة اتّخاذ قرار حلّ الجيش العراقي، والذي جرّ العراق والمنطقة إلى عقدين من عدم الاستقرار، ولا تزال بعض مفاعيله قائمة. ولا ينبغي أبدًا السماح بتكرار مثل هذا السيناريو الخطير في لبنان. وإذا كان مثل هذا السيناريو مقبولًا من وجهة النظر الإسرائيلية لأنه ينقل الحزب من كونه مُشكِلةً لإسرائيل، ليصبح تهديدًا لبنانيًا وإقليميًّا ودوليًّا، فلا ينبغي أن يكون مقبولًا للأطراف الإقليمية، والدولية الأخرى، والتي قد تضطرّ لاحقًا إلى تشكيل تحالُفٍ يُشبه إلى حدٍّ كبير التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، من أجل احتواء مخاطر تشظّي “حزب الله”، وتحوُّله إلى مجموعة من المنظّمات الإرهابيّة المحليّة.
و”حزب الله” ليس ميليشيا عسكرية مدفوعة بأيديولوجيا عقائدية فحسب، إنه أيضًا واحد من أكبر كارتيلات تجارة المخدّرات في العالم، سواء على صعيد المخدرات التقليدية، أم المخدرات الحديثة والمصّنعة. وتُظهِر التحقيقات الدولية أن حجم أرباح تجارة المخدرات التي يديرها الحزب، يفوق المليار دولار في العام، وتتوزع في كل أنحاء العالم من الأمريكيتين إلى جنوب شرق آسيا مرورًا بأوروبا، والشرق الأوسط. ومن المؤكد أن جيل الآباء في الحزب كان يقود هذه التجارة بالتعاون مع قادة “الحرس الثوري”، بما يضع المصلحة الاقتصادية على الطاولة. ومعنى ذلك، أنّ غياب الجيل القديم، لا يعني تنافس الجيل الجديد على السلطة العسكرية أو السياسية فحسب، وإنما سيعني قبل هذا وذاك، اقتتالًا وتناحُرًا محتملًا جدًّا بين أمراء الحرب على تجارة المخدرات.
وخلاصة القول إنّ مسلسل الاغتيالات الإسرائيلية ضدّ قيادات “حزب الله”، يؤدي مفعولًا تكتيكيًّا تريده إسرائيل في ميدان المعركة؛ إذْ سيقلّص من قدرة الحزب على إدارة المعركة وخوضها، لكنّه سيفتح أبواب لبنان والمنطقة على المجهول، ويضع “حزب الله” على مشارف التشظّي، والانزلاق إلى مزيد من التطرُّف، والفوضى، وصعود أمراء الحرب. وذلك لأن القضاء على البُنية القياديّة للحزب يأتي من دون تدمير بنية الحزب العسكرية؛ ما سيجعل كمًّا هائلًا من السّلاح والعتاد، وعددًا كبيرًا من المقاتلين المُدرّبين، وذوي الخبرة في المعارك بلا رأس أو قيادة قادرة على توجيههم والتحكُّم بسلوكهم. وهو سيناريو مشابه لما شهدته المنطقة في التجربة العراقيّة بعد قرار حلّ الجيش العراقي عام 2003. وفي ظل ما يعانية لبنان، وجواره من مظاهر ضعف “الدولة الوطنية” فإن تسرُّب هذه المخاطر إلى باقي دول المنطقة والعالم، أمرٌ متوقعٌ للغاية؛ ما سيتطلّب جهدًا إقليميًّا ودوليًّا لاحتوائها، والتعامل معها.