بسنت جمال
اشتدت حدة الخلافات بين المملكة العربية السعودية ولبنان الأيام القليلة الماضية مما أسفر عن استدعاء المملكة سفيرها من بيروت للتشاور وطلبها من سفير لبنان لديها مغادرة البلاد خلال 48 ساعة، بالإضافة إلى فرض حظرًا شاملًا على جميع الواردات من لبنان، كما أوقفت جميع الشركات السعودية تعاملاتها بالكامل مع نظيرتها اللبنانية، ليصبح تعليق التعاون الثنائي ساريًا على كافة المستويات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية. وقد حاولت العديد من الأطراف تهدئة الموقف بين الدولتين حيث أجرى الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية “حسام زكي” مباحثات مع قادة لبنان بهدف تجاوز الأزمة مع السعودية، فيما ناشدت فرنسا دول الخليج عدم عزل لبنان بسبب الخلافات الدبلوماسية.
جذور الخلاف بين البلدين
تأججت التوترات الدبلوماسية والسياسية بين الرياض وبيروت عقب تداول تصريحات وزير الإعلام اللبناني “جورج قرداحي” في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي انتقد فيها التحالف العسكري الذي تقوده المملكة في اليمن، حيث أكد أن صنعاء قد تعرضت للعدوان وأن الحوثيين المتحالفين مع إيران يدافعون عن أنفسهم.
ولكن لم تكن أزمة تصريحات “قرداحي” هي الوحيدة التي تؤثر على سير العلاقات بين الدولتين؛ إذ إنها كانت متوترة قبل هذا الحدث، ولكنها لم تصل إلى حد طرد السفير اللبناني من البلاد أو حظر الواردات بشكل تام، وذلك بسبب الدور المتنامي الذي لعبه حزب الله في البلاد حيث أكدت السلطات السعودية أن الحزب يقوم بتوفير الدعم والتدريب لميليشيات الحوثي الإرهابية.
وبالإضافة إلى ذلك، قررت السعودية أبريل الماضي وقف استيراد المنتجات الزراعية اللبنانية بسبب محاولات تهريب المواد المخدرة من لبنان إلى المملكة في ظل عدم اتخاذ الحكومة الإجراءات التي طالبت بها السعودية لوقف تصدير تلك المواد بداخل الخضراوات والفواكه، وعدم التعاون في تسليم المطلوبين للمملكة بما يخالف اتفاقية الرياض للتعاون القضائي. كما طالبت وزارة الخارجية السعودية أكتوبر الماضي مواطنيها بعدم السفر إلى لبنان نظرًا لاضطراب الأوضاع الأمنية والسياسية؛ إذ لا يزال مدرجًا على قائمة المملكة للدول الممنوع السفر إليها من دون الحصول على إذن مسبق منذ منتصف مايو 2021.
العلاقات الاقتصادية السعودية –اللبنانية
يُنظر إلى السعودية على إنها رئة الاقتصاد اللبناني، حيث ساهمت الأولى في ضخ مليارات الدولارات لمساعدة بيروت بعد انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا في لبنان وانتهت في عام 1990، وخلال الفترة الواقعة بين عامي 1990 و2015، تجاوز حجم المساعدات نحو 70 مليار دولار بشكل مباشر وغير مباشر، بين استثمارات ومنح وهبات، وقروض ميسرة وودائع في البنوك والمصارف. كما تعتبر المملكة عنصرًا رئيسيًا في توفير العملات الأجنبية للاقتصاد اللبناني، حيث يعمل آلاف اللبنانيين في السعودية ويرسلون تحويلات مالية إلى بلادهم، كما استحوذ السائحين السعوديون على نحو 13% من إجمالي إنفاق السائحين في لبنان خلال عام 2016.
وعلاوة على ذلك، احتلت السعودية المركز الثاني في قائمة مستوردي المنتجات اللبنانية بعد الإمارات العربية المتحدة بحلول الربع الأول من عام 2021، حيث استحوذت على حوالي 7.7% من إجمالي الصادرات خلال الثلاث أشهر الأولى من العام الجاري، وفيما يلي عرضًا لحجم التبادل التجاري بين الدولتين منذ عام 2017 حتى 2021:
الشكل 1 – التبادل التجاري بين السعودية ولبنان (مليون دولار)
المصدر: مصرف لبنان المركزي، النشرة الإحصائية الشهرية.
يتبين من الرسم السابق أن الميزان التجاري بين الدولتين يصب في صالح السعودية في غالبية الفترة محل الدراسة بسبب تجاوز قيمة الواردات اللبنانية من السعودية قيمة صادراتها إليها، ليتحول بعد ذلك لصالح لبنان منذ الربع الأول من العام الماضي وحتى نفس الربع من العام الجاري مسجلًا فائضًا تجاريًا يبلغ 4.4 مليون دولار.
كما يتضح تراجع قيمة الصادرات اللبنانية للسعودية من 58.3 مليون دولار خلال الربع الأول من 2017 إلى 53.5 مليون دولار خلال الربع الأول من 2021، وهو ما يمثل تراجعًا بنحو 8.23%، في حين انخفضت قيمة الواردات اللبنانية منها بنحو 42.8% من 85.9 مليون دولار لتصل إلى 49.1 مليون دولار.
تداعيات واسعة النطاق
ينبع حجم الضرر الذي سيقع على الاقتصاد اللبناني جراء انقطاع العلاقات مع السعودية وحظر الواردات من مدى اعتماده عليها في توفير الاحتياطي من النقد الأجنبي للبلاد بداية من الصادرات، والسياحة، وتحويلات العاملين بالخارج، وتدفق الاستثمارات، وهو ما يُمكن عرضه في السطور الآتية:
1.اتساع عجز الميزان التجاري:
تتمثل أبرز نتائج الخلاف بين الدولتين في تعميق عجز الميزان التجاري للاقتصاد اللبناني خاصة مع خسارة قيمة الصادرات إلى السعودية –التي تُعد شريك تجاري رئيسي للبنان- مما يعني تراجع الاحتياطات النقدية ويعيق قدرة الدولة على سداد فاتورة الاستيراد ومدفوعات خدمة الدين العام. وفيما يلي استعراض لعجز الميزان التجاري اللبناني حتى الربع الأول من العام الجاري:
الشكل 2 – عجز الميزان التجاري اللبناني (مليار دولار)
المصدر: مصرف لبنان المركزي، النشرة الإحصائية الشهرية.
يوضح الشكل السابق ارتفاع قيمة الواردات اللبنانية مقارنة بالصادرات طوال الفترة بين 2017 وحتى 2021، مما أسفر عن معاناة الميزان التجاري للبلاد من عجز دائم ومستمر وصل إلى 2.631 مليار دولار خلال الربع الأول من 2021 مع وصول الصادرات إلى حوالي 699 مليون دولار وتسجيل الواردات حوالي 3.329 مليار دولار.
2.مزيد من التدهور الاقتصادي:
من شأن الإجراءات السعودية الجديدة أن تعمق الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني الذي سيفقد سوقاً استهلاكيًا رئيسيًا في المنطقة، وسيكون القطاعين الزراعي والصناعي من أكبر الخاسرين إزاء تلك الخطوات؛ إذ تٌقدر حجم خسائرهما بنحو 92 مليون دولار و97 مليون دولار على الترتيب، فيما سيواجه المنتجون اللبنانيون عوائق في إيجاد أسواق بديلة لتصدير منتجاتهم الصناعية والزراعية، خاصة في ظل عدم تلبيتها لشروط وأحكام العديد من الدول الأخرى كالاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن يثقل تراجع الاحتياطي النقدي الضغوط التي تثقل كاهل الليرة اللبنانية حيث يتراوح سعرها حاليًا في السوق السوداء بين 21575 و21625 ليرة لكل دولار، كما سيؤدي تراجع الاستثمارات وقطع العلاقات مع الشركات اللبنانية إلى زيادة حركة تسريح العمالة وارتفاع معدلات البطالة، وقد يصب كل ما سبق في تعميق الانكماش الاقتصادي الذي يعاني منه الاقتصاد اللبناني بالفعل، كما يتبين من الرسم التالي:
الشكل 3- معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (%)
Source: World Bank, Lebanon Economic Monitor (spring 2021).
يتبين من الرسم السابق تسجيل الاقتصاد اللبناني نموًا في الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2010 وحتى 2017، ليحقق عقب ذلك انكماشًا غير مسبوقًا خلال عقد زمني عند 20.3% في 2020 مقارنة بنحو 6.7% خلال 2019، و1.9% خلال 2018.
.
رابط المصدر: