بعد أن كانت نظرية التدخل في السياسة ومبدأ ولاية الفقيه مقززة للبعض باعتبار أن الدين ورجال الدين ومراجع الدين عادة يتصفون بالنزاهة لا يلوثون أنفسهم بقذارة هذه الدنيا الدنية ووظيفتهم الأساسية هي النصح والإرشاد فقط ، أما السياسة فهي حقل مليء بالانحرافات والكذب والخداع والمراوغة وكل تلك الصفات لا تتناسب مع الدين ورجاله ومراجعه ، وبالتالي سيتلوث الدين ومن يرتبط به بهذه القذارة الناتجة من تصرفات السياسيين ولظروف اقتضتها السياسة .
وهذه الفكرة – فكرة تلوث الدين ورجاله بقذارة السياسة – غير صحيحة ويراد منها عزل الدين عن مجالات الحياة وعن أهم مجال في هذه المجالات وهي السياسة ، فبدل أن نفكر أن نلوث الدين بقذارة السياسة علينا أن نفكر بسياسة نظيفة بنظافة الدين ، فعندما يكون الثوب متسخاً هل نتركه بوساخته بحجة أن لا يتلوث الماء النظيف بوساخة ذلك الثوب أم نسعى جاهدين لإزالة هذه الوساخة من الثوب بأي شكل من الأشكال حتى ولو بالأقل الممكن ؟! المهم سنعتبر هذه الفكرة صحيحة وصائبة وأن لها تبعات سلبية على الدين .
نريد اليوم أن نناقش تدخل المرجعية في مجال آخر من مجالات الحياة المهمة ، فما دام المرجعية ورجال الدين لا يتدخلون في السياسة لقذارتها فتدخلهم في الدين أمر لا إشكال فيه عند المتدينين وعند غير المتدينين ، فعندما تتدخل المرجعية في أمور الدين مثل الصلاة والأمر بها او الصيام وتهيئة الأجواء له والحج وترغيب الناس به فهذا لا يغيض القريب من الدين ولا البعيد ولا الصديق ولا العدو ، وهذا التدخل يندرج ضمن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لا تقتصر على المؤسسة الدينية – مرجعيات ورجالات – وإنما هي مفروضة على كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة .
فمثلاً عندما تطالب المرجعية بحجب الموقع الإباحية هل هو تدخل في السياسة أم تدخل في الدين ؟! أو إذا دعت المؤسسة الدينية الى غلق الملاهي الليلية في بلد مثل العراق الذي يتمتع بخصوصيات دينية عديدة تفوق الخصوصيات الأخرى غير الدينية التي يتبجح البعض بالتمسك بها فهل هذا يعتبر تدخل في السياسة أم تدخل في الدين ؟! عندما تأمر المرجعية المؤمنين من المثقفين والنخب بمواجهة حركات الإلحاد بالحكمة والموعظة الحسنة هل هذا يعتبر تدخلاً في السياسة أم تدخلاً في الدين ؟! عندما ترفض المرجعية هجرة العقول والنخب المثقفة والأكاديميين الى خارج العراق بحجة الإرهاب وقلة الخدمات وغيرها من الأعذار هل يعتبر هذا تدخلاً في السياسة أم تدخلاً في الدين ؟! وعندما ترفض المرجعية الدينية الاختلاط في الأسواق والجامعات بين الجنسين فهل هذا من التدخل في السياسة أم من التدخل في الدين ؟! وحينما تدعو المؤسسة الدينية الى مواجهة الغزو الثقافي الذي هجم على أبناء الإسلام عن طريق الفضائيات والانترنت فهل هذا تدخل في السياسة أم تدخل في الدين ؟!
ومن المؤكد أن هذه التدخلات وغيرها هي في الدين وليس في السياسة بل العكس هو الصحيح ، فعندما تترك المرجعية – والمؤسسة الدينية عموماً – تلك التدخلات لإصلاح الوضع الديني للإنسان المؤمن وتوفير حياة تؤهله للتقرب من الله ستصبح عندها المرجعية غير دينية لأنها لم تتدخل في الدين الذي تتسم به ، فعندما تسكت المرجعية عن التبرج لدى النساء وارتفاع نسبة العلاقات الشرعية والخيانة الزوجية في المجتمع وزيادة حالات الكفر والإلحاد في المجتمع الإسلامي والسماح لملاهي الخمور والتسكع في الشوارع فهل يصح لنا أن نطلق عليها لقب (دينية) ؟! الجواب للقارئ .
قد يقول قائل أن المرجعية تتصدى في كثير من الأحيان – سواء في صلاة الجمعة أو في نجالس الوعظ والإرشاد أو في بعض المحافل الدينية – لبعض الانحرافات التي نراها في المجتمع ولكن لا أمر لمن لا يطاع ، وهذا قد يكون صحيحاً ولكن هل هو بالمستوى المطلوب ؟! بالطبع لا ، فما فائدة التوصيات والتوجيهات والإرشادات التي تطلقها المرجعية والمجتمع يزداد انحرافاً في كثير من المستويات الفكرية والأخلاقية والشرعية ؟! فكل أب مؤمن عندما يرى ابنه بدأ بالانحراف يسارع لانتشاله من وضعه بالقدر المستطاع كي يحافظ على تدينه والتزامه بأحكام دينه ، فإما أن ينصحه بترك الالتقاء بأصدقاء السوء إن كانوا هم السبب أو حتى منعه من ذلك ، أو محاولة إشغاله عن مصادر الانحراف مثل بعض الفضائيات ومواقع الانترنت وغيرها ، ولا يكتفي بالتوجيهات والنصح والإرشاد لأن هذا الأسلوب قد ينجح وقد يفشل ، فإذا فشل يبتكر الطرق والآليات المناسبة لهداية ولده حتى تنفد كل الوسائل .
وبما أننا ننظر الى المرجعية نظرة الابن الى الأب وهي تنظر إلينا بنظرة الأب الى الابن ، فلا يمكن أن ترى أبناءها ينحرفون وتكتفي بالتوجيهات والإرشادات ، فنتوقع أن تضع آليات لتغيير واقع المجتمع المنحرف كي ترفع مستواه الى المستوى المطلوب من الإيمان ، ومن يرى المستوى الإيماني لمجتمعنا يستنتج أنه لا توجد – للأسف – آليات عملية لإنقاذ المجتمع وأبنائه مما هم فيه ، ويبدو أن المرشدين والموجهين الدينيين من المؤسسة الدينية اكتفوا بالإرشادات والتوجيهات والتوصيات ، وبما أن المجتمع لم يسمع لهم بقى الوضع متردياً بل وزاد انحرافاً فكرياً وأخلاقياً .