مقدمة
بعد فشل المخابرات المصرية في تحقيق تهدئة بين حماس وإسرائيل قبل شهرين نجحت فيها قطر، وإخفاق مصر في عقد اجتماع الفصائل الفلسطينية التي استطاعت تركيا تحقيقه، تزايدت الدعوات الإسرائيلية لإنقاذ نظام السيسي من عزلته عن الملف الفلسطيني، لما له من أهمية كبيرة لدى إسرائيل، باعتباره حليفا لها، بعكس حكام قطر وتركيا.
صحيح أن هناك بعض الفجوات بين مواقف إسرائيل ومصر حول قضايا التسوية الدائمة مع الفلسطينيين، لكن المصالح المشتركة مع نظام السيسي تتزايد في مجالات أخرى، الأمر الذي يدفع إسرائيل للبحث عن كل فرصة لتسخير القاهرة في جهد سياسي، حيث بدأت دول الخليج وتركيا في الآونة الأخيرة تلعب دورا رئيسيا أمام الفلسطينيين.
وفيما تصدرت قطر مباحثات التهدئة بين حماس وإسرائيل، مع استمرار تقديم المساعدات الاقتصادية لقطاع غزة، فإن تركيا نجحت باستضافة تحركات المصالحة الفلسطينية الداخلية، ووضع بصماتها عليها. وهذه التدخلات الإقليمية في الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية تجعل المصلحة الإسرائيلية طويلة الأمد تذهب باتجاه تعميق مشاركة مصر بهذه الأحداث، مع وجود جهود مشتركة بينهما، من أجل مستقبل البحر المتوسط، وحشد دعم واشنطن.
وتتعلق المصلحة الإسرائيلية مع مصر أساسا بالحفاظ على الهدوء في الجبهة الجنوبية مع قطاع غزة، وتعزيز الردع ضد حركة حماس، وإيصال رسالة للفلسطينيين مفادها أن يدركوا أنه لا يوجد أمامهم بديل للدور المصري، لأن مكانتها في المنطقة مهمة لإسرائيل للكثير من الأسباب والاعتبارات.
المصلحة الإسرائيلية
من هذه الأسباب أن مصر تعتبر أهم جيران إسرائيل، وشريكتها في السلام؛ وعلى مدى 41 عاما، اعتاد الإسرائيليون على اعتبار العلاقات مع مصر أمر مفروغا منه، الأمر الذي يحتم على المنظومة الأمنية والسياسة الخارجية والاستخبارات في إسرائيل، وعلى رأسها المستوى السياسي، ليس فقط الحفاظ على مكانة مصر، بل تعزيزها كقوة مؤثرة في الساحتين الفلسطينية والإقليمية.
مصر تحت قيادة السيسي تشارك إسرائيل في مجموعة واسعة من المجالات؛ وتعميق مشاركتها في الساحة الفلسطينية سيخدم مصالحهما الاستراتيجية طويلة الأجل، مما سيكون له تأثير إيجابي على واشنطن أيضا، ورغم أن رد القاهرة السريع على إعلان تطبيع العلاقات الإسرائيلية الخليجية جاء إيجابيا، فإن مصر لعبت دورا رئيسيا في قرار الجامعة العربية بعدم الاستجابة لطلب الفلسطينيين عقد جلسة استماع طارئة لإدانة التطبيع.
مع العلم أن إسرائيل ترى في السلوك المصري الحالي متناقضا مع النمط الذي اتسمت به السياسة المصرية في التسعينيات، عندما هاجمت مرارا وتكرارا “القدم الجريئة” للدول العربية تجاه إسرائيل، لكن القراءة الإسرائيلية لا تبدي استغرابها من الموقف المصري الحالي، فالإمارات والسعودية، كانتا ولا تزالان، داعمتين رئيسيتين لمصر، وتحديدا نظام عبد الفتاح السيسي.
رغم ذلك فإن المعطيات الإسرائيلية المتوفرة تشير إلى وجود قلق، أو على الأقل عدم ارتياح في القاهرة، كلما طغت دولة أخرى في منطقة البحر المتوسط والعالم العربي على دورها التقليدي، وبعيدا عن اعتبارات صورتها الذاتية، فإن لذلك آثار عملية واستراتيجية، وحتى اقتصادية، على طريقة نظرة دول المنطقة والنظام الدولي لمصر، في الغرب والصين، التي تعتبر سياستها الاستثمارية مهمة لمستقبل مصر.
السيسي بطبيعة الحال له مصلحة في عرقلة محاولات تركيا للتدخل في المشهد الفلسطيني، لأن أردوغان دأب على التنديد به منذ انقلابه في 2013، وهما الآن في مواجهة مباشرة، ولذلك من المهم لإسرائيل ألا يكون السيسي في موقف ضعيف، فالاقتصاد المصري الذي تضرر بشدة من كورونا، يمر بأزمة عميقة اليوم، مما يعزز في الوقت نفسه أهمية الاعتبارات السياسية والاستراتيجية.
الحضور التركي
كما تتزامن المتابعة الإسرائيلية للدور التركي النشط بتعزيز المصالحة الفلسطينية مع الصعوبات التي واجهها المصريون في تحقيقها، لكنهم فشلوا مرارا في ذلك، كما أن مصر نفسها لا تملك الموارد اللازمة لمساعدة سكان القطاع في محنته، ومن هنا تأتي الحاجة لحقائب المال القطرية، ولذلك لا خيار أمام إسرائيل سوى العمل مباشرة مع قطر بهذا الشأن.
في الوقت ذاته فإن مصلحة إسرائيل الأساسية وطويلة الأمد بالحفاظ على مكانة مصر السيسي لا تزال قائمة لمواجهة حركة حماس في غزة، فالقطاع يمتلك موقعا جغرافيا واستراتيجيا يمنح مصر أداة تأثير لا يمتلكها أي عامل خارجي آخر.
أما عن العلاقة المصرية مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فإن إسرائيل مهتمة بهذه التحركات؛ لأن مصر، باعتبارها الراعي التقليدي للسلطة، قادرة على تكييفها مع الواقع السياسي الجديد الخاص بالتطبيع مع دول الخليج، ترغيبا وترهيبا، حيث تعتقد إسرائيل أن بإمكان نظام السيسي بعد أن تهدأ موجة الغضب الأولية للسلطة الفلسطينية بشأن علاقاتها مع الإمارات والبحرين، إقناعها بتعديل مواقفها، وإسرائيل من جهتها تحتاج للنظر في كيفية مساعدة على القيام بذلك.
على صعيد التحركات الميدانية، فقد كان لافتا أن يصل وفد رسمي من قيادة حركة فتح التي يترأسها الرئيس محمود عباس إلى تركيا؛ لإجراء لقاءات مع وفد من قيادة حماس، للتباحث حول إنهاء الانقسام، وتطبيق توصيات لقاء الأمناء العامين الأخير في بيروت، وبحث تفعيل “القيادة المشتركة”.
وسبق وصول وفد فتح، اتصال هاتفي من عباس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طالبا منه دعم التوجه الفلسطيني نحو تحقيق المصالحة، والذهاب للانتخابات، ووضعه في صورة حوارات فتح وحماس والفصائل الفلسطينية، وطلب توفير مراقبين أتراك للمراقبة على الانتخابات المقبلة.
شكّل لقاء الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في بيروت أوائل سبتمبر ثلاث لجان، أهمها لجنة الحوار بين فتح وحماس لإنهاء الانقسام، ولذلك فإن لقاءات اسطنبول الأخيرة تأتي مقدمة لحوار كافة الفصائل، وليس لدى الفلسطينيين مشكلة مع أي دولة تستضيف حواراتهم، لكن لكل بلد ظروفه الخاصة.
كما يبدو، فإن مصر بحاجة الموقف الأمريكي في مفاوضات سد النهضة، وبالتالي فهي حريصة على عدم إغضاب الأمريكان في الملف الفلسطيني، ولذلك فإن الحماسة المصرية السابقة في الساحة الفلسطينية تتراجع نسبياً، رغم أن الفلسطينيين معنيون بعلاقاتهم مع جميع الدول والأطراف، وترميم اتصالاتهم بهم.
وفيما شهدت فيه اسطنبول اللقاءات الأخيرة بين فتح وحماس، فقد التقى إسماعيل هنية زعيم حماس بالرئيس أردوغان، مما قد يشير لحضور أنقرة على حساب عواصم عربية في المشهد الفلسطيني غاب دورها، خاصة القاهرة.
يأتي تركيز الفلسطينيين على التواجد الدائم في تركيا، وطلب دعمها، بعد خيبة أملهم من القاهرة، التي انحازت لجوقة التطبيع الجارية، وعارضت الموقف الفلسطيني، الرسمي والشعبي، الرافض له، مع بقاء السؤال حول قدرة أنقرة على استبدال نفوذ القاهرة في الساحة الفلسطينية.
تبدو المواقف التركية من جهتها داعمة للقضية الفلسطينية، ورافضة للهرولة العربية، والخليجية تحديدا، ولاشك أن الموقف التركي متوازن مع جميع الأطراف الفلسطينية بين فتح وحماس، وحريص على تحقيق المصالحة، ويدعم الموقف الفلسطيني الرافض للتطبيع.
إفشال المصالحة
كاتب هذه السطور علم من أوساط مصرية، أن القاهرة سعت لعقد لقاءات فتح وحماس لديها، لكن الأمر لم يحظ بموافقتهما، ربما خشية من احتجاز هنية في القاهرة، وعدم السماح له باستكمال جولته الخارجية، فيما مارست السعودية ضغوطا كبيرة على لبنان لعدم عقد لقاء قادة الفصائل الفلسطينية، لكن إيران وحزب الله استخدمتا نفوذهما على مؤسسات الدولة اللبنانية لإنجازه.
جاء احتضان تركيا للقاءات الفلسطينية عقب غياب مصر عنها، وانشغالها بملفات داخلية وإقليمية، وعدم تحمسها لمصالحة فتح وحماس، لأنها تدرك أن الأمر لا يحظى برضا إسرائيلي وأمريكي، بل تنظران بقلق لهذه اللقاءات.
أكثر من ذلك، فقد أتت الحوارات الأخيرة بين حماس وفتح في اسطنبول بسبب انكفاء السلطة الفلسطينية عن محور مصر والسعودية، وشعورها بأن هذا المحور الذي استندت عليه السنوات السابقة في طريقه للانهيار، مما جعلها تشعر أنها في مأزق جدي نتيجة المواقف العربية الأخيرة تجاه إسرائيل، ودفعها لأن تذهب باتجاه تعميق علاقتها بحماس.
مع العلم أن هناك استقطابا داخل السلطة الفلسطينية بالنسبة لزيادة نفوذ الأتراك بين الفلسطينيين، وغياب مصر عن ساحتهم، خشية منح حماس تأثيرا إضافيا، لكن هرولة الخليج باتجاه اسرائيل منح التيار الداعم للنفوذ التركي في السلطة الفلسطينية قوة وتأثيرا، ومع ذلك فقد بعثت السلطة برسائل طمأنة لمصر بأن تركيا لن تكون بديلا عنها، رغبة بتهدئة مخاوفها، ولذلك عقدت اللقاءات بالسفارة الفلسطينية بأنقرة، وليس بمقر الرئاسة التركية، وفرق كبير بينهما.
لا يبدو أن السلطة الفلسطينية بصدد إعادة تموضعها في تحالفاتها الإقليمية، صحيح أنها تشعر بنوع من خيبة الأمل من الموقف المصري، لكنها لن تنضم فعلياً ورسمياً إلى المحور التركي، الذي يضم قطر وإيران وحماس، مع أن هناك تقدير موقف فلسطيني يرى أن مصر ليس بمقدورها الخروج من عباءة السعودية والإمارات، وفي الوقت ذاته تعتقد أن ما لدى مصر من مواقف ومعطيات لن تلبي تطلعات السلطة الفلسطينية.
لقد أتت حوارات اسطنبول الأخيرة في ظل ما تستشعره فتح وحماس، من مخاطر محدقة بالمشروع الوطني الفلسطيني بسبب المحاور الإقليمية والدولية التي تتشكل في المنطقة عقب جولات التطبيع، وتجلت أخيرا في الدعوات الإقليمية والأمريكية لفرض قيادة بديلة عليهم.
كما تجري هذه الحوارات في ظل ظروف إقليمية وعربية رسمية قد تضع العقبات أكثر من التسهيلات، صحيح أن الفلسطينيين يشعرون بأنّ المطلوب بناء حاضنة عربية، شعبية ورسمية، لكن المشكلة أن عددا من الدول العربية، ومنها مصر، منكفئة على أزماتها الداخلية، وتبدو تابعة لدول أخرى في الإقليم، كالسعودية والإمارات، ذات المصالح المتعارضة مع تركيا، التي تحتضن اللقاءات الفلسطينية.
ويسعى الفلسطينيون لأن تكون الحالة العربية والإقليمية دافعا لهم، ليس لتطبيق مخرجات لقاءات بيروت واسطنبول فقط، بل العمل على تطويرها، وصولاً لبرنامج وطني شامل، لأن الواقع الإقليمي العربي الرسمي في طريقه للاختراق، وسيكون لتكريس التبعية أمريكياً وإٍسرائيلياً، مما ينعكس على تراجع فعالية العمق العربي الرسمي، لاسيما المصري، في إسناد الموقف الفلسطيني، ويفسح المجال لتركيا لملء هذا الفراغ الناجم!
النفوذ القطري
ليست المرة الأولى التي يتم فيها التوصل لاتفاق بين إسرائيل وحماس لوقف التصعيد المتبادل بينهما، لكن المختلف في المشهد هذه المرة هو نجاح الوساطة القطرية، وفشل نظيرتها المصرية، حيث برز حضور الدور القطري على أعلى المستويات لإنجاح جهودها في احتواء التصعيد، مقابل تراجع وانسحاب مصري مبكر من جهود الوساطة، على عكس ما شهدناه في جولات سابقة، حينما كان الوسيط المصري هو المسؤول المباشر عن مفاوضات التهدئة، وكان الدور القطري آنذاك مقتصراً على تمويل ما يتم الاتفاق عليه، ويبدو أن الجانبين، حماس وإسرائيل، فضّلتا الوساطة القطرية على المصرية هذه المرة، لكن السؤال البارز هنا: لماذا؟
المعلومات المتوفرة لما جرى أن الوسيط المصري أبدى استعداده في بداية التصعيد لتولي مهمة الوساطة بين حماس وإسرائيل، وقام الوفد المصري بنقل مطالب الحركة لإسرائيل التي لم توافق عليها، ما اضطره للانسحاب، وتولت قطر هذه المهمة التي تكلّلت بإبرام اتفاق تهدئة يلبي مطالب الفصائل دون أي تكلفة بشرية أو مساومة سياسية، وأبدت قطر اهتماماً لافتاً في الأيام الأخيرة لنجاح جهود التهدئة، بشكل أكبر مما بدت عليه جولات التصعيد السابقة.
لم يغادر رئيس اللجنة القطرية لإعادة الإعمار السفير محمد العمادي قطاع غزة خلال فترة التصعيد، وكانت مفاوضاته مباشرة مع زعيم حماس في غزة يحيى السنوار، في حين كان اتصال وزير الخارجية القطري محمد عبدالرحمن آل ثاني برئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية قبل ساعات من إعلان اتفاق التهدئة، ما أكسب الوساطة القطرية بُعداً سياسياً هذه المرة، فيما غابت مصر بجهاز مخابراتها، الحاضر دائما في غزة!
استطاعت قطر نسج علاقات متينة مع الفصائل الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حماس، وهذه المكانة تطورت مع مرور الوقت إلى ثقة متبادلة، وقد تابعنا تطورات الأسابيع الأخيرة التي سبقت إعلان التهدئة، حين لم تضع حماس العراقيل في طريق الجهود القطرية للتهدئة، حتى لا تخسرها كحليف استراتيجي في المستقبل.
أحد التفسيرات لاهتمام قطر يتمثل في مخاوفها أن تفقد حضورها في الساحة الفلسطينية، إضافة لقطع الطريق أمام أي دولة تسعى لحجز موطئ قدم لها في الساحة الفلسطينية، وتحديداً في غزة، خصوصاً بعد اتفاق السلام الإماراتي البحريني الإسرائيلي، الذي قد تستغله الإمارات للعب دور مشابه للدور القطري في ساحة غزة، في ظل وجود أرضية تدعم هذا التوجه الإماراتي، عبر من يمثلها في الساحة الفلسطينية، في إشارة إلى محمد دحلان، المفصول من حركة فتح.
منذ الساعات الأولى لآخر تصعيد عسكري ضد حماس في غزة في آب/أغسطس، قدمت المخابرات المصرية رؤية لحماس تتمثل بإعادة حالة الهدوء لغزة دون الوصول للمواجهة العسكرية، لأن الظرف السياسي، وفق وجهة نظر المصريين، لن يكون في صالح الحركة، مما جعل حماس تشعر أنها أمام رسالة تهديد وليس وساطة، لذلك فشل المصريون في جهودهم بإقناع الحركة في القبول بتسوية تلبي مطالبها.
لم يقدم المصريون ضمانات أو وعود بالضغط على إسرائيل للالتزام بشروط الفصائل للتهدئة، بعكس القطريين الذين لعبوا هذا الدور بكفاءة عالية، عبر تمويل ما يلزم من مشاريع إنسانية وإغاثية.
تنسج قطر علاقات وثيقة مع الفصائل الفلسطينية بغزة، وعلى رأسها حماس، وتقدم مساعدات مالية للقطاع منذ 2012، ونفذت عشرات المشاريع الكبرى، وعلى المستوى السياسي، تستضيف على أراضيها مكاتب حماس في الخارج، وتجري باستمرار لقاءات مع المسؤولين القطريين، وعلى رأسهم الأمير تميم.
وأظهرت جولة التصعيد الأخيرة أن قطر استفادت من نسجها لعلاقات متينة مع الفصائل الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حماس، وهذه المكانة تطورت مع مرور الوقت إلى ثقة متبادلة بينهما، لذلك تابعنا ما شهدناه في الأيام الأخيرة التي سبقت إعلان التهدئة، لأن حماس لم تضع العراقيل في طريق الجهود القطرية للتهدئة، حتى لا تخسرها كحليف استراتيجي في المستقبل.
إسرائيل من جهتها معنية بوجود أكثر من لاعب ووسيط في جبهة غزة، ولعل قطر تعد على رأس هذه الدول بفضل دبلوماسيتها النشطة وتمويلها السخي، فيما تأتي مصر في المرتبة الثانية، وهذا التقسيم يعود لما يملكه كل طرف من أدوات أو أوراق للتفاوض، فالقطريون بإمكانهم تمويل ما يلزم قطاع غزة من مشاريع تبقي حالة الهدوء على حالها، وتمنع أي مواجهة قادمة بين حماس وإسرائيل، أما المصريون فرغم الجغرافيا السياسية، إلا أن حضورهم تراجع بشكل كبير في الآونة الأخيرة.
القلق الإسرائيلي من تراجع الدور المصري في الأراضي الفلسطينية، يأتي بعد أن نفذ السيسي جملة إجراءات أمنية بهدف خدمة الأمن الإسرائيلي منذ 2015، حين بدأ بتدمير الأنفاق على الحدود مع قطاع غزة عن طريق التفجير والفيضانات بمياه البحر.
جاءت نقطة التحول الاقتصادي في 2018، عندما التقى السيسي بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ووقع اتفاقية تنمية اقتصادية سعودية مصرية مع جنوب سيناء، بعشرة مليار دولار، كما يشارك الأردن بتطوير خليج العقبة، وبالنسبة لإسرائيل، يعد استثمار مصر في سيناء تطورا إيجابيا.
اللافت في هذا التطور أنه يمكن اعتباره ضغطا على حماس، وبذلك قد يصبح التعاون الأمني بين إسرائيل ومصر في سيناء ذو طابع اقتصادي، فقد تصبح شبه الجزيرة النامية في المستقبل واحدة من النقاط المحورية المركزية لتلبية المصالح الاقتصادية لإسرائيل مع مصالح مصر وحلفائها في الخليج.
التنسيق الأمني
ليس غريبا أن تبدي إسرائيل حرصها على إبقاء الدور المصري حاضرا في الملف الفلسطيني، لأن العلاقات الإسرائيلية المصرية تشهد تطورات إيجابية متلاحقة منذ وصول السيسي للحكم في 2013، باعتبار هذه العلاقات الثنائية مصدر قوة للمنطقة، خاصة لدول المحور العربي المعتدل، وكذلك للولايات المتحدة والقوى الأخرى، حيث تتميز العلاقات الإسرائيلية المصرية بالتعاون في المجالات الدفاعية الاستراتيجية على أساس التهديد المشترك الذي تمثله إيران والحركات الإسلامية.
وقد أثبتت أربعة عقود من السلام الإسرائيلي المصري قدرتها على مواجهة موجات الصدمة الذي تعرض لها، ووفر منصة لتعاونهما الاستراتيجي، رغم أن علاقاتهما توصف بأنها سلام بارد، طالما بقي النزاع مع الفلسطينيين دون حل.
مصر غير القادرة على التقدم نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل، رغم المصالح المشتركة الحاسمة، لكن تعاونهما الدفاعي الاستراتيجي المتنامي لا يزال يملي طبيعة ومدى العلاقات، ومع ذلك فإن الروابط الإسرائيلية المصرية مصدر قوة للمنطقة، وتعزيز للاستقرار الإقليمي بعد فترة من الاضطراب الكبير.
من وجهة النظر الإسرائيلية فإن مصر شكلت مكونا محوريا في علاقات إسرائيل والفلسطينيين، ولعبت دورا مركزيا بمحاولات وقف إطلاق النار مع حماس بوساطة الأمم المتحدة وقطر، وتسعى إسرائيل ومصر للحد من نفوذ إيران بالشرق الأوسط، وتعزيز العقوبات المتزايدة ضدها، ومحاربة وكلائها المنتشرين بالمنطقة، وكبح جماح نشاطات تركيا بشرق البحر المتوسط.
كما شنت مصر وإسرائيل حملات ضد المنظمات المسلحة، وبات لديهما تصورات مشتركة عن التهديد الذي تشكله، والاستجابات المطلوبة، كما تشتركان بوجهات نظر مماثلة حول دور الولايات المتحدة في المنطقة، مما أدى لتنسيق إسرائيلي مصري في بعض المجالات كالمناطق الصناعية المؤهلة وفق اتفاقية الكويز، والتعاون الدبلوماسي والأمني، ما عزز علاقاتهما في السنوات الأخيرة.
بجانب التنسيق الدبلوماسي الاستراتيجي، ظهر التعاون بين إسرائيل ومصر بقضايا الطاقة بارزا، واتخذت خطوات مهمة لتعزيز تعاونهما مع قبرص واليونان، وربما لبنان مستقبلا، بتشكيل مركز إقليمي لإنتاج الغاز الطبيعي كأساس للتصدير لأوروبا، وإطلاق منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط EMGF في القاهرة من سبع حكومات شرق أوسطية وأوروبية، بينها إسرائيل والسلطة الفلسطينية، دون مشاركة تركيا ولبنان.
تعتقد القاهرة وتل أبيب أن تعزيز التعاون متعدد الأطراف في شرق المتوسط يساعدهما على تعزيز العلاقات الثنائية، بما فيها إمدادات الغاز من إسرائيل إلى مصر، ولم تحصل هذه التطورات بمختلف المجالات دون اتصالاتهما المكثفة، رغم عدم حصول تغييرات مهمة أخرى في التعاون الاقتصادي: الصناعي، والزراعي، والطاقة الشمسية، وتحلية المياه، والطاقة الخضراء، والتعاون العلمي، والطبي، والتكنولوجي، والأكاديمي.
وطرأت زيادة في أعداد السياح الإسرائيليين إلى مصر، فزار مئات الآلاف سيناء، وآلاف تجولوا داخل مصر، وزاد أعداد الأقباط المصريين المسافرين لإسرائيل، خاصة بأعياد الفصح، وارتفع عددهم إلى سبعة آلاف في 2019 مقارنة مع خمسة آلاف في 2015، وتم إحراز تقدم بالتزام مصر بتجديد مواقع التراث اليهودي، ومجمع مقبرة البساتين اليهودية بالقاهرة، وترميم معبد إلياهو بالإسكندرية، ودعوة سفراء دول عديدة لحفل الكنيس.
كل ذلك يؤكد أن العلاقات الإسرائيلية المصرية تشهد على مدى أربعة عقود تطورا متناميا لحفظ مصالحهما المشتركة، رغم العقبات والخلافات والتوترات، وأدى الواقع الإقليمي والدولي الناشئ خاصة منذ وصول السيسي للسلطة لزيادة التعاون، ولا يزال تجنب التعاون الثقافي بينهما عقبة كبيرة أمام العلاقة، رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي تمكن من إجراء حوار مباشر وشامل بينهما، وهي ساحة أخرى تعمل فيها إسرائيل.
تحدي سيناء
من الصعوبة بمكان الحديث عن رغبة إسرائيل بترسيخ الدور المصري في الساحة الفلسطينية، بمعزل عن تنسيقهما الأمني في سيناء، على الحدود مع قطاع غزة، ولعل ذلك تزامن مع قلقهما الأخير من إخلاء متوقع للقوات الأمريكية في سيناء، العاملة ضمن القوات الدولية فيها، لأنهما تخشيان أن تكون هذه الخطوة مقدمة لدول أخرى قد تخلي قواتها العاملة هناك، مما قد يعزز المنظمات المسلحة في سيناء.
ويمكن اعتبار قرار القوات الأمريكية بإخلائها أو تقليص تواجدها السبب في قرار الجيش المصري الأخير إقامة جدار أمني على طول الحدود مع قطاع غزة بطول 14 كلم، من أجل إحباط مرور مسلحين من قطاع غزة لسيناء، والانضمام لتنظيم الدولة، مع أن هذه الظاهرة تزايدت في الأشهر الأخيرة مما دفع مصر لاتخاذ هذا القرار.
مصر وإسرائيل تخشيان أن إخلاء أو تقليص القوات الأمريكية في سيناء سيعمل على إحداث بلبلة أمنية في شبه الجزيرة، ويشجع دولا أخرى على القيام بالخطوة ذاتها، او تشجيع المنظمات المسلحة على زيادة عملياتها ضد باقي القوات الدولية لإجبارها على الرحيل والمغادرة.
يشهد التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل في سيناء مستويات ومراحل متقدمة جدا، ويعتبر الأقوى منذ سنوات وعقود طويلة، فكلاهما تعملان ضد حماس وتنظيم الدولة، وقد طلب مسئولون كبار في تل أبيب والقاهرة من واشنطن الامتناع عن أي خطوة من شأنها إخلاء أو تقليص قواتها في شبه جزيرة سيناء.
نفذ الجيش المصري جملة من الخطوات في شمال سيناء لتقليص مخاطر المنظمات المسلحة، وأقام منطقة عازلة كبيرة على حدود قطاع غزة، وهدم منازل المصريين في رفح المصرية، وعمل على إخلاء الآلاف منهم من المنطقة، وتأمل تل أبيب والقاهرة أن تنجح ضغوطهما بثني واشنطن عن تنفيذ هذه الخطوة المقلقة لهما.
على صعيد المواقف المصرية الإسرائيلية من الفصائل الفلسطينية، فقد أظهرت تل أبيب والقاهرة غضبا مشتركا من تنامي علاقات حماس مع دول بعينها في المنطقة، خاصة إيران وتركيا، ولم تتوان المخابرات المصرية بإيصال رسالة لحماس مفادها أنها إن أرادت أن تبقى مسيطرة على غزة، فإن على قيادتها أن تختار ما تصفه “الطريق الصواب”، بالاقتراب من مصر، والقطيعة مع عدوتيها إيران وتركيا.
خاتمة
تؤكد الصفحات السابقة أن مصر وإسرائيل لديهما مصلحة مشتركة في إدارة الملف الفلسطيني بشكل عام، وعلى وجه التحديد ساحة غزة، لأن الدور الذي تلعبه مصر وسيطا مهما بين حماس وإسرائيل أمر حاسم في إنهاء جولات العنف الدورية، ما يجعل إسرائيل تعتبر سلامها مع مصر رصيدا بالغ الأهمية.
ولعل زيادة الاهتمام الإسرائيلي بتفعيل الدور المصري في الساحة الفلسطينية تحديدا، يأتي متزامنا مع ما تواجهه مصر من تحديات على جبهات عدة، سواء سد النهضة مع إثيوبيا، وتراجع موقف القاهرة، والتدخل التركي في ليبيا، وتقدم القوى المتحالفة معها على الميدان، وقيام قوة معادية للسيسي على حدود مصر الغربية، وترسيم الحدود بين المياه الاقتصادية لدول البحر المتوسط، والرد التركي على اتفاقية مصر واليونان، ونشاطات تنظيم الدولة في سيناء، واللافت أنه في مختلف هذه القضايا، تتماشى مواقف مصر الحالية ومصالحها طويلة المدى مع إسرائيل!
رابط المصدر: