بمراجعة تاريخ حركة النهضة التونسية منذ نشأتها، نجد أنها شهدت مراحل من الصعود والهبوط في مسارها السياسى، وبرزت عدة ملامح لتراجعها اجتماعياً وسياسياً منذ عام 2011 بدايةً بانخفاض شعبيتها وحدوث الانشقاقات بين قاداتها ، وفقدان سلطتها فى البرلمان التونسي السابق، بالإضافة إلى رفض بعض أعضائها ترشح الغنوشي لولاية أخرى، فضلاً عن تورط أعضائها وقادتها في قضايا فساد وأخرى تضر بالأمن القومي في تونس ومنها الاغتيالات السياسية وتسفير الشباب إلى بؤر الصراع ، بالإضافة إلى القبض على “راشد الغنوشي” رئيس الحركة ورئيس البرلمان السابق في تونس في 17 أبريل الماضي، الأمر الذى دفع إلى التساؤل عن تأثير هذه العوامل على مسار الحركة، وهل انتهت الحركة باعتقال أحد رموزها أم أنها لديها قدرة على إعادة التكيف والاندماج مرة أخرى بالنظر إلى تاريخها السابق.
مؤشرات التراجع
مرت النهضة على مدار تاريخها بعدة تحولات؛ إذ تغيرت مما سمى بحركة الاتجاه الإسلامي- المحظورة – في فترة الرؤساء السابقين “الحبيب بورقيبة” و”زين العابدين بن على”، إلى حركة النهضة في فبراير 1989، ثم تحولت إلى حزب سياسي بعد 2011، وتدرجت بذلك في نشأتها من حركة إسلامية إلى حزب سياسي. وبتتبع مسارها السياسى نجد أنها شهدت مراحل من الصعود والهبوط ولم تسير على وتيرة واحدة ، وكان لحركة النهضة دور دعوى في ستينيات القرن الماضي وقبل ممارسة العمل السياسى كحركة معارضة في أواخر السبعينيات لنظام الرئيس الأسبق “الحبيب بورقيبه”، وبعد تولى الرئيس السابق “زين العابدين بن على” في عام 1987 واجهت حركة النهضة حملات قمع كبيرة وتم سجن الآلاف من أعضائها، وتم نفى الغنوشي وقادة آخرين لمدة عقدين من الزمن قبل أن يعودوا إلى تونس في العام 2011 بعد الثورة التونسية؛ إذ شاركت بعد سقوط نظام زين العابدين بن على في الحكومة الائتلافية، وفي صياغة دستور 2014، لكن منذ مشاركتها في انتخابات 2019 بدأت تتضح حالة السخط المجتمعي تجاها، بالإضافة إلى تراجعها على مستوى الممارسات السياسية في البرلمان، و تفاقمت مؤشرات تراجع الحركة على النحو التالي:
فشل تكريس المشروع الإخواني: عقب ثورة الياسمين في تونس تمكن الغنوشي من الانخراط مرة أخرى في العمل السياسى، وتم تشكيل ائتلاف من ثلاثة أحزاب ذات أغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، وبموجبه تم اختيار “المنصف المرزوقي” رئيساً للدولة و”مصطفى بن جعفر” رئيساً للبرلمان التأسيسي و”حمادي الجبالي” رئيساً للحكومة، وبعد استقالة حكومة الترويكا تم التوافق على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة “مهدى جمعة” في 29 يناير 2014. وعقب وصولها إلى البرلمان في 2019 حاولت النهضة وقياداتها تكريس مشروع الإخوان في المنطقة لكنه لم يفلح، وكان راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة يدافع عن حكومة فايز السراج في ليبيا، وخلال تصريح تلفزيوني له على قناة نسمة أعلن آنذاك أن رئيس حكومة الوفاق الليبية يمثل الشرعية الدولية في ليبيا. كما حاول خلال فترة رئاسة البرلمان بإقحام تونس في الصراعات وإدخالها في المحاور الإقليمية بما يخالف مواقف الدولة التونسية آنذاك نتيجة اتصاله برئيس حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج وتجاوز دوره كرئيس للبرلمان.
• ضعف الأداء البرلماني: بالرغم من حصول الحركة في انتخابات 2011 على 89مقعداً من إجمالي 217، لكن تراجع عدد المقاعد في 2014 إلى 69 مقعداً، واستمر الأمر كذلك في الانتخابات التشريعية في 2019 وحصلت على 52 مقعدا من إجمالي 217. وبتولي “راشد الغنوشي” رئاسة البرلمان ما بعد الانتخابات في 2019 شهدت الساحة البرلمانية حالة من التشرذم وضعف الأداء، واتسم الوضع خلال فترة رئاسته بالفوضى وفقدان الثقة في أعضاء الحركة، إلى أن اتخذ الرئيس التونسي “قيس سعيد” تدابير استثنائية في 25 يوليو 2021 كان بدايتها تجميد عمل البرلمان ثم حله لاحقاً.
• أزمات داخلية: تعاني الحركة من أزمات داخلية وعدم رضا من قبل القطاعات الشبابية عن أداء قادة الحركة؛ إذ وقع حوالي 130 شاباً بيان في يوليو 2021 اتهموا فيه قادة الحزب بالفشل والتقصير، وعبروا عن ضرورة تغليب المصلحة الوطنية التونسية على الحسابات الضيقة لقادة الحركة، لكن لم يلقى هذا البيان قبولاً من قبل الغنوشي.
• تزايد الانشقاقات: زاد عدد الانشقاقات خلال فترة الغنوشي باعتباره مسؤول عما آلت إليه الأوضاع وعدم الرضا على النهج السلطوي الذي اتبعه خلال إدارة الحركة، وتراجع شعبيتها نتيجة القرارات السياسية الخاطئة، لذلك تأجل وقتها عقد المؤتمر الحادي عشر في نهاية 2021، ورفض العديد من الأعضاء ترشح الغنوشي لولاية ثالثة كرئيس للحركة نتيجة انفراده بالقرار، وعدم التداول الديمقراطى لمنصب رئيس الحركة وتمسكهم بالنظام الأساسي، واللوائح التي تنص على “عدم ترشح رئيس الحركة لأكثر من دورتين”.
وقد بلغ عدد الاستقالات في صفوف الحركة نحو 131 قياديًا وعضوًا في حركة النهضة في سبتمبر 2021 أبرزهم: (محمد النوري القيادي بالحركة وعضو مجلس الشورى العام، وعبداللطيف المكي، وسمير ديلو، ومحمد بن سالم، وتوفيق السعيدي، وعدد من أعضاء مجلس النواب المجمد مثل جميلة الكسيكسي، والتومي الحمروني، ورباب اللطيف، ونسيبة بن علي، وعدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي مثل آمال عزوز، ونائب رئيس الحركة عبد الفتاح مورو وعبد الحميد الجلاصي والأمين العام في الحركة زياد العذارى وكل من رياض الشعيبي وزبير الشهودي) بما كان يؤشر على حالة الهشاشة الداخلية داخل الحركة والتصدع الذى تشهده النهضة.
• تورط النهضة في قضايا أمنية: تورط عدد من أعضائها وقاداتها في قضايا أمنية، كان من بينها اتهام الحركة بتأسيس جهاز سرى يشرف على قضايا الاغتيالات لشخصيات سياسية مثل اغتيال الناشطين شكري بلعيد ومحمد البراهمي؛ إذ أوضحت لجنة الدفاع عنهما تورط حركة النهضة عبر تنظيم سرى في اغتيالهما، بالإضافة إلى اتهام أعضاء الحركة بتسفير الشباب إلى بؤر التوتر في كل من (ليبيا والعراق وسوريا)، إذ بلغ عدد التونسيين في بؤر التوتر حوالى ثلاثة آلاف في 2019 وفق اللجنة التونسية لمكافحة الإرهاب، وتم إيقاف رئيس الحكومة الأسبق ” على العريض” و” نور الدين البحيري” وزير العدل في الفترة من2011-2013 نتيجة تورطهم في منح جوزات سفر للمقالتين.
• سجن قاداتها: شهدت قاداتها على مدار تاريخ الحركة السجون والنفي، وفى بعض الفترات الحكم والسلطة، إذ اُتهم أحد رؤساء الحكومة السابقين وهو قيادي سابق في حركة النهضة” الصحبى العمري” وكذلك “حمادي الجبالي” أمين عام حركة النهضة بالوقوف وراء تفجيرات فنادق مدينتي سوسة والمنستير على الساحل الشرقي في عام 1986، كما تم ملاحقة عدد من قاداتها قضائيا مؤخراً ومنهم “نور الدين البحيري” وزير العدل الأسبق، و”على العريض” و”حمادي الجبالي” رؤساء الوزراء الأسبق، و”سيد الفرجاني” النائب في البرلمان السابق، بالإضافة إلى “عبد الحميد الجلاصي” القيادي المستقيل من الحركة.
إضافة إلى القبض على “راشد الغنوشي” رئيس الحركة ورئيس البرلمان السابق في 17 أبريل 2023 نتيجة تصريحات تحريضية أدلى بها تضر بتونس، وأوكلت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس للفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال بمباشرة الأبحاث بخصوص تصريحاته التي كانت تحمل لغة تهديد وتحوي في مضمونها- رفضه لاحتفال النخبة بالمسار الذى يتبعه الرئيس قيس سعيد ووصفهم بالإرهابين، وتعبيره بأن تونس بدون النهضة والإسلام السياسى مشروع حرب أهلية- وعقب قرار الإيقاف قامت قوات الأمن بتفتيش مقر حركة النهضة، وأوقفت عدد من الأعضاء في المكتب السياسى للحركة منهم “محمد القوماني” و”بلقاسم حسن” و”محمد شنيبة”، ثم أصدر وزير الداخلية قرار في 18 أبريل 2023 بمنع الاجتماعات بمقرات حركة النهضة وكذلك منع اجتماعات جبهة الخلاص الوطني بمحافظات تونس.
لكن يُعد قرار إيقاف الغنوشي مختلف هذه المرة، إذ كان متورطاً في عدد من القضايا مثل (الفساد المالي وتبيض الأموال وتسفير الشباب ودعم الإرهاب)، مثل مثوله أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لاتهامه بوصف الشرطة بأنهم “طغاة”، وأخرى مثل استجوابه في قضايا فساد وغسيل أموال على خلفية تحويل أموال من الخارج إلى منظمة خيرية تابعة لحركة النهضة في يوليو 2022، لكن كان يتم إطلاق سراحه مع اتخاذ عقوبات كتجميد أرصدته المالية ومنعه من السفر ولم يتم إيقافه. لكن بالرجوع إلى تاريخ علاقة الحركة بالنظام السياسى في تونس، نجد أنه على مدار تاريخ العلاقات بين الدولة والحركة كان يتم اللجوء إلى اعتقال رئيسها راشد الغنوشي، وقد حدث ذلك في عام 1987 في عهد كل من الرئيس “الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن على”.
مسارات محتملة
في ضوء المؤشرات السابق ذكرها، وبتتبع مسار الحركة التاريخي يمكن الإشارة إلى مسارين محتملين على النحو الآتي:
• الأول: تقويض نشاط الحركة فقط من قبل الإجراءات التي تتخذها السلطات التونسية مع إعادة تكيف النهضة مع حالة الضعف التي شهدتها من خلال بلورة استراتيجية -اعتادت على ممارستها على مدار تاريخها- تقوم على تطوير مظهرها الخارجي، مع مراجعة فكرية لتناسب المجتمع، وتنويع طرق التعبئة لخدمة أجنداتها وتحقيق أهدافها السياسية للوصول إلى الحكم والسلطة مرة أخرى.
وعقب قرار إيقاف الغنوشي، تم تكليف ” منذر أونيسى” بممارسة مهامه وتيسير شؤون الحركة كرئيس مؤقت لها، وفى الوقت ذاته كان هناك رسائل وراء كلمات “منذر أونيسى” حول أن الغنوشي هو رئيس الحركة اليوم والغد، ونفيه لوجود شغور في منصبه، بما يوحى بتمسك البعض من قياداتها باستمرار الغنوشي بالرغم من التحديات التي تشهدها النهضة، لكن وفقا للفصل 33 من القانون الأساسي للحركة “في حال شغور منصب رئيس الحركة في حالات عجز مانع عن أداء مهامه، قدره مجلس الشورى، أو تقديم الاستقالة ثم قبولها من مجلس الشورى، أو الوفاة، يتولى مجلس الشورى في أجل شهر من تاريخ الشغور دعوة مؤتمري آخر مؤتمر عام سابق، لانتخاب رئيس جديد للحزب لاستكمال العهدة وفقا للقانون الأساسي للحركة، وإذ كانت المدة الباقية على انعقاد المؤتمر أقل من ستة أشهر، ينتخب مجلس الشورى رئيس جديد بأغلبية أعضائه لاستكمال المدة الباقية”.
وبالنظر إلى تاريخ الحركة، فقد شهدت في تاريخها اعتقالات، وفى بعض الأحيان قامت بالعمل السري خلال عهد الرؤساء السابقين (الحبيب بورقيبه وزين العابدين بن على)، ومنعت في بعض الأحيان من النشاط واُعتقل قياداتها وتم تهجيرهم. إذ لم تكن هذه المرة الأولى في تاريخ الغنوشي الذي واجه بها الاعتقال، إذ تم الحكم عليه في عام 1981 بالسجن لمدة أحد عشر عاماً، وقضى حوالي ثلاث سنوات ثم خرج ضمن عفو عام، وحكم عليه غيابي بالسجن مدى الحياة في عامي 1991 و1988، لكنه هرب إلى بعض الدول إلى الجزائر في 1989، والسودان، ثم إلى لندن. وحصل على اللجوء السياسى عام 1993 واستمر حوالي 21 سنة، ثم عاد بعد ذلك إلى تونس مع الثورة. استناداً إلى ذلك؛ في حال سجن الغنوشي وقضاء مدة ما، من المحتمل عودته مرة أخرى لممارسة العمل السياسى.
• الثاني: من المتوقع أن يقود قرار منع الاجتماعات في مقر حركة النهضة إلى احتمالية حلها خاصة إذا اتخذت السلطات في تونس حكماً بوقف نشاط الحركة، بعد تورط عدد كبير من أعضائها في قضايا عديدة مثل: الاغتيالات السياسية، والإرهاب، والجهاز السري، وقضية التآمر على أمن الدولة، لكن قد يواجه قرار الحل ضغط خارجي من دول تدعم الحركة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وقد يقابل ذلك دعم للنظام من قبل دول أخرى لها موقف مضاد من تيارات الإسلام السياسى في تونس مثل إيطاليا وفرنسا.
ختاما؛ إن سجن أبرز قادتها لن يؤدى إلى إنهاء مستقبل الحركة بل من المحتمل التكيف مع المتغيرات الجديدة وأن تلجأ باقي القيادات الحالية إلى إدارة المرحلة القادمة من تاريخ الحركة، لاسيما أن هناك عزم من قبل أعضائها على الطعن في قرار منع اجتماعات حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني.
.
رابط المصدر: