- مشروع السياسة الخارجية الفرنسية الجديدة تجاه أفريقيا يعكس حجم الأزمة الحقيقية بين باريس ومستعمراتها السابقة في القارة.
- ليس من السهل على الحكومة الفرنسية استعادة ثقة القيادات الحاكمة في أفريقيا، لاسيما أن هذه القيادات تتفق على تحميل باريس مسؤولية الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تشهدها دول القارة.
- القطيعة بين الأجيال الجديدة الحاكمة في أفريقيا والدولة الفرنسية مُرشَّحة للتفاقُم، ومن الصعب التغلب عليها في المدى المنظور.
بدأ البرلمانُ الفرنسي في 21 نوفمبر 2023 مناقشة تقرير أعده فريق من أعضائه حول السياسة الفرنسية في أفريقيا، في سياقٍ يتسم بتراجعٍ نوعيٍّ ومتسارعٍ للنفوذ الفرنسي في القارة السمراء.
تَستعرِض هذه الورقة أهم مضامين التقرير، وتُجري تقييماً له في سياق التحولات الأخيرة التي شهدتها العلاقات الفرنسية-الأفريقية.
السياق العام للتقرير
بعد لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برؤساء الأحزاب السياسية بخصوص التحولات الأخيرة في أفريقيا في 30 أغسطس 2023، بعث ماكرون إلى قادة الأحزاب رسالة في 7 سبتمبر أعلن فيها أن البرلمان سيناقش في دورته الخريفية السياسة الفرنسية في أفريقيا بعدما شهدت روابط فرنسا بمستعمراتها السابقة في القارة انتكاسة واضحة، خصوصاً في منطقة الساحل. ويمكن إبراز هذا التراجع في عدة مؤشرات:
- الانسحاب العسكري من العديد من البلدان الأفريقية، خصوصاً في منطقة الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، فقد تقلص الحضور العسكري في أفريقيا إلى مستوى متدن غير مسبوق، ولم يعد يتجاوز ثلاث قواعد في السنغال (350 جندياً)، والغابون (350 جندياً)، وكوت ديفوار (800 جندي). وباستثناء تشاد، حيث لا يزال لفرنسا بعض المستشارين العسكريين، لم يعد لباريس أي حضور عسكري في منطقة الساحل الأفريقي. والنتيجة الأساسية لهذه المتغيرات هو تضاؤل قدرة فرنسا على التدخل العسكري المباشر في القارة بعد أن كانت قامت بمثل هذا التدخل 52 مرة على الأقل خلال الفترة من 1964 إلى 2014 بحسب المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية.
- التراجع الاقتصادي رغم الدور المستمر للشركات الفرنسية الكبرى (Total, BNP, Bouygues, Orange, Alston, Orano)، ورغم بقاء المنطقة النقدية لأفريقيا الغربية والوسطى المرتبطة بالخزينة الفرنسية. وبحسب صحيفة “لوموند”، لا يتعدى حجم التبادل التجاري مع أفريقيا 2% من التجارة الخارجية الفرنسية عام 2021. وفي عام 2014 وصل حجم التبادل التجاري بين الدول الأفريقية المستعمَرة سابقاً من فرنسا إلى أقل من 15% من حركة تبادلها الخارجي (مقابل الثلثين عام 1969).
- التراجع السياسي بفشل سياسة الضغوط الديمقراطية التي بدأتها فرنسا في أفريقيا منذ عام 1990. فقد اتهمت النخب الأفريقية الجديدة فرنسا بازدواجية المعايير في تعاملها مع الأوضاع السياسية في القارة، وذلك بدعم الأنظمة الاستبدادية الموالية لها في الكونغو والكاميرون والغابون، وقبول تغيير الدستور في بعض البلدان لمنع التداول على السلطة كما وقع في كوت ديفوار عام 2020، وأيضاً مباركة الانقلابات العسكرية كما حدث في تشاد في 20 أبريل 2021 بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي، وما حدث في غينيا في 5 سبتمبر 2021، مع التشدد في رفض الانقلابات العسكرية التي حدثت في مالي والنيجر، مع اتهامات متزايدة لفرنسا بالضلوع في انقلاب الغابون الذي وقع في 30 أغسطس 2023.
- التراجع الثقافي رغم استمرار الرابطة الفرانكفونية التي تضم 20 دولة أفريقية تشكل الفرنسية لغتها الرسمية. فبعد رواندا التي اعتمدت عام 2010 الإنجليزية لغة للتعليم بدلاً من الفرنسية، انضمت الغابون وتوغو إلى الكومنولث (البريطاني) في يونيو 2022، وقررت الجزائر في مايو 2023 اعتماد الإنجليزية بدلاً من الفرنسية لغة للتعليم الجامعي، وقررت المملكة المغربية توسيع نطاق الإنجليزية في التعليم العمومي منذ المرحلة الإعدادية في إطار استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى منح الصدارة للإنجليزية في كل مراحل التعليم.
- تراجع حركية الانتقال البشري نتيجة لزيادة القيود على الهجرة والحد من التأشيرات الممنوحة للأفارقة، في الوقت الذي تزايدت وتيرة الانتقال من البلدان الأفريقية إلى تركيا والدول الآسيوية على حساب الوجهة الفرنسية المفضلة سابقاً لدى الأفارقة. ووفق قانون الهجرة المعروض حالياً على البرلمان الفرنسي، سيتم تسهيل عملية طرد المدانين في قضايا عامة، وتعقيد إجراءات استقدام الأقارب، والحد من الإعانات الطبية والاجتماعية للأجانب، بما سيحد عملياً من حركية الهجرة الأفريقية إلى فرنسا.
المقاربة البرلمانية حول السياسة الأفريقية لفرنسا
استعرض التقرير البرلماني المطول (166 صفحة) أسباب انحسار النفوذ الفرنسي في أفريقيا، ومن أبرزها:
- تركز صياغة السياسة الأفريقية لفرنسا في دوائر رئاسة الجمهورية (ما يسمى “قطب أفريقيا” في الإليزيه)، دون إشراك المؤسسات العمومية الأخرى، في الوقت الذي لوحظ تراجع المعرفة الدقيقة والرصينة بالأوضاع الأفريقية.
- تركز السياسة الأفريقية لفرنسا في المجال الأمني على حساب المجالات التنموية والاجتماعية، بما تجسَّد في سياسات محاربة الإرهاب والتدخل العسكري دون معالجة الجذور العميقة للاختلالات المؤسسية للدول الأفريقية، رغم بعض الخطوات المحدودة الإيجابية في مجالات الرياضة والإبداع والصحة.
- تقليص الوسائل المدنية والعسكرية للسياسة الخارجية الفرنسية في أفريقيا في نهاية القرن العشرين، مع سوء استخدام أدوات وآليات التأثير المتاحة، بما انعكس سلباً على هامش القرار المتاح في القارة.
وحدَّد التقرير ثلاثة توجهات استراتيجية مقترحة للسياسة الأفريقية لفرنسا في المدى المنظور، تتمثل في العناصر الآتية:
- استعادة الانسجام والوضوح في السياسات العملية، بما يتطلب على الخصوص بلورة خطط استراتيجية شفافة وطموحة، وتحسين أداء السياسات العمومية من خلال إنشاء وزارة كبرى للشؤون الأفريقية، وعقد شراكات مثمرة وفاعلة مع البلدان الأفريقية، وإشراك هيئات المواطنة والتمثيل الشعبي في السياسة الأفريقية للدولة.
- تغيير واجهة وشكل السياسات المتبعة إزاء الدول الأفريقية، بما يتطلب على الخصوص وقف مسلك ازدواجية المعايير، وتوضيح مقاربة الاشتراط الديمقراطي، وإكمال خطة إصلاح المنظومة النقدية الأفريقية المرتبطة بفرنسا، والمراجعة الجذرية لسياسة منح التأشيرات مع التحكم في حركية الهجرة والانتقال، والتخلي عن سياسة الوصاية الأبوية المنتهجة إزاء الدول الأفريقية.
- تحسين نمط إدارة السياسة الأفريقية لفرنسا وجعلها أكثر فاعلية، بما يتطلب تحويل العون التنموي إلى حجر الزاوية في استراتيجية النفوذ في القارة، ودفع النشاط الدبلوماسي في أفريقيا، ومضاعفة الميزات النسبية لفرنسا في المنطقة، والمراهنة على التنمية الاقتصادية والاستثمار، وبلورة استراتيجية متكاملة في الاتصال والإعلام ومواجهة الإعلام المضلل والمشوه لصورة فرنسا في القارة.
وخصّص التقرير العديد من الفقرات لتزايد نفوذ القوى الدولية التقليدية والصاعدة في أفريقيا، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، مع التركيز على الدور الروسي الذي يندرج في صلب العداء لفرنسا والسعي لاحتلال موقعها التقليدي في القارة من خلال الورقة العسكرية الأمنية.
التحديات أمام التوجهات الفرنسية الجديدة تجاه أفريقيا
على الرغم من أن التقرير البرلماني حول سياسة باريس الأفريقية لا يزال في طور النقاش ولم يُعتمَد رسمياً، فإن التوجهات الفرنسية الجديدة تجاه أفريقيا التي عرض لها التقرير تواجه عدداً من التحديات، أبرزها الآتي:
- ليس من السهل على الحكومة الفرنسية استعادة ثقة القيادات الحاكمة في القارة، التي هي أغلبها إما من الشخصيات العسكرية الشابة التي درست في الأكاديميات العسكرية الأفريقية أو من وجوه المجتمع المدني الراديكالية، سيما أن هذه القيادات تتفق على تحميل فرنسا مسؤولية الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تشهدها دول القارة.
- لا يبدو أن فرنسا قادرة على تحمُّل التكلفة الاقتصادية والمالية لسياستها الأفريقية المقترحة. فمع أنها رفعت مخصصاتها للتعاون الاقتصادي مع أفريقيا لتصل إلى 14 مليار يورو إلا أن هذا المبلغ يظل قليلاً في مقابل العروض التي تقدمها المؤسسات العمومية والخاصة الصينية، وفي مقابل الأرباح المكتسبة من التبادل التجاري مع الأسواق الصاعدة في تركيا والخليج العربي والهند والبرازيل.
- من الصعب على فرنسا الخروج من منطق الضغوط الديمقراطية الذي هو من مرتكزات سياستها الخارجية، بل سياسة دول الاتحاد الأوربي عموماً، بينما تشهد الديمقراطية الانتخابية تراجعاً ملموساً ومتزايداً في القارة ويتم تحميلها مسؤولية انهيار الدول مؤسسياً وأمنياً. لذا فإن القطيعة بين الأجيال الجديدة الحاكمة في أفريقيا والدولة الفرنسية مرشحة للتفاقم، ومن الصعب التغلب عليها في المدى المنظور.
وخلاصة الأمر، أن مشروع السياسة الخارجية الفرنسية الجديدة تجاه القارة يعكس حجم الأزمة الحقيقية بين باريس ومستعمراتها السابقة في القارة، ويحدد بعض الحلول العملية لتجاوز الأزمة، لكنه يظل محدود الأثر والتأثير في الواقع العملي.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/azmat-alsiyasa-alfaransiya-fi-afriqia