تُراقب إسرائيل تطورات المشهدين السياسي والأمني الداخلي للسودان، وكذا الحال فيما يتعلق بدولة تشاد الجارة الغربية للسودان وبالتحديد منطقة دارفور. ومع بداية تقلد بنيامين نتنياهو الحكم مرة أخرى في إسرائيل، سرعان ما استأنف مباحثات قديمة مع السودان لتدشين اتفاقية التطبيع الإبراهيمي التي تم توقيع مذكرتها الأولى في 2020 ووضعها موضع التنفيذ.
أما تشاد، فقد سافر رئيسها الجديد (رئيس الفترة الانتقالية) محمد إدريس ديبي إلى تل أبيب لافتتاح السفارة التشادية، من أجل الشروع في علاقات رسمية كاملة مع الحكومة الإسرائيلية الحالية.
وقبل تلك التطورات، وبالتحديد في 27 يناير 2023، توجه رئيس مجلس السيادة السوداني “عبد الفتاح البرهان” ونائبه قائد قوات الدعم السريع “محمد دقلو” إلى تشاد في “زيارات منفصلة”؛ لبحث ملفات أمنية واقتصادية تتعلق بالزراعة مع المجلس الانتقالي التشادي الجديد.
أولًا: الاقتصاد والأمن
كلّف رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي “بنيامين نتنياهو” مدير جهاز الموساد الإسرائيلي “ديفيد برنياع” (الخبير المتخصص في الشأن الإيراني قبل توليه منصب مدير الموساد) بفتح اتصال مع رئيس المجلس الانتقالي في تشاد “محمد إدريس ديبي” لتحريك المياه الراكدة الذي أصاب العلاقات بين الطرفين منذ موافقة تشاد في 2019 على إعادة تطبيع العلاقات مرة أخرى. نجحت زيارة محمد ديبي إلى تل أبيب وسط اتصالات سرية بين الجانبين، وتم فتح السفارة التشادية مؤخرًا.
وأثناء تصريح نتنياهو في 2018 إبّان زيارة إدريس ديبي (الرئيس السابق لتشاد) لإسرائيل: “إسرائيل تعود إلى أفريقيا والعكس صحيح”، كان قد أوضح أن إسرائيل في الوقت الحالي (أي في 2018) ستركز على ملف مكافحة الإرهاب وتعزيز مجال الأمن والدفاع. أما في زيارة ابنه الأخيرة “محمد ديبي” في 1 فبراير 2023، أكد نتنياهو أن إسرائيل ستركز على مجالات أخرى أكثر عمقًا وهي الزراعة بجانب التركيز على الملف الأمني والعسكري.
تطابق هذا التصريح ذاته مع مجريات زيارة وزير خارجية إسرائيل “إيلي كوهين” (وزير الاستخبارات سابقًا في حكومة نتنياهو 2021) إلى السودان في 2 فبراير 2023 (أي بعد زيارة تشاد بيوم واحد). إذ أكّد الوزير الإسرائيلي خلال لقائه مع رئيس المجلس السيادي السوداني “عبد الفتاح البرهان” على تركيز إسرائيل على مجالات مكافحة الإرهاب، وملفات اقتصادية مثل الزراعة والتجارة. وهو الأمر الذي يتفق مع مخرجات التطبيع الابراهيمي في أكتوبر 2020 إبان إدارة دونالد ترامب الأمريكية. إذ أوضحت وزارة الخارجية السودانية أن الخرطوم ستركز على مجال الزراعة كمرتكز أساسي وأوّلي في علاقاتها مع إسرائيل.
جميع ما سبق يتفق تمامًا مع مبدأ إسرائيل الجديد في سياستها الخارجية تجاه أفريقيا القائم على “الأمن الغذائي مقابل مكافحة الإرهاب”، وهو المبدأ الذي صاغه وزير خارجية إسرائيل في الحكومة السابقة (حكومة بينيت لابيد) 2022، إذ صرّح بـ”المعادلة التي تتطور العلاقات فيها مع القارة السوداء، قائمة على مبدأ التعاون لتوفير الأمن الغذائي للملايين، مقابل تطوير التعاون لمكافحة الإرهاب”. وتجدر الإشارة إلى أن إعلان إسرائيل عن هذا المبدأ الجديد تم في مؤتمر دبلوماسي عبر الفيديو نظمته السفارة الإسرائيلية في باريس (يونيو 2022).
أما ما يمكن أن يُستدل به للإشارة إلى احتمالات وجود مثلث علاقات بين إسرائيل وتشاد والسودان مجتمعة؛ هي الزيارات المنفصلة (27 يناير 2023: أي أثناء الترتيبات السرية بين إسرائيل وتشاد) التي جرت بين السودان ممثلة في عبد الفتاح برهان ونائبه “دقلو” مع رئيس تشاد الجديد، والتي تخللتها تأكيدات بين الطرفين على التهديد الماثل في عدم استقرار الأمن الغذائي في العالم والمنطقة، وضرورة فتح آفاق اقتصادية تهتم بمجالات الزراعة والنقل والتجارة والتكنولوجيا.
فبالنظر إلى المشاريع الزراعية التي تجمع السودان وتشاد يمكن استخلاص التالي: (1) إن هناك مشروع زراعي في تشاد يمكّن اللاجئين السودانيين والسكان المحليين من الاعتماد على الذات ويعزز الروابط الشعبية بين المجتمعين السوداني والتشادي (كما هو مذكور على موقع المفوضية الأممية لشئون اللاجئين). (2) أصبح هذا المشروع تجربة مهمة لدى مؤسسات المجتمع الدولي في سبيل توطين اللاجئين ودمجهم في مشاريع مساهمة لتوفير الأمن الغذائي. (3) قطاع الزراعة في تشاد ذاتها لم ينجح في سد النقص في الامن الغذائي. وعليه يرغب البلدان (السودان وتشاد) في التوسع في تلك المشاريع لإنجاح تجارب توطين اللاجئين والنازحين جراء الحروب الحدودية وسد النقص في الأمن الغذائي. وعليه، تحاول إسرائيل تقديم نفسها على أنها طرف مساهم في الامن الغذائي الخاص بالبلدين وكذلك في مكافحة الإرهاب وتسلل العناصر المسلحة، مقابل سماح الدول الأفريقية بإسرائيل بالتواجد في القارة السمراء.
يمكن القول في هذا السياق، إنه من ضمن المؤشرات الدالة التي قد تحفز خلق مثلث العلاقات بين إسرائيل والسودان وتشاد، مؤشر (1) التعاون في مجال الزراعة والأمن الغذائي. (2) أما في مجال الأمن فجميع الوثائق التي تم توقيعها بين الدول تجمع على التعاون في مجال مكافحة الإرهاب. كما تخللت زيارة السودان إلى تشاد التنسيق الأمني لفرض الاستقرار على الحدود بين البلدين ومنع تسلل العناصر المسلحة. كما أنه بمجرد عودة العلاقات الطبيعية بين السودان وإسرائيل في 2020 تكررت زيارات قائد قوات الدعم السريع “محمد دقلو” إلى إسرائيل. كما نُسب لإسرائيل تصدير أجهزة تجسس إلى دقلو بحسب ما جاء في صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
ثانيًا: الاعتبار السياسي في المثلث المحتمل
يحضر الاعتبار السياسي الداخلي في السودان وتشاد بنفس درجة حضور اعتبارات الأمن والغذاء في مشهد التطبيع الجاري بين الدولتين وإسرائيل من ناحية أخرى.
وقبل تفكيك معادلة الاعتبار السياسي وتحولهما إلى محفز دافع للتطبيع مع إسرائيل، تجب الإشارة إلى التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي لعام 2023 القائل بأهمية تسخير إدارة بايدن لدفع قطار التطبيع الإسرائيلي مع دول عربية وأفريقية وإسلامية، والبحث عن صيغ سياسية جديدة للاتفاقات الابراهيمية. إذ تستغل إسرائيل دمج الولايات المتحدة لقيم الديموقراطية وحقوق الانسان في سياستها الخارجية وتعاملها مع دول العالم، الأمر الذي تسبب في قلق دائم لدى بعض الدول خاصة تلك الواقعة تحت عقوبات أمريكية أو يحيطها الخوف من إدراجها ضمن عقوبات مثل السودان وكذلك الحال مثل تشاد.
ترسخ إدراك لدى السودان وتشاد أنه يمكن الوصول إلى الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض من البوابة الإسرائيلية وإقناعها بتحولات المشهد السياسي لدى البلدين، وخاصة السودان الذي لم يتم رفع اسمه بعد من قائمة الدول الراعية للإرهاب ولم يتلقَّ بعد المساعدات الأمريكية الموعودة منذ عهد إدارة ترامب، فلا تزال واشنطن تجدد ربط تقديم المساعدات بإنهاء إجراءات مجلس السيادة وعودة المسار الانتقالي إلى حكومة مدنية.
ويربط السودان هذا الاتجاه بإسرائيل كون أن الخرطوم اتهمت قبل ذلك بتسهيل نشاط إيراني في المنطقة، وبما أن إسرائيل تلاحق النشاطات الإيرانية في المنطقة وترغب في الحصول على ضمانات سودانية بوقف الارتباط القديم بين الخرطوم وطهران فربما ذلك يقنع الولايات المتحدة أن ليس للسودان نية في تسهيل نشاط لإيران وبالتالي تكون الخطوة التالية هو رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، يُعزز ذلك عدم نية المجلس العسكري السوداني اقتحام المشهد السياسي والوصول إلى السلطة.
كذلك الحال بالنسبة لتشاد، التي يعاني مجلسها الانتقالي من انتشار حركات مسلحة شمالي تشاد وجنوبي ليبيا. كما يتنامى إدراك لدى المجلس الانتقالي التشادي أن التدخلات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا دون الاستقرار والتوصل إلى شكل الدولة الوطنية، إذ تحاول الدول الغربية الإبقاء على الأطراف التي تحافظ على مصالحهم في المقام الأول من خلال دعم السلطة والمعارضة في آن واحد من أجل الحفاظ على مصالحهما والإمساك بخيوط المشهد من جميع الأطراف.
لذا تسعى السلطة في تشاد الاستفادة من التحالف الإسرائيلي الأمريكي في جذب الدعم الأمريكي للمجلس الانتقالي التشادي برئاسة محمد ديبي لترسيخ النفوذ وفرض الاستقرار السياسي لصالحها على حساب المعارضة.
ثالثًا: الجزائر.. مستهدف إسرائيلي؟
تعتبر إسرائيل إيران مهددًا وجوديًا لها، ليس فقط في برنامجها النووي أو برنامجها الصاروخي الباليستي أو حتى أنشطتها الإقليمية في شبه الجزيرة العربية، بل يتعداه ليصل إلى عمق القارة الأفريقية. كانت إسرائيل اتهمت الجزائر على لسان وزير خارجيتها يائير لابيد (أغسطس 2021) بتقاربها اللافت مع إيران، ولم يفوت لابيد فرصة تواجده بالمغرب دون التعبير علانية عن قلقه من هذا التقارب.
اللون الأزرق: الدول التي تربطها علاقات تطبيع مع إسرائيل.
طالما انتهجت إسرائيل لكسر عزلتها الإقليمية سياسة تعرف بـ”سياسة الأطراف”، فكما تسعى إسرائيل لوضع السعودية أمام الأمر الواقع فيما يتعلق بالتطبيع عبر عقد علاقات رسمية مع دول الجوار الإقليمي للسعودية، مثل الإمارات والبحرين من جهة الشرق، والبحر الأحمر والسودان من جهة الغرب، والأردن من جهة الشمال؛ تسير إسرائيل على النحو نفسه في أفريقيا “لتطويق” الجزائر عبر عقدها علاقات طبيعية مع تشاد والسودان والمغرب. ويُستدل على ذلك بتمهيد إسرائيل للأرض باتجاه تطبيع العلاقات مع دولة النيجر (جنوب الجزائر)، ففي مارس 2021 أي قبل انتهاء ولاية نتنياهو آنذاك (العائد لرئاسة الحكومة الإسرائيلية) بدأ التفاوض مع النيجر من خلال وزير استخباراته آنذاك “إيلي كوهين” (وزير الخارجية الحالي) وقال إن الإدارة الأمريكية معنية بهذا الانتقال، وبمساعدة الولايات المتحدة يمكن لإسرائيل أن تكون جسرًا لهذه العلاقات بمساهماتها المميزة.
كذلك الحال بالنسبة لجمهورية مالي، فيجمعها مع إسرائيل محادثات قديمة تعود إلى عام 2017؛ لا سيما وأن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل ودول أفريقية مثل رواندا والجابون وتشاد، ضوءًا أخضر لجمهورية مالي في 2019. وفي يناير 2022 كانت إسرائيل قاب قوسين من تحضير زيارة لرئيس مالي إلى إسرائيل، ويتجدد هذا التنسيق من خلال وزارة الخارجية الإسرائيلية.
وبالنظر إلى الخريطة المرفقة، يتبين أن السنغال تقع على نفس الاتجاه الإسرائيلي باستكمال شريط دول الصحراء المجاور جنوبا لدول الساحل الأفريقي وبالتحديد جنوبي ليبيا والجزائر وموريتانيا. تلك الأخيرة التي كادت أن تقترب من استئناف العلاقات مع إسرائيل (منذ قطعها بعد حرب غزة 2009)، ولكن اجتمع فقهاء الجمهورية الموريتانية لرفض التطبيع مع إسرائيل، خاصة بعد تزايد أنباء حول استعداد إسرائيل لإرسال وفرة من اللقاحات ضد فيروس كورونا إلى نواكشوط.
يحيق بدوائر صنع القرار في إسرائيل مجموعة من التخوفات حيال سياسة الجزائر في أفريقيا، وسعيها لمراكمة مقدرات القوة الشاملة سواء الاقتصادية، أو العسكرية. تلاحظ إسرائيل مزيدًا من التقارب بين الجزائر والعواصم الأوروبية الباحثة عن توفير بدائل للغاز الروسي، مما منح الجزائر مساحات هائلة من المناورة السياسية أمام أوروبا.
كما أن الجزائر بصدد تدشين مجموعة من مشروعات الطاقة مع دول الجوار الأفريقي مثل النيجر ونيجريا لإنشاء خط غاز يبدأ من نيجريا. مع العلم أن الجزائر تسهم بـ 12.6% من واردات الطاقة الأفريقية إلى أوروبا.
تظهر ملامح تأثيرات النفوذ الجزائري في منظمة الاتحاد الأفريقي بعد طرد الوفد الإسرائيلي (18 فبراير 2023) من اجتماع المنظمة في أديس أبابا، إذ تقود الجزائر حملة سياسية مع عواصم أفريقيا لسحب صفة المراقب من إسرائيل في الاتحاد الأفريقي.
جميع ما سبق، يبعث على القلق لدى إسرائيل سواء مستوى حضورها ونفوذها في القارة السمراء، أو مستوى التأثير الذي تتمتع به حليفتها الاستراتيجية المغرب في ذات القارة. إذ كل مراكمة للقوة الجزائرية يؤثر بالسلب على القدرة الشاملة للمملكة المغربية، يستدل على ذلك توظيف الجزائر لسلاح الغاز لثني اسبانيا عن دعمها للمغرب في نزاع الصحراء المغربية.
كما تضع الحكومة الجزائرية مجموعة من المشروعات الطاقوية والعسكرية لفرض الاستقرار الاقتصادي والأمني في منطقة الجوار الأفريقي؛ بهدف الانضمام إلى مجموعة دول البريكس التي من المحتمل أن يُرشح للانضمام إليها (الجزائر وإيران)، مما قد ينقل مستوى العلاقات بين الجزائر وإيران إلى مستوى آخر من التقدم.
كما لا تستبعد إسرائيل إمكانية أن تستغل الجزائر الموارد النووية الاشعاعية التي ترزح تحت أراضي دول الجوار الأفريقي لتغذية المفاعلات النووية الجزائرية التي من المخطط أن تعتمد عليها في استراتيجية التحول في الطاقة لسد احتياجات محلية متزايدة من الكهرباء.
لذا تبحث إسرائيل على أدوات دبلوماسية غير تقليدية لتعزيز حضورها في القارة السمراء، مثل الأمن الغذائي، ومكافحة الإرهاب، وترتيبات جديدة للطاقة المتجددة تساعد المغرب على التغلب على قوة الجزائر الهائلة في مجال الطاقة غير المتجددة (الغاز الطبيعي بالتحديد)، وهو يعد تطورًا في المقاربات السياسية الإسرائيلية تجاه أفريقيا، إذ اعتمدت سابقًا على المقاربات الأمنية فقط عبر مؤسساتها الأمنية والعسكرية. انعكس ذلك في: (1) وقعت المغرب وإسرائيل اتفاقيات في مجال الهيدروجين الأخضر، لتطوير تقنيات جديدة. تم التوقيع على اتفاقية الطاقة من قبل كونسورتيوم مغربي لتحول الطاقة (MNETC)، والاتحاد الوطني الإسرائيلي لبحوث الطاقة (INERC). (2) توقيع مذكرة تفاهم لنقل تكنولوجيا إسرائيلية في مجال الطاقة الشمسية واقتصاد الكهرباء وتخزينها. (3) استحواذ شركات إسرائيلية على أسهم كبيرة لشركات مغربية تعمل في مجال الطاقة المتجددة. (4) كما لم يخل التحالف المغربي الإسرائيلي عن التعاون الأمني عبر إقامة مصنعين للطائرات المسيرة واستخدامها في مكافحة الإرهاب (وهو ما يعني اعتزام إسرائيل الاعتماد على المنصات العسكرية بديلا عن الأسلحة الخفيفة بهدف إعادة تصديرها للدول الأفريقية من خلال المغرب).
رابعًا: العراقيل والتحديات أمام إسرائيل
هناك مجموعة من العراقيل التي تواجه الطموح الإسرائيلي في القارة الأفريقية وخاصة مع الدول الجارة بالجزائر والمغرب، يمكن توضيحها على النحو التالي:
أولًا: بيئة أمنية مضطربة
سجلت الفترة بين (1 يناير 2022 و30 يونيو 2022) 699 هجومًا إرهابيًا أسفر عن 5412 حالة وفاة في جميع أنحاء أفريقيا. وكانت الدول الأكثر تضررا من تلك الهجمات: نيجيريا، وموزمبيق، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وبوركينافاسو، ومالي (بترتيب تنازلي). وتستنتج القراءات الاستراتيجية في مجال مكافحة الإرهاب (مثل تقرير المركز الأفريقي لدراسات وبحوث الإرهاب ACSRT) أن هناك عودة عنيفة للأنشطة الإرهابية في غرب أفريقيا، والتسبب في أضرار بالغة في البنية التحتية الحيوية، وعلى الرغم من الجهود العديدة لمكافحة الإرهاب من قبل سلطات الدولة، يبدو أن الهياكل الإرهابية تتمتع بالمرونة.
وهو ما يقر فشلًا واضحًا لدى الدول الكبرى المكافحة للإرهاب في أفريقيا وعلى رأسهم الولايات المتحدة، يعزز ذلك تقريرًا حديثًا أصدره مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية (مؤسسة الأبحاث الأولى في البنتاجون) القائل بأن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها من مكافحة الإرهاب في أفريقيا، خاصة غرب أفريقيا: “شهدت منطقة الساحل الغربي تضاعفًا بمقدار أربعة أضعاف في عدد أحداث الجماعات الإسلامية المتشددة منذ عام 2019”.
وهو ما يعني أن الإدراك السائد لدى الدول الأفريقية خاصة باتجاه الغرب؛ أن إسرائيل ستكون بوابتها لمزيد من التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، هو إدراك خاطئ؛ إذ تزيد الولايات المتحدة بالفعل من معونتها العسكرية لتلك الدول ولكن دون تحقيق نتائج أكثر إيجابية.
ثانيًا: علاقات إيران التجارية بمنطقة غرب أفريقيا
يبدو أن منطقة غرب أفريقيا تحولت إلى نقطة مركز لإيران لترسيخ حضورها في القارة السمراء، عبر تعزيز العلاقات التجارية مع دول المنطقة، والاعتماد عليها في أنشطة مشبوهة في عمليات غسيل الأموال وتجارة المخدرات من خلال وكيلها اللبناني “حزب الله”.
قال نائب وزير الخارجية الإيراني (9 يناير 2023) إن بإمكان طهران إنشاء خطوط ملاحية في منطقة غرب أفريقيا، وإنشاء علاقات رابح-رابح مع دول المنطقة، تقوم على أساس المنفعة المتبادلة في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة والصيد، مما يخلق الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وبشكل عام، دشنت إيران ثمانية مراكز تجارية في القارة السمراء، هذه المراكز تقع في كينيا وأوغندا وتنزانيا وساحل العاج وغانا والكاميرون والسنغال ونيجيريا والجزائر وجنوب أفريقيا، وسيتم زيادتها في مارس من هذا العام.
حضرت إيران أربعة معارض تجارية وأوفدت مئات من رجال الأعمال، وملحقين تجاريين، وعقد اجتماعات متخصصة مع المجتمع المدني في الدول الأفريقية (شرق وغرب أفريقيا) لتحسين التجارة.
لا يتوقف نشاط إيران عند الحد التجاري – الاقتصادي فقط، بل يتعدا ليصل إلى أبعاد عسكرية وأمنية. أشارت تقارير أفريقية أن إيران تعتمد على توسيع حضورها في منطقة غرب أفريقيا من خلال دولة مالي (جنوبي الجزائر). استخدمت إيران طائرتها بدون طيار في الصراعات الأخيرة في إثيوبيا والصومال، وفقًا لبعض التقارير، مما أثار التكهنات بأن إيران تعتزم زيادة مبيعاتها من الأسلحة إلى أفريقيا (خاصة في الغرب).
ثالثًا: جمود حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
تعارض أغلبية الدول الأفريقية ذات التاريخ المزعج من الاستعمار الأجنبي استمرار غياب حل سياسي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبما أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي أكثر الحكومات تطرفا باتجاه اليمين الديني المتشدد في تاريخ إسرائيل بما يسهم بتأجج الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فسيزيد ذلك من استياء الدول الأفريقية وخاصة الإسلامية تجاه سياسات إسرائيل.
رابعًا: الحضور الروسي في أفريقيا
تدرك إسرائيل أن أحد دوافع عبد الفتاح برهان في السودان هو تسريع عجلة دمج قوات الدعم السريع بزعامة “حميدتي” ضمن الجيش السوداني. ولا زال يلوح “حميدتي” بورقة الموافقة على إقامة قاعدة عسكرية روسية على سواحل السودان في البحر الأحمر، وهو ملف يرسم ملمح خطورة بالنسبة لإسرائيل التي تلحظ تسارعا في العلاقات العسكرية بين روسيا وإيران في المنطقة.
تُشير القراءات الاستراتيجية ارتباط “حميدتي” بقوات فاجنر الروسية من خلال قوات الدعم السريع وله علاقات وثيقة مع موسكو، التي زارها مع بدء الحرب في أوكرانيا.
في حال ساندت إسرائيل رواية عبد الفتاح برهان على حساب حميدتي في السودان في رفض إنشاء قاعدة عسكرية روسية أو الانخراط في توجه أمريكي بطرد قوات فاجنر الروسية القريبة من الكرملين من السودان ودول أفريقية أخرى؛ فذلك يعني تماس سلبي آخر بين إسرائيل وروسيا. وفي حال عدم حل هذا التماس فإما يتحول إلى تداع سلبي يهدد الامن القومي الإسرائيلي في سوريا أو يصبح هامش مناورة إسرائيلية أمام موسكو لفك الارتباط بين روسيا وإيران.
ختامًا، يمكن القول إن هناك اتجاهًا إسرائيليًا بترسيخ حضور ونفوذ إسرائيلي في حزام دول الصحراء جنوبي دول الساحل أو الشمال الأفريقي، يبدأ هذا الحزام من شمال السودان مرورًا بتشاد والنيجر وينتهي إلى السنغال المطلة على المحيط الأطلنطي؛ لمجموعة من الأهداف أهمها تطويق الجزائر التي تشملها علاقات جيدة مع روسيا، وتقارب ملحوظ مع إيران، وتنتهج سياسة عدائية تجاه إسرائيل في أفريقيا.
يعتمد الاتجاه الإسرائيلي على مرتكزين رئيسيين هما مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الغذائي، ولكن يعرقله مجموعة من الاعتبارات من بينها الحضور الإيراني والحضور الروسي ذاتهما.
.
رابط المصدر: