في موعد جاء مبكرا عن المعتاد، عُقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني بين يومي 16 و22 أكتوبر 2022، وقد حصل بناءً عليه الرئيس الصيني “شي جين بينج” على فترة ولاية ثالثة مدتها خمس سنوات كسكرتير عام للحزب مُغيّرًا بذلك العرف القائم على عشر سنوات فقط لفترتين بموجب التعديل الدستوري الذي حدث عام 2018.
يكشف تبكير موعد المؤتمر في أكتوبر بدلًا من نوفمبر عن النفوذ الذي بات عليه “شي”، كما يعد دليلًا على التوافق بشأن اختيار زعيم الحزب بشكل مسبق، لأن حدوثه في نوفمبر كان يعني استمرار وجود مفاوضات وتفاهمات بين الفصائل المختلفة في الحزب حول القيادة.
في هذا الإطار، تحاول تلك الورقة إلقاء الضوء على ما قدمه الحزب خلال السنوات الماضية على سبيل مراجعة المنجزات، وما هي الأهداف التي من المنتظر تحقيقها والتحديات التي قد تواجه “شي” خلال فترة ولايته الثالثة على رأس الحكم في الصين.
ترسيخ الحكم
تشير اختيارات أعضاء اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي الصيني إلى المدى الذي بدت عليه التغيرات التي يريد أن يجريها “شي” في نظام الحكم ليصبح نهج الحزب أكثر مركزية في حكم الصين، وهو ما يمكن إظهاره في النقاط الآتية:
منافسة على الزعامة التاريخية: خلال العامين الماضيين، تم دمج فلسف “شي” الشخصية – “فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد” – في صنع السياسة من الدبلوماسية إلى الجيش والقضاء، وتمت كتابة أفكاره في الكتب المدرسية المستخدمة لتعليم الأطفال في المدارس. تدور العديد من المقارنات بين “شي” و”ماو”، لكن يرى البعض أن نهج “شي” يبدو مختلف في ظل وجود تغييرات عميقة في النظام الدولي تخلق تهديدات وفرص استراتيجية لصعود الصين وهدف “تجديد الأمة الصينية”.
لذا؛ جاءت التوقعات بأن يتم منح “شي” لقب “الزعيم العظيم”، وهو مصطلح تم استخدامه حصرًا للزعيم “ماو تسي تونغ” مؤسس الدولة، وظهر هذا الترويج عبر أجهزة الدعاية الحزبية مثل الجريدة الرسمية، بالإضافة إلى اختصار اسم فلسفته السياسية الرسمية في دستور الحزب إلى “فكر شي جين بينج”، مما يجعله على قدم المساواة مع “ماو”؛ إذ يوضع “شي” في مقارنة مع كل من الزعيم “ماو” و”دينج شياو بينج” كونهما الحاكم لأكثر من ثلاثة عقود، وخمسة عشر عامًا على الترتيب، وقاد كل منهما تحولًا في البلاد والحزب بسبب فترات حكمهم الطويلة.
تولي مناصري “شي” للقيادات الحزبية: كما يهيمن على القيادات الداخلية التي تم اختيارها للحزب التي باتت ممثلة في اللجنة الدائمة سبعة أعضاء من حلفاء “شي”، وذلك بعد استبعاد رئيس الوزراء “لي كه تشيانغ” الزعيم الثاني والمدافع عن إصلاح نمط السوق والمشاريع الخاصة.
وقد عكست بعض التعيينات الجديدة للجنة المركزية الرغبة في التعامل مع القضايا الهامة للدولة مثل الركود الاقتصادي أو التغييرات في استراتيجية “صفر- كوفيد- المشددة، وتعكس أيضًا الولاء الكامل لـ”شي” حتى إن بعض تلك التعيينات يفتقر إلى الخبرة على المستوى الوطني كنائب لرئيس الوزراء أو وزير في مجلس الوزراء والتي يُنظر إليها عادةً على أنها شرط للمنصب.
تغيير القواعد الحزبية: إذ تنص القوانين على تقاعد الأعضاء بعد بلوغهم 68 عاما عند وقت انعقاد المؤتمر فيما يمكن ترقية الأعضاء دون 67 عامًا في المناصب العليا أو احتفاظهم بالمناصب. لكن قد تشهد الفترة القادمة تغيير قاعدة الحد الأدنى للسن في بنيان القيادة العليا للمكتب السياسي خاصةً بعد تعليق “شي” لقواعد التقاعد للإبقاء على الجنرال “تشانغ يوشيا” 72 عاما- كنائب رئيس اللجنة المركزية.
دحض خطط المعارضة والانقلاب: فقد ساهم تعزيز “شي” لسلطته خلال السنوات العشر الماضية في القضاء على أية معارضة فئوية لحكمه، وهو ما جعل له السيطرة الكاملة على مسألة التعيينات الرئيسية للحزب والتوجيهات السياسية في المؤتمر الأخير، كما قاد حملة لمكافحة الفساد أدت لتفريق الفصائل الحزبية وإضعاف المنافسين المحتملين. وهو أيضًا ما جعل الأنظار تلتفت إلى مغادرة سلفه “هو جيتناو” لاجتماع اللجنة المركزية بشكل مفاجئ –قيل أنه لسبب صحي مفاجئ- لكنه أثار تساؤلات عن مسألة وجود معارضين أو أنه يستعرض سلطاته أمام القادة السابقين.
تقييم المؤتمر لأداء السنوات الخمس الماضية
خلال مراجعة المؤتمر للتقدم الذي تم إحرازه خلال السنوات الخمس الماضية، تمت الإشارة إلى مجموعة التحديات والمنجزات كالآتي:
تقوية أواصر الدولة: فقد أشار “شي” خلال كلمته بأن السنوات الخمسة الماضية شهدت مجموعة من القرارات الجوهرية مثل التعديل الدستوري، وتعميق إصلاح أجهزة الحزب والدولة، والتمسك بنظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ووضع الخطة الخمسية الرابعة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 2035، خاصةً مع توافق تلك الفترة مع الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني والذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وأشار أيضًا إلى قانون حماية الأمن القومي الذي تم تطبيقه في هونج كونج الذي ساهم لتفعيل الولاية القضائية حسب الدستور.
التنمية ومكافحة الفقر: فقد أشار “شي” إلى مبادرة مكافحة الفقر التي نتج عنها خروج حوالي 100 مليون مواطن ريفي من الفقر، وإعادة توطين أكثر من 9,6 مليون فقير في أماكن جديدة. بجانب تشجيع التنمية عالية الجودة التي جعلت من الصين صاحبة الاقتصاد الثاني عالميًا بنسبة 18.5% بعد تنفيذ الإصلاح الهيكلي للعرض ووضع استراتيجيات إقليمية تصب في المصلحة العامة للبلاد، وانعكاس ذلك في مبادرة”الحزام والطريق” كمنصة للتعاون باتت تحظى بتأييد دولي واسع. وصارت الصين شريكا تجاريا رئيسيا لأكثر من 140 بلدا أو منطقة، وتبوأت المرتبة الأولى بالعالم من حيث حجم تجارة السلع.
رؤية “شي” للاقتصاد والعلاقات الخارجية
جاء المؤتمر تحت شعار “رفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في سبيل بناء دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل والدفع الشامل لعملية النهضة العظيمة للأمة الصينية”، ووضع الخطوط العريضة لرؤية “شي” للاقتصاد الصيني والعلاقات الخارجية، بالإضافة إلى مقاربة الصين بشأن تايوان، يمكن ذكر منها الآتي:
سياسة.. صفر “كوفيد”: في مواجهة الدولة لجائحة كورونا؛ أشار “شي” إلى أن البلاد استطاعت التمسك بأولوية الشعب ومنع الحالات الوافدة من الخارج تنفيذًا لسياسة “صفر- كوفيد” دون تردد، وأشاد بنتيجة ذلك في حماية الأرواح وتحقيق نتائج إيجابية عبر التخطيط الموحد لدفع أعمال الوقاية من الجائحة والسيطرة عليها والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولم يعط “شي” أي مؤشر على أن بكين ستغير استراتيجيتها على الرغم من الإحباط العام من الإغلاق المتكرر الذي أدى لبعض الاحتجاجات.
معارضة استقلال تايوان: بدت اللهجة بشأن الحديث عن تايوان أكثر حدة وحزمًا خلال خطاب “شي” بعدم استبعاده لساتخدام القوة كملاذ أخير أكثر من حديثه”إعادة التوحيد السلمي”، وذلك حين أشار للجهود الخاصة بمواجهة الأنشطة الانفصالية للقوى الداعمة لاستقلال تايوان بجانب ما رآه من استفزازات وتدخل من قوى خارجية –في إشارة ضمنية للولايات المتحدة- مؤكدًا العزم على معارضة استقلالها وعلى قدرة الدولة في صون سيادتها وتحقيق إعادة التوحيد التام للوطن الأم والتمسك بمبدأ “صين واحدة”. فتح هذا الحديث المجال لوضع احتمالات بشأن القيام بتصعيد عسكري ضد تايوان وأن حل تلك المسألة “يجب أن يكون في أيدي الصينيين” خاصةً مع توجه الجزيرة لتعميق علاقتها مع الولايات المتحدة وتصاعد التوترات بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” إلى تايبيه مؤخرًا. رغم خطورة اتخاذ الصين لخطوة التحرك العسكري في تايوان في وقت قريب لما سيثيره من مخاطر، إلا أن نجاح “شي” في تحقيق ذلك سيضمن له مكانة تاريخية بجانب “ماو”.
التحديث الكامل للبلاد: في هذا الإطار؛ أشار “شي” إلى تجاوز البلاد الهدف الوسيط المتمثل في “مجتمع رغيد الحياة إلى حد ما” في عام 2021، ومن المتطلبات التالية للمرحلة الجديدة إجراء التحديث الصيني على نحو شامل ذو خصائص اشتراكية صينية عبر تحقيق التنمية العالية الجودة، وتطوير الديمقراطية الشعبية الكاملة، وتحقيق الرخاء المشترك للبشرية، على أن يتم ذلك خلال من خلال خطوتين: الأولى من عام 2020 إلى عام 2035 لتحقيق التحديث الاشتراكي الأساسي، والثانية من عام 2035 حتى عام 2049 لتحقيق التحديث الشامل ببناء “دولة اشتراكية وحديثة عظيمة” من خلال تحقيق اختراقات جديدة في التنمية العالية الجودة اقتصاديا، وترقية مقدرة الاعتماد على الذات وتقويتها في مجال العلوم والتكنولوجيا بوضوح، وإحراز تقدم مهم في مجال إنشاء نمط تنموي جديد وبناء منظومة اقتصادية حديثة؛ والتقدم بخطوات جديدة في الإصلاح والانفتاح.
التوجه العسكري الحازم: ظهر هذا في تأكيد “شي” على ضرورة التمسك بالقوة القتالية واستعداد الجيش لمواجهة الحرب والمعارك وتعزيز التدريبات العسكرية بالذخيرة الحية بقوة، والإسراع في بناء تحديث الدفاع الوطني والجيش وتحقيق هذا الهدف عند حلول مئوية تأسيسه في عام 2027.
التحديات الأساسية
يدخل “شي” ولايته الثالثة بمجموعة من الطموحات ومواجهًا لتحديات فرضتها تطورات البيئة الداخلية والخارجية ستشكل أجندة الحزب والدولة خلال السنوات القادمة، يمكن ذكر بعضها في الآتي:
الإصرار على الإغلاق في مواجهة الوباء: تطبيقًا لهدف “صفر كوفيد”، لا تزال الصين متبعة لعمليات الإغلاق المتكررة وفرض الضوابط الصارمة على الحدود رغم توجه العديد من الدول للتعايش مع الجائحة، وهو ما أدى لتكثيف الضغوط الاقتصادية، وتفاقم معدلات البطالة. فقد حاول “شي” خلال خطابه الدفاع عن سياسة “صفر كوفيد” التي يعتبر أنها تهدف دعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
الرخاء المشترك للاقتصاد والتنمية عالية الجودة: جاءت خطة “شي” التحولية في الاقتصاد الخاصة بالرخاء المشترك (وهو شعار تم استدعاؤه من خمسينيات القرن العشرين) وما يرتبط به من قضايا تتعلق بالمساواة الاجتماعية وتقليل فجوة الثرورة والفقاعة العقارية للمساعدة في تلبية احتياجات الشعب بعد التوقعات بأن يكون النمو الاقتصادي الصيني هو الأبطأ على المستوى الآسيوي للمرة الأولى منذ ما يقرب من ثلاثة عقود بسبب التأثيرات السلبية لسياسة “صفر كوفيد”. كما من المتوقع أن تؤدي مبادرة الرخاء المشترك إلى تعديل التوزيع غير المتكافئ للدخل لزيادة عدد السكان ذوي الدخل المتوسط، كما تشير إلى عودة الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدول وتضييق نطاق الأعمال التجارية الخاصة.
الاكتفاء الذاتي التكنولوجي كأساس للأمن القومي: ارتباطًا بالنقطة السابقة؛ هناك اقتران في اهتمام “شي” بالأمن والاستقرار، حتى أن دافع الصين لترسيخ مكانة قيادية في مجالات التكنولوجيا الفائقة تم تأطيرها على أنها ضرورة حتمية للأمن القومي، وهي ضرورية لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية، وهو ما دفع بالرغبة نحو الاعتماد على الذات من الناحية التكنولوجية بسبب ضعف أسواق التصدير الرئيسية وتصاعد المنافسة الجيوسياسية مع الولايات المتحدة. لذا؛ سيكون التركيز الأكبر على المدى الذي ينبغي أن يسير فيه الأمن والنمو الاقتصادي على نفس الخطى بما يعكس مخاوف بكين بشأن سلاسل التوريد بأن تصبح أكثر ذاتية لأنها لا تزال تعتمد على الموردين الخارجيين وعرضة للتوترات الجيوسياسية. وسيكون للحزب في هذا الشأن دور في تعزيز السياسة الصناعية لسد الفجوة بين ما يمكن لموردي التكنولوجيا الصينيين صنعه وما هو مطلوب للشركات الأخرى.
الوضع الصيني في العالم والإقليم: تعد العلاقات الصينية مع الخارج خاصةً مع الولايات المتحدة أحد أكثر المتغيرات في توجهات “شي” الخارجية ودفعه للبحث عن مكانة دولية وإقليمية للصين، وظهر هذا في المنافسة في بناء تحالفات لتطويق الصعود الصيني ووصف الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي الصادرة في أكتوبر بأن العقود القادمة هي “عصر المنافسة”، فكان على “شي” إظهار سياسة أكثر قدرة على التعامل مع تلك المتغيرات بشكل محدد وواضح ذو نظرة قومية تلبي مصالح الدولة. كما ستكون هناك مراقبة خلال الفترة القادمة إلى كيفية إدارة “شي” للعلاقات مع الغرب وإلى أي مدى يمكنها تقليل اعتمادها الاقتصادي من خلال توفير أشباه الموصلات والغذاء ومصادر الطاقة الخضراء.
يبدو أن التطورات التي شهدها العالم الآونة الأخيرة كان لها انعكاس على نظرة “شي” المستقبلية خلال المؤتمر، حيث حملت توجهات خارجية بصبغة تزيد من رغبة الاعتماد على الذات لمواجهة احتمالات أية توترات مستقبلية، مستفيدًا بذلك من تجربة الحرب الروسية الأوكرانية، وتفادي خلق ضعف استراتيجي يعيق مسار التنمية والتحديث الشامل عبر إعادة التوازن للاقتصاد بإدخال استراتيجية “التداول المزدوج” بعيدًا عن الاعتماد على الطلب الخارجي، واقترانًا مع ربطه للتنمية بالأمن والاستقرار وترسيخ ذلك في الأيديولوجيا التي يقوم عليها الحزب.
.
رابط المصدر: