ترقُّب الأسوأ: التداعيات الاقتصادية لتَفشِّي مرض «جدري القردة» وسيناريوهات تحوله إلى جائحة

  • رفعت منظمة الصحة العالمية درجة التأهب تجاه مخاطر تفشي مرض جدري القردة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية العالمية، وهي على بُعْد خطوة واحدة من إعلانه وباءً عالمياً، خاصة مع ظهور متحوِّر جديد أكثر قدرة على الانتشار وإحداث نسبة وفيات عالية. 
  • نتيجة لضعف البنية التحتية والفقر وارتفاع معدلات الهجرة، تظهر تحديات هائلة في احتواء المرض على طول حدود جمهورية الكونغو مع رواندا وبوروندي وأوغندا، ما يتطلب شحن المزيد من معدات التشخيص والعلاجات واللقاحات إلى أفريقيا للاستجابة بشكل مناسب للتفشي الراهن.
  • أحدث المتحور الجديد لمرض جدري القردة بعض التداعيات المحدودة على الاقتصاد العالمي، ويبقى مستقبل المرض مرهوناً بحالة التعامل العالمي مع توزيع اللقاحات، والتكاتُف الدولي لمواجهته في موطنه الأصلي، وفعالية اللقاحات المتوافرة للتعامل معه.

 

مثَّل إعلان منظمة الصحة العالمية عن تحوّل تفشي جدري القردة[1] إلى حالة طارئة صحية عالمية[2]، أعلى مستوى يمكن أن تستخدمه المنظمة للتحذير من المرض قبل تحوّله إلى جائحة، كي تعمل الدول على تكثيف استعداداتها من أجل مواجهته، إذ زاد القلق من المرض بعد أن انتشر متحوّر جديد منه مُتسبباً في زيادة غير مسبوقة للحالات المصابة والوفيات الناتجة عن الإصابة به، كما خرج المرض من نطاق القارة الأفريقية مُسجِّلاً حالات مماثلة في أوروبا وآسيا.

 

ومع استمرار معاناة العالم من تداعيات جائحة كورونا، وتأثيرها المتراكمة على الأنظمة الصحية والاقتصاديات العالمية المختلفة، أصبح هناك تنبُّه عالمي من أي مرض يمكن أن يتحوّل إلى جائحة، خاصةً وأن الاقتصاد العالمي يعاني أساساً من تبعات سياسات التشديد النقدي الأمريكية، والحروب التجارية العالمية، والأوضاع الجيوسياسية غير المستقرة في الشرق الأوسط، والحرب الروسية الأوكرانية.

 

طبيعة متحور “جدري القردة” الجديد والتعامل الدولي معه

تسبَّب متحوِّر جديد يسمى “1 بي” في تفشي مرض جدري القردة في الكونغو الديمقراطية، وعدد من الدول الأفريقية الأخرى مثل بوروندي وكينيا. وقد رُصِدَ هذا المتحور الجديد في الأسبوع الثالث من أغسطس 2024 في السويد، في أول إصابة خارج أفريقيا. وفي آسيا، رُصدَت أول إصابة بجدري القردة في باكستان دون أن تُعرَف السلالة. ويختلف المتحور الجديد “1 بي” عن السلالة “1” الأصلية للمرض في أن المتحور الجديد ينتشر بصورة خاصة بين البالغين الشباب مع انتقاله عبر الاتصال البشري العادي، فيما كانت السلالة “1” تنتشر بين الأطفال والحوامل والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة، وتنتشر بالأساس عبر الاتصال الجنسي، ما يعني أن المتحوِّر الجديد ينتشر بصورة أسرع من السلالة الأصلية، ويَعبُر الفيروس الحدود مع الأشخاص المصابين أثناء التنقل. وقد شخّصت السلطات الكينية مرض “جدري القردة” لدى سائق شاحنة لمسافات طويلة كان أيضاً في رواندا وتنزانيا وأوغندا.[3]

 

نتيجة لذلك، أعلنت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في أفريقيا أن تفشي مرض جدري القردة في القارة يُمثِّل حالة طوارئ صحية عامة تهدد الأمن القاري، فيما رفع المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض والسيطرة عليها درجة التأهب من جدري القردة، كما رفع تقييمه لمستوى خطورة جدري القردة من “منخفض” إلى “معتدل” بسبب وجود حالات إصابة داخل أوروبا. وقد طُلب من الدول الأوروبية الحفاظ على أعلى مستويات التوعية بين المسافرين الزائرين من مناطق ظهر فيها المرض، في ظل تزايد التوقعات بمواجهة هذه الدول زيادة في الإصابات المستوردة بالسلالة 1، ما يستدعي أن تكون السلطات الصحية جاهزة للسماح بتأمين رصد واستجابة سريعين لأي حالة جديدة.

 

شكل 1: حالات الإصابة الشهرية بمرض “جدري القردة” في إفريقيا (يناير 2022 – يونيو 2024)

المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية.

 

وعطفاً على ما سبق، قالت مديرة هيئة الصحة العامة في الاتحاد الأوروبي إن أوروبا ستشهد مزيداً من الإصابات الوافدة بالسلالة الجديدة من جدري القردة خلال الأسابيع المقبلة، إلا أن خطر استمرار انتقال المرض يظل منخفضاً، بينما قلّل وزير الصحة الألماني من القلق حول مستقبل انتشار المرض في أوروبا.

 

وفي الفلبين، ذكرت وزارة الصحة الفلبينية، في 19 أغسطس الجاري، أنها رصدت إصابة جديدة بمرض جدري القردة، هي الأولى منذ ديسمبر 2023، مُشيرة إلى أن الحالة ترجع لشاب يبلغ من العمر 33 عاماً “ليس لديه تاريخ سفر خارج الفلبين، ولكنه كان على اتصال وثيق بشخص مسافر قبل 3 أسابيع من ظهور الأعراض”. وفي الصين، أكدت السلطات هناك عزمها مراقبة تفشي جدري القردة بين الأشخاص والبضائع الداخلة إلى البلاد خلال الأشهر الستة المقبلة، في ظل توقُّع منظمة الصحة العالمية ظهور مزيد من حالات الإصابة خارج أفريقيا قريباً.

 

أما على المستوى الخليجي والعربي، فقد أفادت وزارة الصحة الكويتية بأنها تنسق وبشكل مستمر مع الشركاء الدوليين في المركز الخليجي للوقاية من الأمراض بشأن مواجهة المتحوِّر الجديد من المرض، فيما أعلنت السعودية وسلطنة عمان أنهما لم تسجلا حتى الآن أية إصابة بالفيروس، بينما أعلنت مصر حالة الطوارئ في المطارات والموانئ والمنافذ البرية تزامناً مع إعلان حالة الطوارئ العالمية ضد “جدري القردة”.

 

 

 

 

 

 

 

التداعيات الاقتصادية المحتملة

يمكن رصد عدد من التداعيات الاقتصادية الناجمة عن انتشار المتحوِّر الجديد للفيروس، أهمها الآتي:

 

1. عودة قيود السفر، والتأثير على قطاعي الطيران والسياحة والقطاعات التي تحتاج لتواصل بشري مباشر: في حين نصحت منظمة الصحة العالمية بعدم فرض أي قيود على السفر لوقف تفشي الفيروس، لا تزال قيود السفر المفروضة تقتصر على الأفراد الذين تظهر عليهم علامات وأعراض الجدري المائي، أو الأشخاص المشتبه في إصابتهم، أو المحتملين، أو المؤكدين، أو أولئك الذين حُددوا بأنهم مخالطون لحالة إصابة بالجدري المائي تحت المراقبة الصحية، غير أن فرض تدابير السفر الدولية الشاملة قد تُثني الدول عن الإبلاغ بشفافية عن الحالات الجديدة لما لها من تأثير على قطاعات السياحة والسفر بها.

 

2. التأثير على حجم الاستثمار والتجارة في أفريقيا: حيث أكد المدير العام لاتحاد منظمات التصدير الهندية أن القلق من انتشار المرض في أفريقيا يمكن أن يؤثر على صادراتهم للدول الأفريقية المنتشر بها هذا المرض، وعلى معدلات التجارة والاستثمار معها.

 

3. زيادة الصعوبات التي قد تواجهها الأنظمة الصحية، بما يزيد من الضغط  على قطاع الصحة الذي يعد أحد القطاعات المحورية لضمان وجود اقتصاد قوي وفعال في أي دولة؛ فاحتمال تحوُّل “جدري القرود” إلى جائحة يشكل خطراً شديداً على الأنظمة الصحية التي تكافح بالفعل للتكيف مع الوضع القائم.

 

4. زيادة مكاسب الشركات المنتجة للقاح الخاص بالمرض: حققت شركة التكنولوجيا الحيوية الدنماركية “بافاريان نورديك”، مكاسب أسبوعية كبيرة، وارتفع سهم الشركة المتداول في الدنمارك بنسبة 51%، على خلفية زيادة الطلب على لقاحها المعتمد ضد المرض. وقالت شركة الأدوية الدنماركية إنها مستعدة لإنتاج ما يصل إلى 10 ملايين جرعة من لقاحها الذي يستهدف “جدري القردة” بحلول عام 2025، فيما ارتفعت أسهم شركات الأدوية الأخرى وشركات الرعاية الصحية مع تزايد القلق حيال المتحور الجديد.

 

تحتاج الدول الأفريقية المزيد من معدات التشخيص والعلاجات واللقاحات لتحسين استجابتها لتفشي جدري القردة (Shutterstock)

 

احتمالات تحول المتحوِّر الجديد إلى جائحة عالمية: المحددات والسيناريوهات

هناك عدد من المحددات التي يتوقف عليها إمكانية السيطرة على المتحور الجديد لمرض جدري القردة أو تحوّله إلى جائحة، وهي:

 

  • الغموض المتزايد حول طبيعة المتحوِّر الجديد وطريقة انتشاره وتأثيره المحتمل الذي قد يحدِث مفاجأة تؤدي لزيادة الحالات وتقلل من درجة مقاومة اللقاحات المتوافرة للمتحور الجديد. وقد أثار هذا المتحور قلقاً عالمياً نظراً لانتشاره السريع، والصعوبة النسبية لاكتشافه، وقلة المعلومات المعروفة عن خصائصه، ويُعتقَد أنَّه يتسبب في وفاة 10% من المصابين.
  • طبيعة نقل المرض، حيث يُصعِّب من عملية تحوّل جدري القردة إلى وباء، أن معظم الأوبئة كانت بسبب الفيروسات المحمولة جواً والتي تنتشر بسرعة، بما في ذلك عبر الأشخاص الذين قد لا تظهر عليهم الأعراض، لكن فيروس الجدري ينتشر من طريق ملامسة الجلد للشخص المصاب أو ملابسه وأدواته مما يعني إمكانية تفادي ذلك.
  • عملية التلقيح في الدول الأفريقية والنامية والعقبات المالية والتنظيمية التي تواجه مكافحة المرض[4]، حيث لا توجد أدوية متاحة لجدري القردة، ولا يتوافر أي لقاح متاح خصيصاً لجدري القردة، لكن ثبت أن التطعيم ضد الجدري المائي ناجح بنسبة 85% في الوقاية من جدري القردة، إلا أن اللقاح لم يعد متاحاً للعامة، حيث يُتاح من جانب الحكومات في شكل حملات تطعيم مبكر لمواجهة الفيروس، في الوقت الذي أطلقت الدول الأوروبية حملات تلقيح متسارعة، ما يعني أن المكافحة تتوقف على تعاون دولي سريع يستهدف نشر اللقاحات للسيطرة على المرض. وقالت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في أفريقيا إنها حصلت على تمويل طارئ بقيمة 10.4 ملايين دولار من الاتحاد الأفريقي لمواجهة جدري القردة، وذكر المدير العام جان كاسيا إن هناك خطة واضحة لتأمين 3 ملايين جرعة من اللقاح هذا العام.
  • درجة انتشار السلالة الجديدة من المرض في الدول المختلفة، واحتمالية الفشل في السيطرة على الفيروس في المصدر الأصلي له، بما قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة عالمياً، حيث لم تصبح السلالة الجديدة متوطِّنة إلا في أجزاء من وسط أفريقيا حتى الآن، ونتيجة لضعف البنية التحتية والفقر وارتفاع معدلات الهجرة، تظهر تحديات هائلة في احتواء المرض على طول حدود جمهورية الكونغو الديمقراطية مع رواندا وبوروندي وأوغندا، ما يتطلب شحن المزيد من معدات التشخيص والعلاجات واللقاحات إلى أفريقيا للاستجابة بشكل مناسب للتفشي، فيما قالت مصادر مشاركة في التخطيط لإطلاق التطعيم في الكونغو إنه من المرجح أن تتوفر 65 ألف جرعة فقط على المدى القصير، ومن غير المرجح أن تبدأ الحملات قبل أكتوبر 2024 على أقرب تقدير. وقد أكد وزير الصحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية أن بلاده تحتاج إلى 3.5 مليون جرعة من لقاحات جدري القردة لوقف تفشي الفيروس الذي أصاب أكثر من 15600 شخص.
  • الخبرات المتراكمة من التعامل مع جائحة كورونا التي لم يمر عليها وقت طويل، وما زالت تبعاتها مستمرة مع ظهور العديد من المتحورات من المرض والسيطرة عليه عبر التعاون الدولي في عمليات إنتاج وتوزيع اللقاحات.
  • التساهُل في مواجهة المرض، بما قد يؤدي لتطوير متحورات أكثر قدرة على الفتك والانتشار بسرعة أكبر ومقاومة اللقاحات.

 

وفي إطار هذه المحددات، فإن السيناريوهات المتوقعة لتفشي المرض تصبح كالآتي:

 

السيناريو الأول: تفشي المرض ووصوله لدرجة جائحة أو وباء، في حال كان المتحوِّر الجديد أكثر فتكاً، بالتوازي مع تزايد المعوقات المرتبطة بمكافحته في موطنه الأصلي. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن الضغط على الاقتصاد العالمي سوف يتنامى بصورة كبيرة، بالنظر لاحتمالية وجود حالات إغلاق تؤدي لتوقف النشاط الاقتصادي والتأثير على الأعمال التي تواجه في الأساس مشكلات مركبة منذ جائحة كورونا.

 

السيناريو الثاني: القدرة على السيطرة على المتحوِّر الجديد، عبر التكاتف الدولي لتوفير اللقاحات في الدول الأفريقية، وتوفير البنية الأساسية اللازمة لمكافحة المرض في موطنه. لكن هذا السيناريو يواجه تحدي عامل الوقت والتكلفة. وتظل طبيعة نقل المرض عبر اللمس أو مخالطة المريض عاملاً يزيد من احتمال السيطرة عليه، ويُقلل من إمكانية التعرّض لإغلاق أو قيود سفر مشددة، الأمر الذي يَحُدُّ من حجم تداعياته المحتملة على الاقتصاد العالمي.

 


[1] عُرِف هذا المرض بجدري القردة؛ لأنه ناتج من فيروس قريب من مرض الجدري، اكتُشف عام 1958 لدى قردة كانت تُستخدم في الأبحاث، ولاحقاً أطلقت عليه السلطات الصحية اسم “إمبوكس”.

[2] سبق أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 2022 حالة الطوارئ العالمية بسبب تفشي السلالة الأولى من مرض جدري القردة قبل إنهائها بعد 10 أشهر.

[3] عادة ما تكون عدوى المرض الفيروسية خفيفة، ولكنها يمكن أن تقتل، وتُسبب أعراضاً تشبه أعراض الإنفلونزا. وقد تسببت سلالة جديدة من الفيروس في تفشي المرض في مخيمات اللاجئين في شرق الكونغو هذا العام، وانتشر المرض بعدها في أوغندا وبوروندي ورواندا وكينيا للمرة الأولى. وتشهد ساحل العاج وجنوب أفريقيا أيضاً حالات تفش مرتبطة بسلالة مختلفة من الفيروس، انتشرت عالمياً عام 2022.

[4] اللقاحات في أفريقيا غير متوفرة بشكل أساسي، وقد وافقت الجهات التنظيمية في الكونغو على استخدام اللقاحات محلياً في يونيو 2024، لكن الحكومة الكونغولية لم تطلب رسمياً دعماً من الشركات المصنعة أو الحكومات الأجنبية مثل الولايات المتحدة التي تتطلع إلى تقديم تبرعات من طريق مجموعة اللقاحات العالمية “جافي”.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/altadaeiat-alaqtisadia-ltafshiy-marad-jodri-alqirda-wasinariuhat-tuhawiluh-ila-jayiha

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M