د. توفيق أكليمندوس
من المبكر تقييم أداء الحكومة الألمانية الجديدة التي تسلمت الحكم في ديسمبر الماضي، ولكن يمكن القول إن أداءها أثناء أول اختبار دولي لها –أزمة أوكرانيا- جاء ليؤكد شكوك المتشائمين المستائين من سياسات ألمانيا في العواصم الغربية. فهي سياسات عملاق اقتصادي وقزم استراتيجي، أو عملاق اقتصادي له استراتيجية تجارية واضحة شرهة وقزم استراتيجي لا يكتفي بكونه راكبًا لا يدفع التذكرة، بل هو راكب يعقد مهمة السائق والحلفاء في كثير من الأحوال.
مواقف متباينة ومخاوف قائمة
هناك مخاوف ظرفية أي متعلقة بتلك الحكومة بالذات ومخاوف أخرى نابعة من أداء ألمانيا بصفة عامة وخلال العقدين الماضيين. هذه الحكومة حكومة ائتلافية تضم ممثلين عن ثلاثة أحزاب لها توجهات مختلفة بل متناقضة، على سبيل المثال لا الحصر مواقفها من روسيا ومن نظام الرئيس بوتين ومن العلاقة معه متباينة، موقف الخضر وهو الحزب المتولي لوزارة الخارجية مؤيد لانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ورافض لسياسات روسيا رفضا حادا وإن خففت وزيرة الخارجية من حدة لهجتها بعد دخولها الوزارة- على عكس موقف فصائل هامة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي خرج من صفوفه المستشار الحالي ووزيرة الدفاع، المستشار الجديد له باع في المناداة بالانفتاح على روسيا وبتبني أوروبي “لسياسة شرقية” تراعي مصالح روسيا، وأشرف شولز عندما كان عمدة هامبورج على توأمة مدينته مع مدينة سان بطرسبرج.
من ناحية أخرى لم يحصل المستشار الجديد وحزبه إلا على ربع أصوات الناخبين وهي أسوأ نتيجة لفائز في الانتخابات في تاريخ ألمانيا، وبالتالي للحزبين الآخرين وزن غير مسبوق في الوزارة مما يعقد المشاورات. كما أن برنامج الحكومة الائتلافية لا يسعف المراقبين لأنه يبدو وكأنه إعلان مبادئ غير واقعي – مثلًا هل تستطيع ألمانيا أن تدين بوضوح الصين وممارساتها وهي الشريك التجاري الأهم، ومثلا لم يحدد هذا البرنامج موقف الحكومة من القوات المسلحة ومن برامج التسليح. وقالت مجلة “زي إيكونوميست” أن هذه الحكومة ستضيع وقتًا مهولًا في الثرثرة والجدال حول المبادئ وفي التفاوض حول المواقف الواجب تبنيها، وهذا البرنامج لم يفصل كيف سيمول طموحات، وأخيرًا وليس آخرًا فإن الوزراء الممثلين للخضر قليلي أو عديمي الخبرة، ولم ينجح الحزب في تمرير سياساته وفي إدراجها في برنامج الحكومة، وهذا عامل من عوامل الشك في متانة استقرار هذه الحكومة.
هناك أيضًا مخاوف من مواقف وسياسات راسخة لألمانيا منها مثلًا مواقفها من روسيا، حيث يمكن القول إن ألمانيا بصفة عامة أكثر الدول الغربية تفاهمًا وتعاطفًا مع روسيا، لا ننسى أن مستشارًا ألمانيًا سابقًا ينتمي إلى الحزب الحاكم حاليًا وهو جيرهارد شرودر يعمل لحساب النظام الروسي ولشركة روزنفت، وأن هناك في النخبة السياسية الألمانية تيارات تطالب بفهم (هواجس) روسيا، وبصفة عامة تشعر النخب الألمانية وقطاعات كبيرة من الشعب بعقد ذنب تاريخية تجاه روسيا بعد مذابح الحرب العالمية الثانية (ليس هذا أمرًا عجبًا، العجيب أنها لا عقد لها تجاه أوكرانيا التي كانت أيضًا من ضحاياها)، وتشعر ألمانيا بالامتنان تجاه موسكو لأن جورباتشوف سمح بإعادة توحيد ألمانيا، وتشعر بالتململ مما تراه تطرفًا معاديًا لروسيا من قبل بولندا ودول البلطيق. ويتكلم بعض المراقبين عن علاقات وثيقة وممتدة ومستمرة بين روسيا وكوادر سياسية وأمنية نشأت في ألمانيا الشرقية وأصبحت فاعلة في ألمانيا الموحدة.
دلالات الموقف الألماني من الأزمة الروسية الأوكرانية
في الملف الروسي تحديداً كان دور المستشارة السابقة ميركل أقل سلبية من الميول الألمانية العامة، فهي حاولت أن تجمع بين تعميق التعاون الاقتصادي وتوثيق الروابط مع روسيا وبين مواقف صارمة واضحة من سلوك النظام مع معارضيه ومع دول الجوار، فلعبت دورًا هامًا في توقيع عقوبات على روسيا بعد ضمها القرم واحتلالها لإقليم الدونباس، كما أدانت بشدة ووضوح محاولة تسميم المعارض نافالني ثم اعتقاله والهجمات السيبرانية الروسية، وفي المقابل هي التي أشرفت على تنفيذ Nord Stream ١ وأطلقت بالتعاون مع وزير الاقتصاد في حكومتها الآتي من صفوف الحزب الاشتراكي مشروعNord Stream 2 الذي يسمح بإمداد ألمانيا بالغاز الروسي عبر خطوط لا تمر عبر أوكرانيا وبولندا، وقررت القوى السياسية الألمانية عدم الاهتمام بالتبعات السياسية والاستراتيجية والجيوسياسية لهذا المشروع، إما لأنها قدرت أن روسيا لن تستطيع تحويل هذا المشروع إلى ورقة سياسية تهدد باستخدامها لأن المشروع حيوي لها كما هو حيوي لألمانيا، وإما أنها رغبت في توصيل رسالة لدول أوروبا الشرقية، مفادها أنها لن تفرض إملاءات على ألمانيا، وإما لأنها لم تجد بدائل معقولة بعد قرار التخلي عن الطاقة النووية، وكانت ميركل صاحبة هذا القرار الكارثي بإنهاء اعتماد ألمانيا على الطاقة النووية في مطلع العقد الماضي. بصفة عامة، كانت ميركل التي نشأت في ألمانيا الشرقية، والتي تتقن اللغة الروسية والتي تعرف روسيا جيدًا أكثر فهمًا وتفهمًا لمخاوف وهواجس دول أوروبا الشرقية ولحقائق هواجس ومطامع روسيا وطبيعة نظامها وسمات رئيسها السيد فلاديمير بوتين.
في المقابل، كان موقف الحكومة الألمانية الحالية في مواجهة الأزمة الروسية الأوكرانية مترددًا بل متخاذلًا. حقيقي أن المستشار الجديد لم ولن يلغي العقوبات القائمة منذ أيام ميركل وأدان الحشد العسكري الروسي، ولكنه حاول أن يتجنب اتخاذ الموقف الذي طالبت به الولايات المتحدة وغيرها وهو التلويح بإغلاق Nord Stream 2، ولم تذكر وزيرة الخارجية هذا الاحتمال إلا بعد ضغوط شديدة على برلين، ورفضت الحكومة منح أسلحة لأوكرانيا، واكتفت بتوزيع ٥ آلاف خوذة وتذرعت بصعوبات لوجيستية، ورفضت السماح لحكومات حليفة بمنح أوكرانيا أسلحة ألمانية الصنع أو بها مكون ألماني، ورفضت تسليم إستونيا مدافع هاوتزر لأوكرانيا، وعرقلت عدة مشروعات قرارات للناتو.
في تصريح عنيف قال السيد أرتيس بابريكس وزير دفاع جمهورية لاتفيا ما يلي: “أدت العلاقة غير الأخلاقية والمنافقة بين ألمانيا من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى إلى إحداث شرخ بين أوروبا الغربية والشرقية”، وأضاف أن دول أوروبا الغربية تفكر تفكيرًا بالتمني والرغباتwishful thinking) ) في شئون الأمن، وقال الوزير ملخصًا المفارقة: “لا يمكن إقامة وتحقيق الأمن الأوروبي بدون دور قيادي ألماني، ولكننا في هذه اللحظة، عندما ننظر في كيفية تصرفهم في ملفين الدفاع عن أوروبا وحلف الناتو، وعندنا ننظر إلى جاهزية واستعداد الجيش الألماني، وعندما نجد مثل هذا التردد في استخدام القوة العسكرية، نرى أن المشهد الحالي عبثي وسخيف”.
أما من يريد الدفاع عن الموقف الألماني فيستطيع أن يتقدم ببعض الحجج، منها أن ألمانيا في حاجة إلى الغاز الروسي لا سيما في الشتاء، ومنها أن كل الفاعلين الغربيين بما فيهم الولايات المتحدة وباستثناء المملكة المتحددة ترددوا قبل حسم مواقفهم والتعامل بحزم مع التهديد، ومنها أن إمداد أوكرانيا بأسلحة لن يغير موازين القوة وقد يستخدم كذريعة من قبل روسيا، ومنها أن الولايات المتحدة ضخمت من الأزمة لسبيين: أولهما تقوية الناتو وتذكرة الأوروبيين بدورها الحاسم في تحقيق أمنهم، وثانيهم أن عددًا كبيرًا من كوادر الإدارة الأمريكية الحالية خدم في إدارة أوباما التي قللت من شأن التهديد الروسي ثم فوجئت بضم القرم والهجوم على الدونبا، وهذا العدد لا يريد أن يكرر خطأ الاستهانة بروسيا، ويشير أنصار هذا التفسير إلى كون صور الأقمار الصناعية حمالة أوجه، نعم هناك حشد وهناك نشر صواريخ ولكن الصور لم تجد أثرًا لمستشفيات ميدانية أو لخطوط إمداد تسمح بعملية غزو، ولكن هذه الحجة لم تعد صالحة، إذ تم في نهاية شهر يناير رصد المستشفيات الميدانية.
والمدافعون عن الحكومة الألمانية يستطيعون أيضًا ذكر مواقف صارمة اتخذتها في مواجهة موسكو، إذ قامت بطرد اثنين من الدبلوماسيين الروس بعد أن حكمت محكمة ألمانية في قضية قتل تم في برلين في أغسطس ٢٠١٩ وقالت إن القتل تم بأوامر من السلطات الروسية، ويستطيعون أن يشيروا إلى سرعة وحزم تعامل الحكومة مع قائد البحرية الذي أدلى بتصريحات مؤيدة للزعيم الروسي بوتين وأجبرته على الاستقالة، ويقولون أيضًا إن موقف ألمانيا لا يختلف كثيرًا عن موقف فرنسا التي تفضل الوسائل الدبلوماسية لحل الأزمة وتخفيض حدتها والحوار مع روسيا مع إدانة واضحة لسلوكها. ونشير في هذا الصدد إلى المشاورات بين المستشار شولز والرئيس ماكرون ومحاولاتهما فتح قنوات للحوار مع موسكو وإحياء ما يُسمى صيغة نورماندي وهي مفاوضات تضم فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا، ولم تغلق روسيا الباب، ولكنها أفهمت الكل أن المفاوضات الهامة والمتعلقة بالوضع الحالي هي المفاوضات مع الولايات المتحدة.
الحكومة الألمانية الحالية “ورثت” وضعًا يعتمد فيه الاقتصاد الألماني على الغاز الروسي اعتمادًا يغل يديها، ومن المفهوم أن ألمانيا من أكثر الدول المعرضة لخسائر جسيمة في حال وقوع حرب، ومن المفهوم أيضًا أنها ستتحمل العبء الأكبر في حال توقيع عقوبات حقيقية على روسيا أو في حال احتلال أوكرانيا، وكذلك من المفهوم أن قواتها المسلحة غير جاهزة، وأنها شأنها شأن أوروبا تعاني من أزمة ثقة في حنكة إدارة الرئيس بايدن، وأنها قد تكون متململة من محاولات فرنسا فرض تصوراتها عن الأمن والسياسة الأوروبيين وعن ضرورة استقلال أوروبا عن واشنطن كلما اندلعت أزمة، من المفهوم أيضًا التململ من تعدد طلبات دول أوروبا الشرقية الواقعة اقتصاديًا في الفلك الألماني، ومع تقدير كل هذا، لا تزال هناك صعوبة في تبرير بعض أو مجمل المواقف الألمانية التي عرقلت عمل الناتو، والتي اعترضت على منح أسلحة لأوكرانيا رغم وضوح الحشد الروسي ووضوح كون المطالب الروسية مطالبة بحق فيتو على قرارات عدد من الدول، وبتقييد سيادة تلك الدول، ورغم أسلوب روسيا في تقديم شروط غير طبيعية، وممارسة الاعتداءات السيبرانية. الخطير في هذا الأمر فقط ليس البطء في رد الفعل، فهو طبيعي في ظل الوضع المؤسسي الألماني وفي ظل وجود حكومة ائتلافية، المشكلة هنا هي أن الحكومة الألمانية تعطي انطباعًا قويًا عن عجزها -شأنها شأن سلفها- عن الانتقال من التفكير الاستراتيجي في ملفات التجارة والاقتصاد، إلى التفكير الاستراتيجي في الأمن والسياسة والجغرافيا السياسية، المشكلة هي أن ضعف ألمانيا يُضعف كل أوروبا، وبالتالي يعرقل الانتقال الأمريكي إلى المحيطين الهادي والهندي.
.
رابط المصدر: