في الانتخابات؛ الأحلام مشروعة بعضها يقبل أن يكون واقعاً، وأكثرها وعود مفرطة في التفاؤل غرضها دغدغة مشاعر الناخبين واستقطاب الأصوات. انتخابات تركيا لا تخرج عن هذه القاعدة الثابتة في أي انتخابات أياً كان البلد.
مرشح المعارضة السداسية كمال كليتشدار في أحد مقاطع الفيديو الشهيرة له بعنوان «أنا علوي»، كان محور حديثه عن الشراكات والأحلام التي يسعى إلى تحقيقها إذا ما فاز في السباق الانتخابي، أهمها إنهاء إرث الرئيس إردوغان، وأن يدلي كل تركي بما يؤمن ويعتقد حول هويته الدينية والسياسية والآيديولوجية بلا خوف أو مضايقات. الأحلام التي بَشّر بها كبرى، مرتبطة بالبرنامج الانتخابي الذي اتفقت عليه أحزاب المعارضة الستة الداعمة لترشيحه للرئاسة التركية، والذي يقوم على ثلاثة مبادئ كبرى وهي؛ إنهاء النظام الرئاسي المطبق منذ عام 2018 والعودة إلى صيغة النظام البرلماني والرئيس الشرفي، وإحداث تغييرات كبرى في طريقة إدارة الاقتصاد بناء على مفاهيم الليبرالية الجديدة التي تؤمن بها أربعة أحزاب، أبرزها «ديفا» برئاسة علي بابا جان و«المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو و«حزب الجيد» برئاسة ميرال أكشينار، وثالثاً مساحة واسعة من الحريات والتسامح بهدف استيعاب كل الأصوات السياسية والهويات الفرعية.
أحلام المعارضة تمثل في واقع الأمر برنامجاً طموحاً يتطلب تحقيقه سنوات وسنوات، ولا يخلو من قيود عملية ودستورية. ومن أهم ما يساعد على تحقيقه أن تفوز المعارضة في انتخابات الرئاسة، وأن تشكل غالبية مريحة أكبر من الثلثين في البرلمان، وأن يتراجع حزب العدالة والتنمية برلمانياً إلى الحد الذي يجعل معارضته بلا جدوى. حصول أحزاب المعارضة على أغلبية البرلمان إضافة إلى تماسكها واتفاقها على برنامج حكومي موحد أو منسق في معظم بنوده، يمثل الشرط الأكبر الذي سيمكن كيلتشدار إذا ما فاز بالرئاسة على ضمان تمرير التعديلات الدستورية الكبرى، التي يتطلبها التحول إلى نظام برلماني، وتمريرها لاحقاً عبر الاستفتاء وفقاً للدستور الحالي.
إذن، الفوز معاً في الاستحقاقين الانتخابيين، هو المدخل الوحيد إلى تحقيق أحلام المعارضة الكبرى، ومن ثم إنهاء إرث الرئيس إردوغان الذي أتم بناءه عبر عقدين من الزمن، مر بمراحل ومطبات كثيرة، إلى أن تم تجسيده في صورة نظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات عريضة ومسؤوليات لا حدود لها. هذا الفوز في الاستحقاقين الانتخابيين حال تحققه سيضع تركيا على مسار مختلف عما هو معروف حالياً، داخلياً وخارجياً. وإذا تعذر فوز المعارضة في الاستحقاقين معاً، ستدخل تركيا حقبة اللاحسم السياسي، والأمر ذاته ينطبق على الرئيس إردوغان. وأياً كان الرئيس الفائز من دون أغلبية برلمانية مريحة تجمع بين الحزب الرئيسي وحلفائه من الأحزاب الأخرى، سيكون من الصعوبة بمكان تشكيل حكومة تتسم بقدر معقول من التناغم الداخلي، تساعد الرئيس على تنفيذ برنامجه وأحلامه التي بشر بها الناخبين. وعندها ستصبح تركيا في مأزق كبير، قد تصبح معها انتخابات جديدة ومبكرة، بمثابة الحل العملي الوحيد المتاح، لعلها تفرز معادلات جديدة تساعد على تحقيق الأحلام أياً كانت.
معضلة الفوز في استحقاق انتخابي والفشل في الآخر، ومحاولة التعايش مع نتائجها لفترة طويلة تبدو وفقاً للحقائق السائدة في تركيا أمراً بعيد المنال، لا سيما أن صلاحيات الرئيس ورغم اتساعها الكبير وفقاً للنظام القائم حالياً، فإنها تتطلب بدورها سنداً برلمانياً وشعبياً لكي يتم تحقيق الوعود أياً كانت. ومثل هذه المشاهد المتوقعة على اختلافها، تجعل الانتخابات القريبة بمثابة حد فاصل بين حقبتين تاريخيتين، لكل منهما مزايا محتملة وإشكاليات يتعذر تجنبها، وتتطلب موارد سياسية ومعنوية قبل أن تكون موارد مادية.
التفكير في شكل تركيا الجديدة، سواء مع استمرار الرئيس إردوغان وأغلبية برلمانية مريحة لحلفائه، أو فوز المعارضة وبداية الانقلاب على إرث إردوغان، يبدو تفكيراً محفوفاً بالمخاطر الكبرى، فهذه الانتخابات تحيط بها بيئة سياسية ومجتمعية واتصالية جديدة لم تكن ذات تأثير في الماضي، سيكون لها دور كبير في تحديد مستقبل تركيا. أبرز عناصرها الناخبون الشباب، ما بين العشرين إلى الخامسة والعشرين من السنوات، والذين سيحق لهم التصويت للمرة الأولى، وهؤلاء ينتمون إلى الجيل الموسوم بجيل «زد»، ويزيد عددهم عن خمسة ملايين ناخب من بين 62 مليون ناخب يحق لهم التصويت. وهم الأكثر ارتباطاً بوسائل التواصل الاجتماعي والهاتف المحمول، ولا يحصلون على ثقافتهم السياسية بالوسائل التي توصف الآن بالتقليدية كالقراءة ومتابعة الصحف والحصول على الأخبار من القنوات التلفزيونية أو الإذاعة، وتفصل بينهم وبين الأجيال الأكبر مسافات كبيرة في أساليب التعلم والترفيه ونمط الحياة والتطلع إلى المستقبل. ووفقاً لاستطلاعات رأي لمراكز البحوث التركية حول توجهات هذه الشريحة تجاه الانتخابات والمرشحين الكبار، تبين أن نسبة لا تقل عن الثلث لم تحدد رأيها، ونسبة في حدود 20 في المائة ليست مهتمة بالانتخابات أصلاً وليس لديها توجه معين. ويمثل هؤلاء نسبة معتبرة، فيما يعرف بالناخب المتردد، الذي ربما يحسم أموره في اللحظة الأخيرة لمنح صوته لمرشح أمكنه جذب اهتمامه، أو ربما امتنع عن التصويت لأي من المرشحين بسبب عدم شعوره بأنه لا شيء قد يتغير، أو لأن المعروض أمامه لا يناسب اهتماماته.
تمتد عناصر البيئة الجديدة إلى مؤشرات تصب في أن العوامل التقليدية المؤثرة في اختيارات الناخبين، المرتكزة على المؤثرات الاقتصادية من حيث الواقع وضغوطه، والوعود التي يطرحها المرشحون لتحسين جودة الحياة، لم تعد بالقوة ذاتها، حيث برز الانتماء الحزبي والهوية الدينية والآيديولوجية كعناصر مهمة، سواء في الخطاب السياسي للمرشحين، وهو ما أوضحه إعلان كمال كليتشدار حول هويته الدينية كعلوي رغم رئاسته للحزب الجمهوري المعروف بعلمانيته إلى حد العداء مع الدين بوجه عام، واقتناعه الشديد بالكمالية كمنظومة فكرية سياسية تحمل الخير للبلاد كما أسسها كمال أتاتورك، وكذلك ما طرحه أحمد داود أوغلو رئيس حزب المستقبل من كونه سنياً، أو في تحديد مواقف الناخبين كما أبرزته العديد من استطلاعات الرأي. وكلا البعدين يكشفان عن حجم التحول في العوامل التي تساعد الناخب على تحديد اختياره. وهو التغير الذي يبدو أنه فرض على كليتشدار أن يضع الدين كمحدد في حملته الانتخابية مع توجهات جديدة تحمل معنى الاعتذار للنساء التركيات المحجبات، وقبوله التعاون مع أحزاب ذات توجه ديني واضح، كحزب الرفاه الجديد.
في البيئة الجديدة نلمح التأثير الكبير لوجود اللاجئين السوريين، الذين فرضوا على كل الأحزاب والقوى السياسية أن تحدد موقفاً أقل ما يوصف بأنه شعبوي بامتياز، يحملهم مسؤولية فقدان الوظائف وتردي قيمة العملة والصعوبات اليومية، ويجد في طردهم المخرج الوحيد، سواء في عام أو عامين، فالمهم هو التخلص منهم، ومن أعبائهم. إنها تركيا الجديدة بعد انتخابات مثيرة.
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط
.
رابط المصدر: