من المرجح أن تشمل جهود أنقرة الرامية إلى “إعادة المركزية الناعمة” في العراق جهوداً أكثر كثافة لإقامة “طريق التنمية” وإعطاء الأولوية لمصالح بغداد، وإن كان ذلك دون التخلي عن “إقليم كردستان”.
كما نوقش في الجزء الأول من هذا التقرير، تتسم استراتيجية تركيا في سوريا بتعقيدها إلى حد ما، وقد تشمل مفاوضات متزامنة مع نظام الأسد والولايات المتحدة، مع المخاطرة بإلحاق الضرر بالعلاقات مع واشنطن في حال فشل التنسيق بين الحكومتين. وعلى النقيض من ذلك، فإن استراتيجية أنقرة تجاه العراق – والتي تتلخص في الترويج للأموال التركية على الأسلحة الإيرانية – أكثر وضوحاً ومن المرجح أن تحظى بدعم الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، طرحت أنقرة مشروع “طريق التنمية”، وهو شبكة تجارية مقترحة تمر عبر العراق وتركيا، وتربط الأسواق الآسيوية والأوروبية عبر المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. وفي البداية، كان المشروع منافساً “للممر الاقتصادي الهند – الشرق الأوسط – أوروبا” الذي اقترحته الولايات المتحدة، والذي يمتد من الهند عبر شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام إلى أوروبا. لكن حرب غزة والهجمات البحرية المستمرة التي يشنها الحوثيون أثارت مخاوف أمنية بشأن الشحن التجاري عبر البحر الأحمر، مما عزز فجأة آفاق مشروع “طريق التنمية” على حساب “الممر الاقتصادي الهند – الشرق الأوسط – أوروبا”. ومع دعم مالي لمشروع “طريق التنمية” من دول الخليج، يتوقع صناع السياسات الأتراك أن المسارات الأولية لـ “طريق التنمية” قد تبدأ بالعمل في وقت مبكر من عام 2027. على واشنطن أن تفكر في دعم هذه المبادرة أيضاً، خاصة إذا كانت بحاجة إلى موازنة النفوذ الإيراني في بغداد بعد الانسحاب الأمريكي الجزئي أو الكامل من العراق.
إعادة إعطاء الأولوية لبغداد…
يخدم “طريق التنمية” عدة أهداف استراتيجية طويلة الأمد لتركيا في العراق. فمع زيادة نفوذ إيران في بغداد بعد الإطاحة بصدام حسين، تراجع نفوذ تركيا شمالاً إلى “إقليم كردستان العراق”، وتحديداً إلى المناطق التي يسيطر عليها “الحزب الديمقراطي الكردستاني”.
ولكن في الآونة الأخيرة، قررت أنقرة تحسين العلاقات مع بغداد كجزء من استراتيجيتها الأوسع نطاقاً لتعزيز إعادة المركزية في العراق. ومن بين الخطوات الأخرى التي اتخذتها تركيا هذا العام، إرسال رئيس استخباراتها ووزيري الدفاع والخارجية إلى بغداد، مما أسفر عن توقيع عدة اتفاقيات ثنائية. ووافقت بغداد على إعطاء الضوء الأخضر لمشروع “طريق التنمية” وتصنيف عدو أنقرة – “حزب العمال الكردستاني” – كـ”منظمة محظورة”. (ومن الجدير بالذكر أن عدة دول أخرى قد صنفت بالفعل “حزب العمال الكردستاني” كمنظمة إرهابية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي). وفي المقابل، وعدت تركيا بتخصيص الموارد المائية المشتركة بشكل “عادل ومتساوٍ”، وخاصة نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من تركيا ويتدفقان إلى العراق.
…دون التخلي عن “الحزب الديمقراطي الكردستاني”
حتى إذا نجحت تركيا في إعادة ضبط العلاقات مع بغداد، فإن ذلك لا يعني أنها ستتخلى عن شركائها الأكراد، الذين تعتبرهم شركاء اقتصاديين مهمين ولاعبين رئيسيين في مواجهة “حزب العمال الكردستاني”. وكما في سوريا، تركز سياسة إعادة المركزية التركية على “النعومة”، إذ تدعو إلى إعادة الحكومة المركزية فرض سلطتها في جميع أنحاء البلاد مع الحفاظ على الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق.
ومن المرجح أيضاً أن يستخدم المسؤولون الأتراك علاقاتهم الاقتصادية مع “الحزب الديمقراطي الكردستاني” كوسيلة ضغط لتحفيز “الاتحاد الوطني الكردستاني” – القوة السياسية الرائدة الأخرى في “إقليم كردستان” – على مكافحة “حزب العمال الكردستاني”. (يساهم “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بالفعل في هذا الجهد). وتحقيقاً لهذه الغاية، اتخذت تركيا مؤخراً إجراءات اقتصادية ضد “الاتحاد الوطني الكردستاني”، مثل تعليق رحلات “الخطوط الجوية التركية” إلى معقل الحزب في السليمانية.
وتعتقد أنقرة أن عقود البناء المربحة للبنية الأساسية الخاصة بكل من الميناء والطريق السريع والسكك الحديدية لمشروع “طريق التنمية” سوف تجذب في النهاية النخب في كل من بغداد و”حكومة إقليم كردستان” إلى فلكها، بينما تسعى أيضاً للحصول على دعم الولايات المتحدة لتعزيز النفوذ التركي كقوة لموازنة النفوذ الإيراني. وإذا تحققت جميع هذه الأهداف، فمن المرجح أن تطلب أنقرة من بغداد قبول وجود عسكري تركي في شمال العراق لمنع تسلل “حزب العمال الكردستاني” عبر الحدود. وفي الوقت نفسه، سوف تطلب من “الاتحاد الوطني الكردستاني” حرمان “حزب العمال الكردستاني” من ملاذ آمن على أراضيه، التي تجاور المناطق العسكرية التركية المقترحة (مع ملاحظة العقبات الإيرانية المحتملة أمام هذه الخطة كما هو موضح أدناه). وفي المقابل، سوف تعمل تركيا على دمج العراق في اقتصادها العالمي وربطه بالأسواق الأوروبية عبر طريق التجارة الجديد.
التداعيات على السياسة الأمريكية
تتوافق المصالح الأمريكية والتركية بشكل أكثر ارتياحاً وسهولة في العراق مقارنة بسوريا، لذلك من المفترض أن يجد الشريكان صعوبة أقل في التعاون هناك. ويُعد مشروع “طريق التنمية” جزءاً أساسياً من هذا الجهد. فبالإضافة إلى العائدات المربحة على المدى القصير من عقود البناء، والوعد بالاندماج الاقتصادي مع الأسواق الأوروبية والعالمية على المدى الطويل، سيوفر طريق التجارة المقترح محوراً من شمال العراق إلى جنوبه، أي من الحدود العراقية التركية إلى الخليج العربي – بمعنى آخر، سيقطع “الجسر البري” من الشرق إلى الغرب والذي ساعد إيران في تزويد نظام الأسد و”حزب الله” و”حماس” بالأسلحة لسنوات. وفي ضوء المشهد الاستراتيجي الإقليمي الحالي، يجب على واشنطن أن تفكر في دعم هذا المشروع وخطط أنقرة الأوسع نطاقاً في العراق، حيث أن كليهما يخدم الهدف الرئيسي المتمثل في موازنة النفوذ الإيراني.
بالطبع، سوف تتأثر كل هذه الجهود بما يحدث في سوريا المجاورة، وهي الساحة الرئيسية الأخرى للتنافس الإيراني-التركي. وإذا توصلت واشنطن وأنقرة إلى اتفاق بشأن مستقبل شمال شرق سوريا كما هو موضح في الجزء الأول، فمن المؤكد أن طهران ستتخذ خطوات لتقويض الاستراتيجية التركية الشاملة في الهلال الخصيب. فبالإضافة إلى الضغط على نظام الأسد لرفض أي اتفاق واسع النطاق مع أنقرة، يمكن لطهران الاستفادة من علاقاتها الطويلة الأمد مع “الاتحاد الوطني الكردستاني” لعرقلة الخطط التركية ضد “حزب العمال الكردستاني” في العراق.
كما يمكن لإيران أن تستخدم حلفائها في بغداد لتخريب مشروع “طريق التنمية” سياسياً، إما بإبطاء عملية البناء أو تأخير تنفيذ المشروع. وبالمثل، قد يتم تكليف الميليشيات الشيعية المدعومة من طهران بزيادة ضغوطها السياسية وهجماتها الحركية على الجهات الفاعلة التي تدعمها تركيا، بما في ذلك “الحزب الديمقراطي الكردستاني” والفصائل السياسية المختلفة التي تدعم “طريق التنمية”. ومن خلال مساعدة تركيا في مواجهة مثل هذه التحركات، بإمكان الحكومة الأمريكية تحقيق عدة أهداف أوسع نطاقاً – بدءاً من تعزيز المنافسة بين القوى العظمى في الهلال الخصيب (حيث تُعد أنقرة حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة ضد طهران وشريكاً متزايد الأهمية مع روسيا) إلى فتح نافذة للتعاون الثنائي والتي ولّدتها التطورات الأمريكية – التركية الأخيرة (على سبيل المثال، إرسال طائرات “إف-16” لأنقرة بعد موافقتها على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي).