شريف أبو الفضل
تمثل السياسة الإقليمية التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، مأزقًا حقيقيًا أمام أمن واستقرار الدول الواقعة في هذه المنطقة ومثار جدل دائم، نتيجة لما تتسم به سياسات الدولة التركية التي ترى نفسها قائدة لمنطقة الشرق الأوسط وليست جزءًا منها، وذلك لأسباب تتعلق بالإرث التاريخي الممتد إلى العهد العثماني الذي سيطر فيه الأتراك على المنطقة العربية والبلقان وآسيا الوسطى، بالإضافة لموقعها الجغرافي بين أوروبا وآسيا، فهي الجارة الطامعة للدول العربية والحليف الصامت لإسرائيل والشريك الأطلسي الإستراتيجي لدول الغرب والمتطلع للانضمام للاتحاد الأوروبي والند الدائم لإيران والمغازل للولايات المتحدة الأمريكية والمعاند لروسيا عند الضرورة.
تمثل ليبيا ساحة نفوذ لتركيا ومحطة مهمة ضمن الأجندة التركية الرامية لبسط مشروعها الإقليمي في المنطقة، حيث تقدم الدعم لحكومة فايز السراج والميليشيات المؤيدة له في مواجهة قوات المشير خليفة حفتر، الذي يزعم أنه يهدف إلى استعادة الأمن والنظام وتخليص الأراضي الليبية من الجماعات الإرهابية.
وقد شكّلت المعارك الأخيرة بين قوات حفتر والميليشيات المسلحة في طرابلس، وخاصة في بلدة غريان الإستراتيجية بدعم تركي عبر الطائرات المسيرة والعتاد الحربي، تصعيدًا خطيرًا بين الجانب التركي وحفتر، ما أدى إلى تصاعد حدة التهديدات بين الجانبين باستهداف المصالح التركية في ليبيا واستهداف عناصر قوات حفتر من قبل أنقرة.
يعتزم حفتر استكمال السيطرة على كامل الأراضي الليبية بعدما بسط سيطرته على الشرق الليبي، وتمكن بالفعل من السيطرة على بعض البلدات القريبة من العاصمة طرابلس، وهو الأمر الذي تراه أنقرة تهديدًا لمصالحها في ليبيا وطعنة جديدة لمشروعها في المنطقة، لذلك تقاتل مع ميليشيات طرابلس وغرب ليبيا من أجل الحيلولة دون سيطرة حفتر على طرابلس. فنتيجة تلك المعركة تتوقف عليها حسابات وموازين القوى، ليس فقط في ليبيا وإنما أيضًا عبر الإقليم الذي يعاني من جبهات ساخنة عديدة في الخليج العربي وفي الشام وجنوب الجزيرة العربية والقرن الأفريقي.
وفي المقابل، دخل حفتر في مواجهة مفتوحة، حيث استهدفت قواته طائرة تركية مسيرة واحتجزت ستة أتراك، قبل أن تُفرِج عنهم، ووسّعت من دائرة المشتبه بهم من الأتراك في ليبيا، وحظرت الرحلات الجوية، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الدفاع التركية أن ذلك يمثل تهديدًا للمواطنين الأتراك والمصالح التركية في ليبيا، ما قد يدفع أنقرة للدفاع عن نفسها، تلك التطورات تنذر بمزيد من التصعيد وعدم الاستقرار في ليبيا والمنطقة.
الدعم التركي لحكومة السراج
تقف تركيا -بشكل أساسي- خلف حكومة فايز السراج في طرابلس وتدعم الميلشيات المسلحة المسيطرة على العاصمة وعلى غرب ليبيا، سياسيًا وعسكريًا ولوجيستيًا، لأسباب عديدة منها:
- رغبة تركيا في فرض موطئ قدم لها في شمال أفريقيا، من خلال البوابة الليبية التي تطل على البحر المتوسط وتجاور مصر والجزائر ونيجيريا وتشاد، وكلها دول هامة في أمن واستقرار القارة، في إطار سياسات أنقرة الرامية لتوسيع دائرة نفوذها في القارة الأفريقية، والتي أصبحت محط أنظار القوى الدولية والإقليمية، من خلال قواعد عسكرية لها في منطقة القرن الأفريقي (الصومال تحديدًا).
- تعويض تركيا بمساحات نفوذ جديدة بعد تراجع دورها نسبيًا في سوريا لأسباب تتعلق بالتقاطعات الدولية والإقليمية للأزمة السورية، والتي تفرض على أنقرة مزيدًا من التحجيم والقيود في دورها المتدخل في سوريا. كما تراجع الدور التركي في العراق بسبب رفض بغداد تدخلها في الشمال العراقي ومعارضة إيران والولايات المتحدة لإجراءات أنقرة في هذا الصدد، وكان الاستثناء الوحيد في هذا هو انطلاق عملية «نبع السلام» التركية مستهدفة الأكراد، لإنشاء المنطقة الآمنة في شمال سوريا، في سبيل إعادة اللاجئين والحيلولة دون إقدام الأكراد على إنشاء كيان مستقل لهم في الشمال السوري والجنوب التركي.
- التغطية على أزمات الداخل، حيث يواجه الداخل التركي أزمات متتالية لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، تمثل أبرزها في استمرار تراجع سعر صرف الليرة وعجز الحساب الجاري وتفاقم الديون الخارجية منذ العام الماضي 2018، فضلًا عن تورط أنقرة في الملفين السوري والعراقي وما لذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية على الداخل التركي، وليس أدل على ذلك من تراجع شعبية الحزب الحاكم منذ 2002 (حزب العدالة والتنمية) في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وخسارته أهم المعاقل الرئيسية والمدن الكبرى وتحديدًا إسطنبول وأنقرة وأزمير.
- الأبعاد الدولية والإقليمية للأزمة الليبية تجعلها مساحة نفوذ أسهل نسبيًا لتركيا دون غيرها، بمعنى أن أدوار القوى الدولية والإقليمية في ليبيا ليست كمثيلتها مثلًا في الأزمة السورية أو اليمنية بتعقيداتهما، فدور واشنطن يكاد يكون منعدمًا في الملف الليبي، وموسكو تقف على مسافة متساوية نسبيًا من حكومة فايز السراج وقوات حفتر، كما أن الدور الفرنسي الداعم للجيش الليبي وخليفة حفتر يوازيه الدور الإيطالي الداعم لمخرجات اتفاق الصخيرات وحكومة فايز السراج، وهما بذلك متعارضان ويُفضِّلان عدم التدخل بشكل مباشر في الأزمة ولا سيما في النواحي العسكرية واللوجيستية، ويقتصر الدور الإقليمي في ليبيا على الموقف المصري تجاه الأزمة باعتبارها مسألة أمن قومي مصري من بوابته الغربية ودور سعودي وإماراتي داعم لحفتر، ودور سياسي جزائري وتونسي طفيف لأسباب تتعلق بالداخل المضطرب في كلا البلدين، لذا تستغل تركيا الانشغال الدولي والإقليمي عن الأزمة لتملأه بدعمها سياسيًا وعسكريًا لحكومة فايز السراج والميليشيات المسلحة في طرابلس وغرب ليبيا.
وعن طبيعة الدعم التركي، فإن أنقرة تقدم دعمًا سياسيًا واضحًا لحكومة فايز السراج، في حين تمد الميلشيات في طرابلس والغرب الليبي بدعم عسكري ولوجيستي كبير، إذ تقول بعض التقارير إن تركيا أرسلت 5 ملايين رصاصة إلى ليبيا، وأربع سفن محملة بمختلف أنواع الأسلحة وسيارات هجومية مصفحة «تيوتا سيراليون»، وسيارات رباعية الدفع، وآلاف من المسدسات «بيريتا»، وطائرات مُسيرة متقدمة طراز بيرقدار TB2، فضلًا عن عدد ليس بالقليل من الضباط والجنود والمستشارين الأتراك الذين يعاونون الميليشيات المسلحة في معاركهم ضد حفتر. وقد قامت السلطات اليونانية بتوقيف سفينة «أندروميدا» في 11 يناير/كانون الثاني 2018 بعد مغادرتها أحد الموانئ التركية إلى ميناء مصراتة في ليبيا وعلى متنها حاويات محملة بمواد متفجرة.
وقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في غير مرة دعمه الصريح للسراج وميليشيات طرابلس وغرب ليبيا، كما وقّعت أنقرة بروتوكول تعاون مع السراج لتدريب أفرد الشرطة الليبية، وتسعى لتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك وإدخالها حيز التنفيذ، بما يسمح بدفع تشكيلات تركية لدعم السراج.
تصاعد التهديدات بين تركيا وحفتر
في الخامس من إبريل/نيسان 2019، أعلن حفتر إطلاق عملية «طوفان الكرامة»، وذلك للسيطرة على العاصمة طرابلس من قبضة السراج والميلشيات المؤيدة له، استكمالًا لعملية «الكرامة» التي أعلنها في 2014، وبدأت من بنغازي وحققت نجاحات لا بأس بها.
أدى تقدم قوات حفتر نحو طرابلس إلى السيطرة على عدد من المراكز الهامة التي تُمكِّنهم من الانطلاق نحو العاصمة، مثل الأصابعة، وترهونة، وعين زارة، ووادي الربيع، بالإضافة إلى غريان، وهي المدخل الجنوبي لطرابلس، وبحكم موقعها المميز تم اتخاذها مقرًا لغرفة العمليات الرئيسية، ومركزًا لوجيستيًا لدعم القوات، الأمر الذي دفع الميليشيات المسلحة في طرابلس بدعم تركي لشن هجوم على غريان والسيطرة عليها لقطع الإمدادات عن قوات حفتر.
نتيجة لما سبق، وجّهت قوات حفتر على لسان متحدثها الرسمي «أحمد المسماري» اتهامًا مباشرًا لتركيا بالتدخل المباشر في معركة طرابلس وأن ليبيا تتعرض لغزو تركي.
وفي ضوء ذلك، أعلنت قوات حفتر اعتبار أي أهداف تركية على الأراضي الليبية أهدافًا معادية، وكذلك قررت استهداف السفن التركية في المياه الإقليمية الليبية، واستهداف أي طائرة تركية تقلع من سفينة تركية، واستهداف أي نقطة على الأرض تتعامل مع تركيا، بالإضافة إلى حظر رحلات الطيران من أي مطار ليبي إلى تركيا، وقد تم استهداف طائرة مسيرة تركية من طراز (بيرقدار) كانت مُذخرة داخل مطار معيتيقة، تستعد لتنفيذ غارات على مواقع تابعة لقوات حفتر.
وفي المقابل، جاءت ردود الفعل التركية على أعلى مستوى من رئيس الدولة (أردوغان) ووزير دفاعه (خلوصي آكار)، وأكدت الردود على أن قوات حفتر هي أهداف تركية في حال استهدافها مصالح تركيا في ليبيا، وأن هناك ثمنًا «باهظًا جدًا» لأي موقف عدائي أو هجوم ضد تركيا في ليبيا، وهو الأمر الذي صُنِّف بأنه بمثابة مواجهة مباشرة وإعلان حرب بين الطرفين.
مستقبل التصعيد بين الطرفين
تمثل ليبيا بالنسبة لتركيا آخر محطة رئيسية من محطات الإسلام السياسي التي تعتبر أنقرة نفسها راعية له في المنطقة، بعد أن لاقى ضربات موجعة في مصر وسوريا والعراق والسودان، ولذلك لن تتخلى عن التدخل في الساحة الليبية بسهولة، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا.
جاء ارتفاع حدة التصريحات بين الجانب الليبي والتركي مؤخرًا نتيجة لتراكمات الماضي، فمعلوم للجميع ووفقًا لكل المصادر المحايدة، أن تركيا تقدم الدعم العسكري واللوجيستي للميليشيات في طرابلس وغرب ليبيا بإرسالها سفن الأسلحة والشاحنات الحربية، كما تقدم الدعم السياسي وترغب في تفعيل الاتفاق العسكري مع حكومة فايز السراج المسيطرة على العاصمة طرابلس، ويحرص الرئيس التركي على تأكيد دور بلاده في الملف الليبي بزيارته لدول الجوار الليبي (السودان وتشاد وتونس) في الفترة من 24 إلى 27 ديسمبر/كانون الأول 2017.
كل هذا، في ضوء إصرار قوات حفتر على إنجاز معركة طرابلس التي طال انتظارها، والسيطرة عليها، وهو ما تحول دونه تركيا، ما دفع حفتر لإعلان الأهداف التركية في ليبيا أهدافًا مشروعة لمرمى نيران قواته، الأمر الذي يزيد الأمر تعقيدًا وغموضًا وينذر بما لا يُحمد عقباه.
تبدو المعركة طويلة وغامضة، والتصعيد في ظل المعطيات المتاحة في ازدياد، ولن يكون الحل إلا عبر توافق دولي وإقليمي للتسوية في ليبيا، والتوصل إلى توافق بشأن الاستقرار وفرض النظام وبناء الدولة في ليبيا من أجل الحد من التدخلات الإقليمية والدولية الرامية لتحقيق مصالحها، والنيل من مقدرات الشعب والدولة في ليبيا.
رابط المصدر: