محمد فوزي
وسط صمت تركي، أعلنت وسائل إعلام روسية في السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أن الجيش التركي قام باختبار منظومة “إس-400” قرب مدينة سينوب المطلة على البحر الأسود، وأشارت المصادر إلى أن العسكريين الأتراك أسقطوا خلال التدريبات ثلاثة أهداف بثلاثة صواريخ تم إطلاقها من منظومة “إس-400″، ثم أعلن أردوغان بعدها بأيام أن بلاده بالفعل أجرت أول اختبار للمنظومة الصاروخية الدفاعية الروسية، مشيراً إلى أن تركيا لا تعبأ بالانتقادات الأميركية، وأنها لن تأخذ الإذن من الأميركيين.
حظي هذا التحرك التركي باهتمام وردود أفعال كبيرة، خصوصاً مع كون هذه التحركات تتم عبر سلاح روسي في منطقة تقع في أجواء حلف شمال الأطلسي، وهو الاهتمام الذي يرتبط كذلك بالأهمية التي تحظى بها منطقة البحر الأسود، فضلاً عن الصراع الكبير بين العديد من الفاعلين الدوليين في هذه المنطقة الاستراتيجية، وكذلك تم الإعلان مؤخراً عن مناورات جسر الصداقة المصرية الروسية بين الطرفين في منطقة البحر الأسود.
أبعاد الاهتمام التركي بالبحر الأسود
يأتي الاهتمام التركي بمنطقة البحر الأسود في ضوء عدد من الاعتبارات والدوافع:
أولاً: تقوم السياسة الخارجية التركية في الحقبة الحالية للرئيس رجب طيب أردوغان على مرتكز رئيسي وهو ما يصفه الباحثون بفكرة “العثمانية الجديدة” وحلم استعادة الإمبراطورية القديمة، حيث يسعى أردوغان إلى إحياء مشروع الإمبراطورية العثمانية من جديد، وزيادة الوعي في الداخل التركي بها، ليصبح هذا الوعي وهذا الحضور الطاغي لهذه الفكرة أساساً للجمهورية الثانية التي يتطلع أردوغان إلى الإعلان عنها في 2023 أي بعد مرور قرن على ولادة الجمهورية الأولى على يد أتاتورك.
وقد أصبحت هذه الفكرة محدّداً رئيسياً حاكماً لتوجهات وتحركات السياسة الخارجية التركية. وفي هذا السياق تأخذ المساحات التي كانت خاضعة للحكم العثماني مساحة واسعة من اهتمام صانع القرار التركي في هذه الحقبة، وفي ضوء ذلك يمكن فهم الاهتمام التركي بمنطقة البحر الأسود، وهو الذي ظل لفترات بحراً داخلياً للإمبراطورية العثمانية.
ثانياً: تنافس تركيا مع القوى الدولية: يجب التمييز بين مرحلتين رئيسيتين في السياسة الخارجية التركية، المرحلة الأولى منذ عام 2002 حتى عام 2010، وهي المرحلة التي تبنّى فيها حزب “العدالة والتنمية” سياسة تقوم على مبدأ وقاعدة “صفر مشاكل” وهي القاعدة التي نظّر لها وزير الخارجية في تلك الفترة أحمد داود أوغلو، وأشار إلى أنها تقوم على عدد من المبادئ والمحددّات الرئيسية منها: التوازن في معادلة الأمن والحريات، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، وتبني سياسة خارجية تركية متعدّدة الأبعاد، وتبنّي سياسة إقليمية استباقية ونشطة.
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت مع 2011 وما صاحب هذه الحقبة من ثورات وانتفاضات في العالم العربي، حيث بدأت تركيا بالتدخل المباشر في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي، لتصبح فاعلاً رئيسياً في هذه القضايا، على نحو فاقم من أزماتها الإقليمية والدولية.
في ضوء ما سبق لا تنفصل التحركات التركية في البحر الأسود عن هذا التحول في السياسة الخارجية التركية، فالمتابع لعلاقات تركيا بالفاعلين الرئيسيين في المشهد في هذه المنطقة سيجد أن هذه العلاقات يشوبها ويطغى عليها التوتر، وذلك على النحو التالي:
– دول حلف شمال الأطلسي: تشهد العلاقات بين تركيا والدول الأعضاء في حلف الناتو توتراً شديداً وذلك في ضوء عدد من المسببات، فمن جانب توجد خلافاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي الخلافات التي تعمقت في عهد الإدارة الأميركية الحالية، وقد شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، خلال حقبة الرئيس ترامب أزمات كبرى سياسية واستراتيجية، بسبب اختلاف الرؤى حول العديد من القضايا والملفات المشتركة، خصوصاً في ما يتعلق بشراء تركيا لمنظومة الدفاع الروسية اس–400، ودعم الولايات المتحدة للأكراد، واستضافتها للداعية التركي فتح الله غولن، وانتهاك تركيا العقوبات المفروضة على إيران، إلى آخر هذه الأسباب التي عمقت الخلاف بين الطرفين، وأوصلت العلاقات بينهما إلى مرحلة غاية في السوء.
في السياق ذاته، زادت حدة التوتر بين تركيا من جانب وباقي دول حلف الناتو خصوصاً منذ 2019، حيث بدأت تركيا مؤخراً محاولات إيجاد مكانة إقليمية ودولية لها في المنطقة على اعتبار أنها فاعل مهم داخل حلف الناتو، لكن المسألة أصبحت أكثر تعقيداً عندما بدأت تركيا بخلط أوراقها وأجنداتها داخل حلف الناتو وخارجه، وقد عكست حالة التوتر بين الطرفين تصريحات مسؤولين فرنسيين أن باريس تريد إجراء محادثات مع دول أعضاء حلف شمال الأطلسي من أجل مناقشة دور تركيا الذي وصفوه بالعدواني وغير المقبول على نحو متزايد، واتهم مسؤول فرنسي أنقرة بخرق حظر توريد السلاح الذي فرضته الأمم المتحدة على ليبيا، وبتعزيز الوجود البحري قبالة سواحلها والتدخل الذي سبّب الكثير من المشكلات. وفي قمّة الناتو في واتفورد، في المملكة المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2019، كانت التوترات بخاصة بين الولايات المتحدة وتركيا لا تزال في أوجها، لأن الرئيس أردوغان قرر على الرغم من كل التحذيرات من واشنطن شراء نظام الصواريخ الروسية “أس-400”.
ويمكن القول إن دول الحلف تفسر تحركات تركيا على أنها تستهدف زعزعة التوازنات التقليدية داخل حلف الناتو وإعادة التموضع كفاعل قديم – جديد داخل الناتو، ومن جانب آخر يرون أن التوافقات التركية – الروسية، في عدد من الملفات من شأنها تهديد مصالح الحلف والتأثير في حضوره.
– روسيا: بعد سيطرة العثمانيين على القسطنطينية على يد محمد الفاتح، كان البحر الأسود في شكل أو آخر بحيرة عثمانية، إذ كانت دولة تتار القرم الحاكمة في القرم جزءاً من الخلافة العثمانية، ولم يكن أي من جيرانها في الشمال قادراً على انتزاعها، سواء البولنديين أو الروس، وبدأت القوة الروسية تتصاعد شيئاً فشيئاً، وحمل هذا التصاعد في طياته طموحاً توسعياً مرتبطاً بالبحر الأسود، حتى أصبحت القوة الروسية مضاهية لقوة العثمانيين التي كانت تتراجع، حتى استطاع بطرس الأكبر انتزاع مدينة أزوف من العثمانيين في مطلع القرن الثامن عشر، والتي تطل مباشرة على البحر الأسود، ثم في عهد كاثرين الثانية هُزم الأتراك وسيطرت روسيا على القرم بالكامل، لتصبح للمرة الأولى في تاريخها بلداً من بلاد البحر الأسود الأساسية، ولتكسر هيمنة الأتراك على البحر، وهو وضع لم يتغيّر حتى اليوم.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن هذه المنطقة هي محور صراع بين الجانبين التركي والروسي منذ زمن، لكن مع سيطرة روسيا على جزيرة القرم وما ترتب عليه من تداعيات إيجابية على القوة والحضور الروسي في منطقة البحر الأسود، حيث تُعَد هذه المنطقة الآن نقطة انطلاق عسكرية وإستراتيجية للدور الروسي في البلقان وشرق أوروبا، وكذلك في التوازن مع تركيا، والذي مالت كفّته لموسكو بالطبع بعد دخول القرم، أضف إلى ذلك أن استخدام البحرية الروسية للجزيرة لم يعُد مقيّداً بالشروط الأوكرانية، وأن الروس استحوذوا على بعض القِطَع البحرية الأوكرانية التي كانت موجودة في سيفاستوبول،كما ستوفّر القرم لهم مليارات من الدولارات كانت موسكو تستعد لإنفاقها في تأسيس قاعدة كبيرة لها في البحر الأسود بمدينة نوفوروسيسك، تعززت احتمالات المواجهة والصراع بين الجانبين وزاد التنافس بينهما في هذا الإطار، لكن هذه المواجهة تأخذ طابعاً مستتراً لأسباب مرتبطة بالسياق المحيط بالطرفين ومقاربتهما تجاه هذا الإقليم.
ثالثاً: المصالح الاقتصادية التركية في البحر الأسود: هذه المنطقة شديدة الأهمية من الناحية الاقتصادية بالنسبة إلى تركيا، خصوصاً مع اكتشافات الغاز الأخيرة التي أعلنت عنها الإدارة التركية في هذه المنطقة، حيث أعلنت تركيا خلال آخر شهرين عن أن إجمالي احتياطي الغاز المكتشف في منطقة (تونا– 1) في حقل سكاريا بالبحر الأسود، بلغ حوالى 405 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو الاكتشاف الغازي الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد، حتى أن الإدارة التركية تنتظر أن يكون لهذه الاكتشافات دور كبير في الحد من اعتماد أنقرة على واردات الغاز من دول كروسيا وإيران وأذربيجان، فضلا عن الأثر الايجابي المتوقع على واردات البلاد من مصادر الطاقة التقليدية لا سيما الغاز الطبيعي المخصص لتوليد الطاقة واحتياجات المصانع والمنازل.
المقاربة التركية في منطقة البحر الأسود
في ضوء ما سبق يمكن القول إن البحر الأسود منطقة شديدة الأهمية بالنسبة إلى تركيا، خصوصاً أنه يمثل حيز ارتباط بين العديد من الأبعاد والمحددات الحاكمة للسياسة الخارجية للإدارة التركية، ويمكن القول إن تركيا تتحرك في هذا الإقليم عبر استراتيجية مركبة، تقوم على عدد من الآليات، فمن جانب تحاول احتواء وتحجيم النفوذ الروسي عبر محاولات إيجاد نوع من “التوافق” بين سياسات البلدين في المنطقة، من دون الانخراط في صدام مباشر معها، مع السعي المستمر لتعزيز الحضور والنفوذ التركيين في البحر الأسود عبر الاستفادة من الحصار الأوروبي المفروض على روسيا والاستثمار في الأزمة بين الطرفين.
ومن جهة أخرى، تحاول تركيا خصوصاً مع الخلافات مع معظم دول الناتو أن تغلّب سيناريو الهيمنة شبه الكاملة للروس والأتراك في منطقة البحر الأسود، وذلك في ضوء التفاهمات بين الطرفين، واستفادة أنقرة المباشرة من العقوبات الغربية على روسيا، إذ إنها البلد الوحيد القريب الذي يستطيع تزويد السوق الروسية بسِلَع بديلة للسِلَع الأوروبية، وبجودة لا تقل عنها في شكل كبير، ما يعني ارتفاعاً في صادراتها لروسيا، أضف إلى ذلك أن التوتر في شرق أوروبا سيجعل تركيا البديل الوحيد المستقر لنقل الغاز الروسي، وهو ما ظهرت بوادره بالفعل بإعلان روسيا من قبل إلغاء خط أنابيب “ساوث ستريم”، الذي يمر تحت البحر الأسود ثم بلغاريا، لصالح مشروع يمر عبر تركيا ومنها إلى اليونان.
رابط المصدر: