- عكس الموقف التركي من المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران خشية أنقرة من تداعيات تلك المواجهة على أمنها ومصالحها وعلى استقرار الإقليم، كما عكس رغبة تركيا في ممارسة دور في تسويتها بالشراكة مع الولايات المتحدة والدول المؤثرة.
- مثَّلت الحرب بين إيران وإسرائيل تحدياً للمصالح الجيوسياسية التركية، وأسهمت في تعقيد سياسة الموازنة الجيوسياسية التي تتبعها تركيا في الإقليم، لاسيما فيما يخص شعور أنقرة بالتهديد من استعراض القوة الإسرائيلي.
- ثمة فرصة أمام تركيا لملء الفراغ الناجم عن الانكفاء الإيراني نتيجة الحرب مع إسرائيل، سيما في منطقة المشرق العربي، وأيضاً في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز التي يُعد التنافس الإيراني-التركي فيها قوياً.
- قد ينشأ عن الصراع الإسرائيلي-الإيراني تحولٌ في بنية توازن القوى الإقليمي، يُولِّد تحديات ومصالح للمكانة الجيوسياسية التركية، ولكن يبقى هذا الأمر مرتبطاً بالتداعيات الطويلة الأمد للمواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، وبقدرة تركيا على المناورة في علاقاتها الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
مع بدء إسرائيل هجومها على إيران في 13 يونيو 2025، تبنّت أنقرة خطاباً منتقداً لإسرائيل، فقد أدان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الهجمات الإسرائيلية على إيران بشدة، مُشيراً إلى أنها تستند إلى استراتيجية “خبيثة وشاملة”، ومُعتبراً أن إدارة نتنياهو تغذي عدم الاستقرار في المنطقة بأكملها، وداعياً المجتمع الدولي إلى “كبح شبكة القتل بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو”. وعلى الرغم من هذه التصريحات الحادة للرئيس التركي ضد إسرائيل، فإن موقف أنقرة تجاه إيران لم يتجاوز إظهار التعاطف والدعم الدبلوماسي المحدود، مع إعلان استعدادها لبذل كل الجهود لتيسير الحل السلمي للأزمة. وتُظهر المحادثات الهاتفية التي أجراها الرئيس أردوغان مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وقادة في المنطقة، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 14 يونيو 2025، نهج تركيا الذي يركز على الدبلوماسية وتأكيد الحاجة الملحة إلى وقف التصعيد وخفض التوتر في المنطقة. وفي خطابه بعد اجتماع مجلس الوزراء التركي في 16 يونيو 2025، قال الرئيس أردوغان: “لا يمكن لأحد أن يتوقع ما قد يؤدي إليه حل المشكلات بالسلاح والفوضى وقصف كل شيء، في حين يمكن حلها على طاولة المفاوضات”.
لقد عكس الموقف التركي خشية أنقرة من تداعيات الصراع بين إسرائيل وإيران على أمنها ومصالحها وعلى استقرار الإقليم، كما عكس رغبة تركيا في ممارسة دور في تسويته بواسطة نهج بنّاء مع الولايات المتحدة والدول المؤثرة.
مخاطر الصراع الإسرائيلي -الإيراني وتداعياته على المصالح التركية
مثلت المواجهة بين إسرائيل وإيران مصدرَ قلق بالغ لدى تركيا، إذ تحسبت الأخيرة من التداعيات الأمنية للمواجهة، بالنظر إلى أن تركيا لديها حدود ممتدة مع إيران يبلغ طولها 535 كيلومتراً، وقد خشيت أن تؤدي إطالة أمد المواجهة وتوسعها إلى موجة هجرة إيرانية نحو الأراضي التركية، فضلاً عن أن تؤدي إلى تعقد المسألة الكردية في تركيا والإقليم مع احتمال انخراط الحركات الانفصالية الكردية في إيران في الصراع. كما أن الحكومة التركية كانت تخشى من احتمال انخراط وكلاء إيران الإقليميين في الصراع، بما يحمله ذلك من تهديدات أمنية على تركيا من ساحتي العراق وسورية.
ومن التداعيات التي تحسبت لها تركيا أيضاً أمن الطاقة، فتركيا التي تستورد 92% من احتياجاتها في مجال الطاقة من الخارج ما كان بإمكانها التغافل عن تأثير المواجهة بين إسرائيل وإيران على الأسواق العالمية للطاقة، فأي زيادة في أسعار النفط نتيجةً للحرب من شأنها أن تزيد الضغوط الاقتصادية على تركيا، وبخاصة إذا نتج عن الصراع إغلاق مضيق هرمز الذي يمر عبره 30% من شحنات النفط العالمية.
لقد أدت العقوبات الأمريكية على إيران إلى توقُّف تركيا عن استيراد النفط من إيران. في الماضي، كانت تركيا تستورد 45% من احتياجاتها النفطية من إيران، لكنها الآن تعتمد على روسيا بنسبة 70%، والعراق بنسبة 25%، وباقي الاحتياجات تأتي من كازاخستان. لذا، بدا تأثير الصراع بين إيران وإسرائيل على إمدادات النفط محدوداً حالياً، لكن المخاطر كمُنَت في استيراد الغاز الطبيعي، إذ تستورد تركيا حوالي 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً من إيران، يتم تأمينها من حقل فارس الجنوبي، مع دعم من الغاز التركماني. وبالتالي، كان هناك خشية من أن تواجه الصناعة التركية انقطاعاً في الإمدادات، مما يعرض أمن الطاقة للخطر.
ومن التداعيات الاقتصادية للصراع أيضاً تراجُع التبادل التجاري، فقد بلغ حجم التجارة الثنائية بين تركيا وإيران 5.7 مليار دولار في عام 2024. وشكلت صادرات تركيا إلى إيران 3.2 مليار دولار (معدات الآلات 28%، والمنتجات البلاستيكية والكيميائية 24%، المنتجات الزراعية والغذائية 11%)، بينما بلغت الواردات 2.5 مليار دولار (الغاز الطبيعي والمنتجات البتروكيماوية 60%، والمنتجات المعدنية 29%، والسلع الزراعية 4%). ومن ناحية أخرى، من المرجح أن يؤثر التوتر في المنطقة سلباً على تدفقات السياحة إلى تركيا. ومع انخفاض معدل السياحة في عام 2024 بسبب الحرب في غزة، كانت أنقرة تتطلع إلى استعادة الزخم السياحي في هذا الصيف إلا أن المواجهة بين إسرائيل وإيران، في حال استمرارها لوقت طويل، كانت ستمثل تحدياً حقيقياً لقطاع السياحة التركي.
وبصورة أشمل، فإن الحرب بين إيران وإسرائيل مثَّلت تحدياً للمصالح الجيوسياسية التركية، إذ تسعى تركيا، كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلى تطوير علاقاتها بالغرب وبالذات الولايات المتحدة مع مجيء إدارة ترمب، كما أنها تسعى إلى الحفاظ على علاقتها ومصالحها مع كل من روسيا وإيران ضمن إطار التعاون الإقليمي. ولا شك في أن تعزيز الصراع والاستقطاب في المنطقة بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة ثانية، سيُعقِّد سياسة الموازنة الجيوسياسية التي تتبعها تركيا. ومع أن الرئيس التركي عرض في خلال تواصله مع الرئيس الأمريكي أن تسهم تركيا في الوساطة لوقف الصراع، إلا أن من الواضح أن قناة التأثير التركية مع إسرائيل كانت قد تضاءلت بعد تراجع مستوى العلاقات التركية-الإسرائيلية في ظل أحداث “السابع من أكتوبر”. كما أن الرئيس أردوغان، الذي يتمتع بعلاقة شخصية مع ترمب، لم يرغب في إفساد علاقاته بالرئيس الأمريكي بسبب إيران. ويُظهر غياب أي أخبار أو تعليقات ناقدة لترمب في وسائل الإعلام التركية المقربة من حزب العدالة والتنمية هذا التوجه. كما يؤكده البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون في الإسلامي الذي انعقد في إسطنبول في 21-22 يونيو، والذي اُقتُصِرَ فيه على إدانة “عدوان إسرائيل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، من دون إشارة إلى الهجمات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية في 22 يونيو.
وفي الأخير، فإن من الطبيعي أن تشعر تركيا بالتهديد من استعراض القوة الإسرائيلي، لذا أخذ مسؤولون ومحللون أتراك يصرحون عن الحاجة إلى إجراء تغييرات في العقيدة الدفاعية والأمنية لتركيا، لموازنة القوة الإسرائيلية.
الفرص الاستراتيجية لتركيا
على الرغم من كل تلك التحديات التي ألقت بها الحرب بين إسرائيل وإيران على عاتق تركيا، فإنه لا يمكن إغفال المصالح المحتملة التي جلبتها الحرب للمكانة الجيوسياسية لتركيا، وفق ما يأتي:
أولاً، لا شك في أن تراجع النفوذ الإيراني الإقليمي، نتيجةً لهذه الحرب، سيمثل فرصة لتركيا لملء الفراغ الناجم عن الانكفاء الإيراني، سيما في منطقة المشرق العربي، وأيضاً في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز التي يُعد التنافس الإيراني-التركي فيها قوياً.
ثانياً، قد يؤدي ضعف إيران عقب الحرب إلى زيادة أهمية تركيا لدى روسيا، مما يؤدي إلى مزيد من التقارب بين البلدين والتعاون بينهما في سورية والقضايا الإقليمية، وبخاصة أن التمدد الإسرائيلي المدعوم أمريكياً قد يضطر تركيا إلى توسيع مناورتها الجيوسياسية.
ثالثاً، مع توقع اختلال توازن القوى الإقليمي، في ضوء تراجع القوة الإيرانية، قد ترى تركيا ودول الخليج العربية، وبالذات المملكة العربية السعودية، من مصلحتهما تعزيز التعاون بينهما استراتيجياً واقتصادياً ودفاعياً وأمنياً، لموازنة تنامي القوة الإسرائيلية.
استنتاجات
وَضَعَ الصراع بين إسرائيل وإيران تركيا في موقع حاسم من حيث مواجهة المخاطر الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية للصراع، ولذلك انخرطت أنقرة في الحراك الإقليمي والدولي لمنع توسُّع الصراع ووقف الحرب وإعادة الطرفين الإيراني والأمريكي إلى طاولة المفاوضات لحل الخلاف النووي. وفي نهاية المطاف، من المتوقع أن ينتج عن هذا الصراع، الذي امتد لاثني عشر يوماً، تحولٌ في بنية توازن القوى الإقليمي، مع ما يجلبه هذا من تحديات ومصالح للمكانة الجيوسياسية التركية، ولكن يبقى هذا الأمر مرتبطاً بالتداعيات الطويلة الأمد للمواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، وبقدرة تركيا على المناورة في علاقاتها الاستراتيجية الإقليمية والدولية.