ترمب ليس كابوسا اقتصاديا كما يتوقع كثيرون

يعرف ذلك الرهان في الأسواق باسم “مقايضة ترمب”، وهو رهان على أن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض ستؤذن بحدوث مزيد من التضخم والارتفاع في أسعار الفائدة. فكثير من سياسات ترمب الأساسية تدفع في ذلك الاتجاه: التعريفات الجمركية تزيد تكاليف الواردات، وترحيل المهاجرين قد يؤدي إلى رفع الأجور، والخفوضات الضريبية الممولة بالعجز تنشط الاقتصاد. ووسط تزايد التضخم، لن يكون أمام الاحتياطي الفيديرالي إلا خيار رفع أسعار الفائدة.

في أعقاب المناظرة الكارثية لجو بايدن في 27 يونيو/حزيران، ظهر عرض مسبق لتلك التحرّكات في الأسواق. فقد باع المستثمرون سندات الخزانة في محاولة للتعامل مع احتمال وصول ترمب إلى الرئاسة، مما أدى إلى ارتفاع قصير في العوائد.

كابوس ترمب

ثمة خوف كبير من حدوث ما هو أسوأ بكثير. إذا حارب ترمب الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة، فقد يثير الشكوك بشأن استقلالية البنك المركزي، مما يقوض الثقة في الأسواق الأميركية والدولار. وذلك هو أسوأ سيناريو اقتصادي لإدارة ترمب الثانية.

لكن كما هي الحال مع أي كابوس، قد يكون شبح اقتصاد ترمب، “ترمبونوميكس”، (Trumponomics) أكثر إثارة للرعب مما هو عليه في الواقع. فلدى ترمب ومستشاريه العديد من الأفكار الفاسدة، ولديهم أيضا بعض الأفكار الجيدة. وستكون محدودةً قدرتهم على تنفيذ سياسات مضرة، عندما يعمل الكونغرس والمؤسسات والأسواق الأميركية بمثابة ضوابط.

 

إذا حارب ترمب الاحتياطي الفيديرالي في شأن أسعار الفائدة، فقد يثير الشكوك في شأن استقلالية البنك المركزي، مما يقوض الثقة في الأسواق والدولار، وهذا أسوأ سيناريو اقتصادي لإدارة ترمب الثانية

 

 

لقد صقل السيد ترمب أجندته في الخطب والمقابلات، وفي 8 يوليو/تموز كرسها الجمهوريون بوصفها البرنامج الانتخابي للحزب. ثمة ثلاثة عناصر بارزة في هذه الأجندة: الأول هو إلغاء القيود التنظيمية، وهو عنصر أساس للجمهوريين. وهذه المرة أعدوا الأفراد والسياسات خلافا لعام 2017، عندما كان هو ومستشاروه غير مستعدين للرئاسة. لن يضيع ترمب وقتا كثيرا في إلغاء كثير من القواعد البيئية التي وضعتها إدارة بايدن، وفي تخفيف قيود الحفر المفروضة على شركات النفط، والضغط على الجهات الاتحادية لخفض الإنفاق. فقد وعد، كما في رئاسته الأولى، بإلغاء لائحتين مقابل كل لائحة تصدر.

 

.إ.ب.أ .إ.ب.أ

الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب يتوسط ولديه دونالد ترمب جونيور (من اليسار)، وإيريك، خلال افتتاح المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في ميلووكي، ويسكونسن، الولايات المتحدة الأميركية، 15 يوليو 2024. 

لكن كثيرا من ذلك ضجيج تسويقي. فعدد القيود في مدوّنة اللوائح الاتحادية، وهو مؤشر إلى شدة القيود التنظيمية في أميركا، لم يشهد تغيرا أساسيا في عهد ترمب. والأهم من ذلك، أن المحاكم أعاقت إدارته. وفشلت نحو 80 في المئة من الدعاوى القضائية في شأن استخدامها الجهات الاتحادية، وفقا لمعهد نزاهة السياسات، وهو فريق للأبحاث. ويعتقد بنك “غولدمان ساكس” أن تأثير كل ما ألغاه ترمب من قيود تنظيمية على الاقتصاد الأوسع، كان ضئيلا في النهاية– وستتكرر تلك النتيجة على الأرجح.

 

كل خفض ضريبي يزيد العجز الأميركي، وهذا هو الخطر الماثل في ظل إدارة ترمب

 

 

أما في شأن الضرائب، فيمكن اعتبار ترمب، بطريقة ما، مرشحا للاستمرارية. ستتركز الإجراءات على انتهاء الصلاحية الوشيكة لجانب كبير من قانون الخفوضات الضريبية والوظائف، وهو الحزمة التي جاء بها ترمب في سنة 2017. كان خفض الضرائب دائما بموجب قانون الخفوضات الضريبية والوظائف، ولكن معظم ما تبقى من القانون، بما في ذلك الخفوضات الضريبية على الدخل الشخصي، ستنتهي صلاحيتها في أواخر سنة 2025. والهدف الرئيس للسيد ترمب هو جعل هذه الخفوضات دائمة.

خيارات الإيرادات

لن يكون الأمر سهلا لأن إقرار مشروع القانون في الكونغرس يرتب على الجمهوريين دفع تكلفة تمديد الخفوضات التي تقدر بنحو 4.5 تريليونات دولار خلال العقد المقبل. لكن لدى ترمب خيارات عدة. قد يأتي قسم من الإيرادات من التعريفات الجمركية، التي يمكن أن تحقق 3 تريليونات دولار خلال عشر سنوات.

Shutterstock Shutterstock

ومن المتوقع أن تصل تكلفة قانون خفض التضخم، وهو مجموعة إعانات مناخية أقرها بايدن، إلى نحو 1 تريليون دولار. ويستطيع الجمهوريون إلغاء بعض الإعفاءات الضريبية، بدءا بالخفوضات على السيارات الكهربائية. وقد اقترح ترمب أيضا احتمال إبطال إلغاءات ديون الطلبة التي أقرها بايدن، والتي من المتوقع أن تكلف 1 تريليون دولار.

رجل التعريفات الجمركية

إن أفكار ترمب الضريبية الأخرى أكثر تواضعا. فقد تحدث عن خفض نقطة مئوية واحدة من معدل ضريبة الشركات، لتصل إلى 20 في المئة (يحب ترمب الأرقام المدورة). أما اقتراحه الأغرب فهو إعفاء الإكراميات من الضرائب. وسيتعين على المشرعين صياغة هذا الإعفاء بعناية، وإلا قد يطالب الجميع بدفع رواتبهم بمثابة إكراميات. وبدون تعويض الإيرادات أو خفض النفقات، فإن كل خفض ضريبي يزيد العجز الأميركي، وهذا هو الخطر الماثل في ظل إدارة ترمب. لكن ذلك لا يعني أن بايدن نموذج للاستقامة المالية: من المتوقع أن يصل العجز الاتحادي إلى 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذه السنة.

 

لا شك في أن تداعيات عالمية ستقع إذا نفذ ترمب سياساته التجارية التي تركز على أميركا أولا. فهل سيكون قادرا على القيام بذلك؟

 

 

الإستراتيجيا الاقتصادية التي يشتهر بها ترمب، خارج أميركا خصوصا، هي الحماية الاقتصادية. فهو واضح في شأن خطواته اللاحقة، ويتطلع إلى فرض تعريفة جمركية شاملة تبلغ 10 في المئة على كل الواردات إلى أميركا، وفرض ضريبة تبلغ 60 في المئة على السلع الصينية الصنع. ويريد أيضا مزيدا من الاتساق في فك الارتباط بالصين.

أميركا أولا

لا شك في أن تداعيات عالمية ستقع إذا نفذ ترمب سياساته التجارية التي تركز على أميركا أولا. فهل سيكون قادرا على القيام بذلك؟ لا تزال هناك مقاومة للتعريفات الجمركية في الجناح التقليدي للحزب الجمهوري. وإذا قرر ترمب إبعاد الكونغرس عن الصورة، فربما يعلن حالة طوارئ تتعلق بالأمن الوطني، مما يمنحه صلاحيات خاصة. لكن المحكمة قد تبطل ذلك.

ربما يكون رفع التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية أكثر قابلية للتحقيق، إذ يستطيع البيت الأبيض أن يستند في فرضها إلى التدابير القائمة. يمكنه، على سبيل المثل، أن يخلص إلى أن الصين لم تلتزم الاتفاق الذي وقّع مع ترمب في سنة 2020، وذلك أمر يسهل إثباته. لكن من الصعب اتخاذ إجراءات صارمة ضد إعادة توجيه الصادرات الصينية عبر دول أخرى من دون تعاون الحكومات الأجنبية، وذلك أمر واجه ترمب صعوبة في الحصول عليه في الماضي.

سياسة تجارية عدوانية

وربما يواجه ترمب معارضة لسياساته التجارية الأكثر عدوانية، حتى داخل البيت الأبيض. وقد أبدى الصقور مثل المستشار الاقتصادي بيتر نافارو صراحة شديدة، لكن ترمب يحب أن يجمع فريقا من المتنافسين، مما يتيح له الفصل بين الآراء المتناقضة. وربما يعيّن مرة أخرى خبيرا ماليا من “وول ستريت” وزيرا للخزانة، وسيكون ذلك الشخص بمثابة ثقل موازِن لدعاة الحماية المتحمسين.

ستواجه أجندة ترمب عقبات أخرى. فهو يريد الانطلاق بسرعة، لكن سنته الأولى في منصبه تشتمل على جدول تشريعي كثيف. فسيعاد العمل بسقف الدين في 2 يناير/كانون الثاني، مما سيجبر البيت الأبيض على الدخول في محادثات مع الكونغرس. وهناك موعد نهائي آخر يلوح في نهاية أبريل/نيسان عندما يتعين على الكونغرس إجراء خفوضات كبيرة إذا لم يتوصل إلى موازنة جديدة. وفي غضون ذلك، سيتسارع الوقت في شأن خفوضات ترمب الضريبية. وإذا تمكن الديمقراطيون من الفوز بمجلس النواب، فستصبح كل تلك المفاوضات أكثر تعقيدا.

 

يمكن لترمب ترشيح رئيس بدلا من جيروم باول. لكن مجلس الاحتياطي الفيديرالي يتكون من سبعة أعضاء ويجب أن تمر كل الترشيحات عبر مجلس الشيوخ، الذي أعاق سابقا اثنين من مرشحيه الأربعة

 

 

سيحرز السيد ترمب تقدما بطيئا في إعادة تشكيل بنك الاحتياطي الفيديرالي. ويخشى المستثمرون من أن يرغب في التأثير على قرارات سعر الفائدة التي يتخذها البنك المركزي. لكن تحقيق ذلك الهدف صعب المنال. فستحين فرصته الأولى لتعيين محافظ جديد في سنة 2026، بعد ذلك يمكنه أيضا ترشيح رئيس بدلا من جيروم باول. لكن مجلس الاحتياطي الفيديرالي يتكون من سبعة أعضاء ويجب أن تمر كل الترشيحات عبر مجلس الشيوخ، الذي أعاق سابقا اثنين من مرشحي ترمب الأربعة. وسيواجه ترمب معركة قانونية لا يمكن الفوز بها إذا حاول إقالة باول كما يعتقد المطلعون من مجلس الاحتياطي الفيديرالي.

سياسته تجاه المهاجرين تضرب الاقتصاد

ربما تُلحق سياسة ترمب المتعلقة بالهجرة أكبر ضرر بالاقتصاد الأميركي على المدى القصير. فوقف “الغزو”، كما يسميه، سينهك إدارته. وقد كان للملايين الذين دخلوا البلاد في السنوات القليلة الماضية دور حيوي في دعم النمو الاقتصادي وترويض التضخم. وسيحدث وقف الهجرة صدمة في سوق العمل. مع ذلك، فإن هذه السياسة، كما هي الحال مع سياسات ترمب الأخرى، ستواجه مقاومة في كل خطوة، مع المحاكم التي تلغي أوامر الترحيل، والولايات الديمقراطية التي ترفض التعاون، والشركات التي تضغط لتخفيف الإجراءات.

.أ.ف.ب .أ.ف.ب

وفي أثناء كل ذلك، سيكبح المجتمع المالي الأميركي أيضا جماح ترمب. فهو حساس تجاه سوق الأسهم، بل إنه نسب حسن أدائها في وقت سابق من هذا العام إلى التوقعات بفوزه. وسيلفت انخفاض الأسهم أو ارتفاع العوائد انتباه ترمب عندما يهاجم هدفه الأخير – أكان الاحتياطي الفيديرالي، أم المهاجرين.

لا يعني ذلك أن نتفاءل في شأن إحكام ترمب سيطرته على السياسة الأميركية. هناك أخطار في أن تخرج ولايته الثانية عن السيطرة. فالضوابط على تجاوزاته ليست تلقائية، وتحتاج إلى من يقف في وجهه في الحزب الجمهوري والمحاكم، وفي المجتمع عموما. لكن ذلك يجب أن يحدث لدرء أسوأ جوانب اقتصاد ترمب

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321111/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%AA%D8%B1%D9%85%D8%A8-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%88%D8%B3%D8%A7-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A7-%D9%83%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D9%88%D9%82%D8%B9-%D9%83%D8%AB%D9%8A%D8%B1%D9%88%D9%86

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M