ستشكل الطريقة التي سيعالج بها دونالد ترمب التحدي المتمثل في النزاع الأوكراني مؤشرا بالغ الأهمية على أسلوب إدارته في التعامل مع القضايا الأمنية على الساحة الدولية. ففي ظل استمرار الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتفاقم تهديدات الأنظمة في إيران وكوريا الشمالية والصين، سيراقب القادة العالميون عن كثب خطوات ترمب في الملف الأوكراني، على أمل أن تكشف تلك التحركات عن ملامح نهج إدارته المرتقب في السياسة الخارجية (Bottom of Form).
خلال الحملة الرئاسية التي انتهت بانتصار ساحق لترمب، لم يُخفِ الرئيس السابع والأربعين المنتحب للولايات المتحدة شكوكه بشأن دعم إدارة بايدن لكييف، إذ يُقدّر أن هذا الدعم قد كلف دافعي الضرائب الأميركيين أكثر من 100 مليار دولار. وقد أكد ترمب أن من أولوياته الرئيسة بعد عودته إلى البيت الأبيض ستكون إنهاء الحرب على الفور ووقف استنزاف الموارد الأميركية.
وقد برزت إشارات حول الدور المحوري الذي قد تضطلع به إدارة ترمب المقبلة في إنهاء الصراع في أوكرانيا، من خلال التباين في ردود الفعل التي أثارها فوزه المذهل بين الأطراف المتنازعة. وبينما واجه ترمب انتقادات لاذعة بسبب ما يُشاع عن علاقته الدافئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يصدر من الكرملين سوى بيان مقتضب يعترف بفوز ترمب، مع تلميح طفيف إلى التوافق بين الزعيمين.
وقد صرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، للصحافيين أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يخطط لإجراء أي اتصالات هاتفية مع واشنطن. وأشار بيسكوف إلى دعم الولايات المتحدة للحملة العسكرية الأوكرانية ضد روسيا، قائلا: “نحن نتحدث عن دولة غير صديقة تشارك بشكل مباشر وغير مباشر في حرب ضد دولتنا”.
وعلى النقيض، سارع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى تهنئة ترمب. وفي منشور على منصة “إكس”، قال زيلينسكي: “أهنئ (@realDonaldTrump) على فوزه الانتخابي المذهل! أستذكر لقاءنا الرائع في سبتمبر/أيلول، حيث ناقشنا بالتفصيل الشراكة الاستراتيجية بين أوكرانيا والولايات المتحدة، وخطة النصر، وسبل وضع حد للعدوان الروسي ضد أوكرانيا”. وأضاف زيلينسكي أنه معجب بالتزام ترمب بنهج “السلام من خلال القوة” في الشؤون العالمية، معربا عن أمله في أن تسهم قيادته في تحقيق الاستقرار والعدالة.
لكن كيفية تعامل ترمب مع مسألة إنهاء الأعمال العدائية في أوكرانيا لا تزال موضع تساؤل، حيث يُقال إن الرئيس المنتخب يدرس عددا من الاقتراحات المتنافسة من مستشاريه الرئيسين. وبغض النظر عن القرار الذي سيتخذه، يبدو واضحا أن ترمب لا ينوي مواصلة سياسة إدارة بايدن المنتهية ولايتها في تقديم الدعم لأوكرانيا “طالما تطلب الأمر”.
وهناك ورقة بحثية، كتبها اثنان من رؤساء الأمن القومي السابقين لدى ترمب في مايو/أيار، تقدم تصورا لكيفية تعامل ترمب المحتمل مع القضية الأوكرانية. وتوصي الورقة بأن تستمر الولايات المتحدة في تزويد أوكرانيا بالأسلحة، بشرط أن تُبدي كييف اهتماما جادا بالدخول في محادثات سلام مع روسيا. ولتحفيز روسيا على قبول التفاوض، ستتعهد الولايات المتحدة وحلفاؤها بتأجيل مساعي أوكرانيا طويلة الأمد للانضمام إلى حلف “الناتو”.
كيفية تعامل ترمب مع مسألة إنهاء الأعمال العدائية في أوكرانيا لا تزال موضع تساؤل
ورغم أن الورقة تؤكد على حق أوكرانيا في استعادة الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية، إلا أنها تشدد على أهمية تبني أوكرانيا نهجا واقعيا في المفاوضات المستقبلية، يرتكز على خطوط المواجهة الحالية.
ومع ذلك، يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا الاقتراح سيكون مقبولا لدى أوكرانيا وحلفائها في “الناتو”، خاصة في أوروبا، حيث يجادل الكثير من القادة بأن أي اتفاق يُنظر إليه على أنه مكافأة للعدوان الروسي- أي السماح لموسكو بالاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي الأوكرانية- سيشجع ببساطة بوتين على مواصلة الاستفزازات العسكرية في أوروبا.
ومن ناحية أخرى، ينصب اهتمام ترمب الرئيس على تحقيق السلام والاستقرار عبر اتباع نهج “أميركا أولا” في التعامل مع التحديات الخارجية. فالرئيس المنتخب يسعى للابتعاد عن تورط الولايات المتحدة في المزيد من التدخلات العسكرية الخارجية المكلفة، وهو توجّه برز جليا خلال فترة ولايته الأولى، حيث اتسمت مقاربته لقضايا الأمن القومي بالحذر والحرص على تجنب الانزلاق في صراعات طويلة الأمد (Bottom of Form).
يأتي انتصار ترمب الانتخابي في لحظة حرجة بالنسبة لأوكرانيا، حيث تشير تقارير إلى نشر قوات كورية شمالية لدعم القوات الروسية. كما تفيد أحدث المعلومات بأن روسيا تحشد حوالي 45 ألف جندي في منطقة كورسك، استعدادا لشن هجوم يهدف إلى استعادة الأراضي التي استعادتها القوات الأوكرانية في وقت سابق من الصيف. ويرى المراقبون الغربيون أن الكرملين يسعى للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي قبل أي محادثات سلام مستقبلية محتملة، وذلك في مسعى للحصول على موقف تفاوضي أقوى في المفاوضات مع كييف.
ومن المرجح أن يكون لالتزام ترمب بنهج “أميركا أولا” تداعيات كبيرة على علاقته بالدول الأعضاء الأخرى في حلف “الناتو”، خاصة في أوروبا. فقد سبق لترمب أن انتقد بشدة بعض القوى الأوروبية الكبرى، مثل ألمانيا وإيطاليا، لعدم التزامها بمستويات الإنفاق الدفاعي المطلوبة ضمن إطار “الناتو”. بل وهناك مخاوف من أن ترمب قد يفكر في سحب الولايات المتحدة من التحالف، الذي يضم 32 دولة، وهي خطوة من شأنها إحداث أثر عميق على العلاقات عبر الأطلسي.
في المقابل، هناك اعتراف واسع بأن ترمب يطرح نقطة محقة بشأن تردد أوروبا في تحمل حصتها العادلة من تكاليف الدفاع، وهو أمر يمكن معالجته من خلال تعزيز قدرات أوروبا الدفاعية لتتمكن من حماية نفسها ضد الدول المنافسة، مثل روسيا، دون الاعتماد الكبير على الدعم الأميركي.
ومع ذلك، فإن إعادة بناء الدفاعات الأوروبية إلى مستوى يمكّنها من منافسة القوة العسكرية الروسية القوية ليست مهمة يمكن تحقيقها بين ليلة وضحاها. وفي هذه الأثناء، سيواصل قادة “الناتو” متابعة تحركات ترمب المقبلة عن كثب، لا سيما فيما يتعلق بقضايا حيوية مثل أوكرانيا، لفهم الكيفية التي ستعتمدها إدارته في مواجهة التحديات الأمنية المستقبلية.