راج بيرسود
لندن ــ لجأت اللجنة الأميركية للمناظرات الرئاسية إلى إغلاق ميكروفوني الرئيس دونالد ترمب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن خلال أجزاء من مواجهتهما الثانية والأخيرة المذاعة تلفزيونيا في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، من أجل منع المرشحين من مقاطعة أحدهما الآخر. جاء قرار اللجنة في أعقاب ردود فعل جماهيرية سلبية واسعة النطاق على مقاطعات ترمب المتكررة في المناظرة الأولى التي جرت بينهما في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول.
ولكن وراء تكتيك المعارضة والمقاطعة هذا تكمن سيكولوجية مستترة قوية. فهل من المحتمل أن يكون هذان الرجلان المتمرسان في التعامل مع الحملات الانتخابية ــ وخاصة ترمب ــ استخدما هذا التكتيك لمصلحتهما في محاولة للظهور بمظهر أكثر هيمنة وحزما؟
الواقع أن اضطرار منظمي المناظرة إلى البحث عن حل تكنولوجي يقترح أن المقاطعة قد تكون تكتيكا أكثر فعالية مما يتصور كثيرون. وربما يدعو الخبراء الاستراتيجيون السياسيون والنفسيون في كلتا الحملتين بشكل متزايد إلى استخدامها كسلاح خَـطَابي. ترى ما الذي يعرفونه ولا نعرفه نحن؟
وجدت الأبحاث النفسية التي تستند إلى تجارب علمية أن الناس يقيمون أولئك الأكثر ميلا إلى المقاطعة على أنهم أكثر اقتدارا، وثقة، وهيمنة، وإقناعا. لكن هذا ليس بلا مقابل، لأن المقاطعين يُـنـظَـر إليهم عادة أيضا على أنهم أقل جاذبية وإثارة للإعجاب.
في خضم الجائحة، قد يفضل بعض الناخبين المرشح الأكثر هيمنة وربما الأقل اهتماما بمدى كونه محبوبا. وعلى هذا فإن العواقب النفسية المترتبة على المقاطعة قد تكون إيجابية (عندما يُـنـظَـر إليها على أنها دليل على الحزم) أو سلبية (عندما تعتبر فَـظَّـة). وما يثير الاهتمام أن الباحثين وجدوا أن هذا يصدق بشكل خاص على المقاطعات من قِـبَـل إناث.
وجدت بعض الأبحاث أن الرجال يقاطعون (وخاصة بأساليب اقتحامية) أكثر من النساء. وتشير دراسات أخرى إلى أن النساء يتعرضن للمقاطعة أكثر من الرجال، وأن الرجال يقاطعون النساء أكثر بقدر كبير من مقاطعتهم لرجال آخرين. لكن الكثير يعتمد على الطبيعة الدقيقة للمقاطعة وتوقيتها.
والأشكال المختلفة من المقاطعة لها تأثيرات متفاوتة. فالمقاطعات العميقة و”الاقتحامية” تحاول تغيير الموضوع وتمنع الشخص الآخر من التحدث. وتنطوي “المقاطعات المتداخلة” على شخص يُـقَـاطـع عندما يبدو شخص آخر وكأنه اقترب من نهاية تحديد أو إثبات نقطة ما. وهناك حتى ما يسمى المقاطعات الصامتة، عندما ينسى شخص ما، على سبيل المثال، الكلمة التي يبحث عنها للحظة، أو يتوقف مؤقتا للعثور على العبارة الصحيحة، فيتدخل الـخِـصم لتذكيره بها، لكنه بعد ذلك يستولى على المحادثة.
وَجَـدَت تجربة حديثة في علم النفس تبحث في تأثيرات أنواع مختلفة من المقاطعة، على نحو مثير للدهشة، أن الجمهور قَــيَّـم ما يسمى مقاطعات “المعارضة” (ربما النوع الأكثر بروزا في المناظرة الأولى بين ترمب وبايدن) بشكل أكثر إيجابية من مقاطعات “تغيير الموضوع”. واستمر هذا التقييم الإيجابي حتى مع المقاطعات الشديدة الفظاظة.
أحد التفسيرات المحتملة لهذا الاكتشاف، وفقا لمؤلفي الدراسة، هو أن مقاطعات “المعارضة” تشير على الأقل إلى ارتباط قوي بالقضية محل المناظرة، ولا تعني بالضرورة ذات التجاهل للمتحدث الذي قوطِـع كمثل مقاطعات “تغيير الموضوع”. بعبارة أخرى، يبدو أن هناك طرقا للمقاطعة تبدو مبررة.
ولكن كتكتيك تفاوضي حيث يتلخص الهدف في إلحاق الهزيمة بالخصم خطابيا، نجد أن سلوك المقاطعة مدفوع بسيكولوجية مستترة قوية. على سبيل المثال، إذا كنت تعلم أن خصمك يميل إلى المقاطعة وأنه يبحث دائما عن الفرصة للاستيلاء على دورك في الحديث، فربما تتكلم بسرعة أكبر مما كنت لتفعل عادة. وربما يدفعك الخوف من إعطاء الفرصة لمقاطعة “صامتة” إلى منطقة تـخاطبية غير مألوفة فيجعلك تتلعثم أو تخطئ في الكلام، مما يسفر عن هفوة كلامية يستطيع خصمك أن يستغلها.
علاوة على ذلك، إذا أدركت أن خصمك يقاطعك ويكسب وقتا للحديث أكثر من المسموح له به، فربما تجد نفسك مدفوعا إلى الرد بالمثل. ولكن إذا كنت أقل مهارة في المقاطعة، فربما يكون توقيتك رديئا وقد ينعكس اختيارك للفرصة آنئذ بشكل سيئ عليك، فيبدو الأمر وكأنك أنت الشخص الفظ الغليظ.
حتى أن هناك تكتيكا للمقاطعة يتمثل في إعلان موافقتك على حديث مناظرك. قد يتفاجأ المتحدث الآخر لموافقتك على كلامه إلى الحد الذي يجعله يتوقف مؤقتا، مما يعطيك الفرصة لتوضيح أن ما وافقت عليه ليس ما كان يأمله. إذا لم يسمح لك المتحدث الآخر بفرصة التحدث عندما تؤكد أنك توافق الآن فإن هذا يجعله يبدو وكأنه الشخص الذي يبحث عن الصراع والمواجهة.
قد لا تظهر القوة النفسية الحقيقية للمقاطعة حتى في المناظرات الرئاسية، لكنها تكمن بدلا من ذلك في الطريقة التي تعطل بها أنماط تفكير المرشح الآخر. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: فالمقاطعات تنجح من خلال منعك من التفكير بوضوح.
لكن المقاطعة تشتمل على جانب آخر أكثر دقة وربما أكثر عمقا: فهي أيضا تؤسس لعلاقات القوة بين شخصين في حوار، ربما حتى على مستوى اللاوعي. من المعروف أن الأعلى مرتبة في التسلسل الهرمي ــ ولنقل في المكتب ــ يميلون إلى مقاطعة التابعين أكثر من العكس. وقد يحرص بعض الأشخاص، وخاصة أولئك الأكثر اهتماما بالقوة، على السماح بمستويات من المقاطعة لتحديد من يمكنهم السيطرة عليه ومن لا يمكنهم.
وجدت بعض الأبحاث الحديثة أن ما يسمى بالسيكوباتي “دون السريري” (ربما الشخص الذي يدير المنظمات الإجرامية لكنه لا يسطو شخصيا على البنوك)، يميل إلى اكتشاف من قـاطَـعَـه بدرجة أكبر، فيظهر نتيجة لهذا وكأنه أصبح أقل اهتماما بعلاقة استغلالية محتملة في المستقبل. بعبارة أخرى، إذا قاطعت أحد السيكوباتيين على نحو أكثر مما تعود عليه أثناء محاولته توضيح وجهة نظر ما، فإنه سرعان ما يلاحظ ذلك ويستنتج أنه قد يكون أقل قدرة على التلاعب بك أو استغلالك، فينتقل إلى أهداف أخرى.
وعلى هذا، فعندما قاطع ترمب منافسه بايدن في المناظرتين، فإن ما كان يجري تحت السطح لم يكن مجرد فظاظة بسيطة أو غِـلظة.
* راج بيرسود، طبيب نفسي مقيم في لندن والمؤلف المشارك مع بيتر بروجن لـ الدليل الحكيم للحصول على أفضل رعاية للصحة العقلية.
رابط المصدر: