ترميم الردع.. اغتيال “هنية” وحافة الهاوية الإسرائيلية

كان الشرق الأوسط على موعد أمس مع عمليتي اغتيال “شبه متزامنتين”، جرت أحداث الأولى في العاصمة اللبنانية بيروت، واستهدفت القيادي رفيع المستوى في حزب الله، فؤاد شكر، في حين كان مسرح العملية الثانية، العاصمة الإيرانية طهران، واستهدفت الرقم السياسي الأهم في منظومة حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، إسماعيل هنية، الذي ظل ممسكًا بقيادة المكتب السياسي للحركة، منذ شهر مايو 2017، إلى أن تأكدت وفاته خلال الغارة الإسرائيلية “مجهولة المعالم” على طهران.

لم تكن عمليات الاغتيال – متعددة الأطراف – غائبة عن الذهنية العسكرية الإسرائيلية، التي كانت دومًا ما تجد فيها حلًا ناجعًا لما استعصى عليها تحقيقه في ميدان المواجهة المباشرة، ولعل أبرز العمليات الإسرائيلية في هذا الصدد، كانت عملية “فردان” في أبريل عام 1973، التي بموجبها تم اغتيال ثلاثة من أبرز قادة منظمة التحرير الفلسطينية، في قلب العاصمة اللبنانية.

لكن تبدو المقارنة بين هذه العملية، والعمليتين اللتين تمتا أمس، غير مكتملة في بعض أركانها، بالنظر إلى أن عمليات أمس تمت في اتجاهين جغرافيين مختلفين، لكن تبقى هناك روابط مهمة بين هذه العمليات، منها أنها كانت جميعًا ردًا على عمليات مضادة لإسرائيل “عملية ميونخ 1972 – عملية مجدل شمس 2024″، بجانب ارتباط العمليات الثلاث بالوضع الميداني في فلسطين والجبهة اللبنانية، وهو وضع كان – للمفارقة – من الأسباب الأساسية التي دفعت الجيش الإسرائيلي، لاستهداف الجنوب اللبناني خلال ثمانينيات القرن الماضي، تحت عنوان “دفع الصواريخ والمدفعية” خلاف نهر الليطاني، وهو نفس العنوان الذي يجد الجيش الإسرائيلي نفسه حياله، بعد مرور عقود على عملية “سلام الجليل”.

إسماعيل هنية.. استهداف “احتمالات التسوية”

وُلد إسماعيل هنية في مخيم الشاطئ للاجئين في قطاع غزة عام 1963، وتخرّج عام 1987 من الجامعة الإسلامية في غزة، بعد حصوله على درجة الليسانس في الأدب العربي، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة عام 2009. ونشط في صفوف المجموعات الطلابية داخل الجامعة، وشغل عضوية مجلس طلبة الجامعة الإسلامية في غزة بين عامي 1983 و1984، ثم تولى في السنة التالية منصب رئيس مجلس الطلبة، وتم اعتقاله من جانب السلطات الإسرائيلية لمدة ثلاث سنوات عام 1989، ثم تم إبعاده إلى مرج الزهور قرب الحدود اللبنانية، برفقة عشرات من كوادر حركة حماس، وظل هناك لمدة عام واحد، ثم عاد إلى القطاع، ليعمل كعميد للجامعة الإسلامية في غزة.

وكانت نقطة التحول في مسيرته بحركة حماس عام 1997، حين تم تعيينه رئيسًا لمكتب مؤسس الحركة، الشيخ أحمد ياسين، ثم تم انتخابه رئيسًا للحركة في قطاع غزة عام 2004، خلفًا للعبد العزيز الرنتيسي، الذي اغتالته مروحية إسرائيلية. وخاض هنية غمار الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، متصدرًا قائمة “التغيير والإصلاح”، التي حصدت غالبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، وتولى في فبراير 2006، منصب رئيس وزراء فلسطين، وظل في هذا المنصب حتى شهر يونيو 2014، وكان آخر منصب تولاه هنية، هو منصب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في مايو 2017.

تعرض “هنية” لعدة محاولات اغتيال، أولها نتج عنها إصابته بجروح، خلال الغارة الجوية التي استهدفت مؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، ثم تعرض موكبه لإطلاق نار في قطاع غزة في شهر ديسمبر 2006، وتم قصف منزله في مخيم الشاطئ جواً، خلال العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة، في يوليو 2014، علمًا أنه فقد ثلاثة من أبنائه، ونحو 60 من أقاربه، خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية الجارية حاليًا في قطاع غزة.

خلال الأشهر الأخيرة، كان “هنية” بمثابة “المفاوض السياسي” عن الفصائل الفلسطينية، خلال المفاوضات غير المباشرة التي رعتها مصر وقطر، لبحث التوصل إلى هدنة إنسانية، وإيجاد حلول لملف الأسرى والملفات الأخرى المرتبطة بالوضع الميداني في قطاع غزة، وبالتالي يمكن النظر – من حيث الشكل – لعملية اغتياله، من منظور أن تل أبيب قد نجحت في تصفية قيادي أساسي في حركة حماس، يضاف إلى كل من صالح العاروري ورائد سلامة – ومحمد الضيف في حالة تأكد مقتله – وهو ما يخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي على المستوى الداخلي، وفي نفس الوقت يساهم في التخريب التام لمحادثات وقف إطلاق النار، التي تسبب نتنياهو في تعطيلها عبر الشروط التعجيزية التي وضعها مؤخرًا على الطاولة. يضاف إلى ذلك أن هذه العملية – التي من المرجح أنها وعملية بيروت، قد تمت بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية – سوف تنهي بشكل مرحلي، أي آفاق متوقعة لتجدد الحوار السياسي بين طهران وواشنطن، خاصة في ظل حالة “التجمد” التي دخل إليها القرار السياسي الأمريكي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.

ضربة طهران وبيروت … الكيفية والهدف

تشترك كل من عمليتي الاغتيال في بيروت وطهران في أن ملابسات تنفيذهما ما زالت تشوبها غموض كبير، بل إن عملية بيروت التي استهدفت القيادي البارز في حزب الله، فؤاد شكر، لم يُعلن رسميًا من جانب الحزب عن وفاته أو إصابته أو نجاته، في حين أنه من الملحوظ أن تل أبيب لم توجه أصابع الاتهام إلى شكر على خلفية عملية مجدل شمس، بل ذكرت اسم قيادي آخر في حزب الله، وهو علي محمد يحيى، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة “محاولة للتمويه”، ناهيك عن أن تل أبيب أعلنت بشكل “سريع” عن مقتل “شكر” قبل أن يصدر أي بيان عن حزب الله، ودون حتى أن تتوفر دلائل واضحة على مقتله.

هنا لا بد من الإشارة إلى حدث تزامن مع هذه الضربة، كان محله الأراضي العراقية، فبعد ساعات قليلة من الغارة الجوية التي استهدفت مبنى يقع مقابل كنيسة القديس يوسف في منطقة حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت، أغارت طائرات مسيرة يُعتقد أنها أمريكية، على موقع تابع للواء 47 في الحشد الشعبي – ويعرف هذا اللواء أيضًا باسم كتائب حزب الله العراق – ويقع هذا المقر في منطقة جرف الصخر في محافظة بابل، وهو تكتيك بات ملحوظًا من جانب الولايات المتحدة، التي تبادر لمهاجمة مواقع في سوريا والعراق، في حالة ما إذا نفذت المقاتلات الإسرائيلية غارات مؤثرة على منطقة ما، مثل الغارة على ميناء الحديدة اليمني، حيث قامت الطائرات الأمريكية في نفس الليلة، بالهجوم على مواقع تابعة للفصائل الموالية لإيران، وهنا يجب التنويه بأن القاعدة الأمريكية في حقل “كونيكو” النفطي في شرق سوريا، قد تعرضت الأسبوع الماضي للاستهداف من جانب الفصائل العراقية، وبالتالي يمكن اعتبار ضربة أمس ردًا على ذلك، لكن في نفس الوقت كان اختيار التوقيت، دليلًا على وجود قدر من التزامن بين الأنشطة الأمريكية والإسرائيلية.

وبما أن الأجواء اللبنانية تبدو مفتوحة أمام المقاتلات الإسرائيلية – رغم رصد محاولات حثيثة من جانب حزب الله لتضييق هامش حركتها في الأجواء اللبنانية، إلا أن الضربة التي تمت في طهران تحمل غموضًا أكبر من حيث كيفية تنفيذها. من حيث المبدأ، لا تمثل عملية اغتيال إسماعيل هنية في إيران، حدثًا غير مسبوق التحقق، حيث شهدت الأراضي الإيرانية مرارًا، عمليات إسرائيلية خاصة خلال السنوات الماضية، شملت تنفيذ خمس عمليات اغتيال على الأقل، لعلماء لهم صلة بالبرنامج النووي الإيراني، بين عامي 2010 و2012، بجانب تنفيذ تل أبيب عمليات تخريب للبنية التحتية الإيرانية، والمرافق النووية والنفطية، مثل منشأة “نطنز”، وكذا هجمات بالطائرات المسيرة المصغرة على مواقع عسكرية، مثل منشأة “بارشين” الصاروخية، وقاعدة “كرمنشاه” العسكرية.

أما من حيث الشكل، جاءت عملية اغتيال هنية في سياق تحاول فيه تل أبيب التأكيد بشكل متكرر على أنها في معركة مباشرة مع إيران تحقق فيها نتائج إيجابية، حيث جاءت هذه العملية بعد ساعات قليلة من غارة بيروت اللبنانية وغارة بابل العراقية، لتأتي الضربة الإسرائيلية في قلب العاصمة الإيرانية وتستهدف ضيفًا عالي المستوى في مقر إقامة مؤمن يتبع الحرس الثوري، وفي ظل حالة استنفار عسكري إيراني عام ودائم، لتخلق إحراجًا كبيرًا لطهران وإشكاليات متعددة في هذا التوقيت الذي يحاول فيه الرئيس الإيراني الجديد تلمس خطواته، حيث يجد نفسه مطالبًا بالرد على هذا الهجوم الذي يمكن اعتباره بمثابة “قتل” لمعادلة الردع التي كانت إيران قد دشنتها بعد استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق، خاصة أن ضربة طهران حملت في طياتها رسالة قوية لحلفاء إيران مفادها أن اليد الإسرائيلية سوف تطولهم في أي وقت ومكان وأن إيران لا تستطيع حمايتهم حتى وهم داخل أراضيها.

الاحتمالات المتوفرة لتنفيذ هذه الضربة تبدو متعددة، منها ما يفترض أن العمليات تمت عن طريق إطلاق مقذوفات من مقاتلات خارج المجال الجوي الإيراني، وصلت إلى قرب الحدود الإيرانية عبر خط طيران من خطوط عدة محتملة، منها الطيران فوق خط الحدود الأردنية-السورية، ثم وسط الأراضي العراقية وصولًا إلى إيران، أو التحليق عبر مسار أطول، يتضمن شمال سوريا وشمال الأردن والعراق، أو حتى استخدام القواعد الجوية الأذربيجانية، مثل قاعدة “Sitalchay” شرق أذربيجان، لكن يبدو السيناريو الجوي أقل حظوظًا، بالنظر إلى عدم وجود أي عامل منطقي في سماح أي من هذه الدول للطائرات الإسرائيلية، بعبور أجوائها لقصف طهران.

التقديرات الحالية، والأقرب للتحقق، تفترض إما أن عملية الاستهداف قد تمت من الأراضي الإيرانية – من مكان قريب من المقر التابع لهيئة المحاربين القدامى، والذي كان يتواجد به إسماعيل هنية – عبر استخدام مسيرات مفخخة، أو النسخة البرية من صواريخ “SPIKE NLOS”، وهي للمفارقة تعتبر المصدر الأساسي الذي منه قامت طهران بتطوير صواريخ “الماس”، التي يستخدمها حزب الله حاليًا في جنوب لبنان. الاحتمال الثاني، يقتضي استخدام غواصة من الفئة “دولفين-2″، التي تمتلك منها البحرية الإسرائيلية ثلاث غواصات، قادرة على إطلاق صواريخ “POPEYE” الجوالة، والتي يتراوح مداها الأقصى بين 1500 و2500 كيلو متر.

خلاصة القول، يبدو أن تل أبيب تستهدف على المستوى العام من عمليات الاغتيال التي نفذتها أمس، إعادة ترميم صورة الردع الخاصة بها، والتي تعرضت لأضرار بالغة مرارًا وتكرارًا خلال الأشهر الماضية، سواء على الجبهة اللبنانية، أو في قطاع غزة، أو في اتجاه البحر الأحمر، وهي هنا تحاول استغلال الموقف الأمريكي الحالي، لتحصيل أكبر ما يمكن من مكاسب ميدانية، في نهج يبدو أنه لا يضع وزنًا كبيرًا لتأثيرات استمرار هذا الموقف، على أمن الشرق الأوسط، وعلى أي جهود تُبذل لنزع فتيل الأزمات التي تتزايد حدتها يومًا بعد آخر في مناطق عدة بالإقليم.

تجدر الإشارة إلى أن التصعيد الحالي قد ينتج عنه بالفعل رد إيراني قوي، لكن لا يُرجح أن يكون هذا الرد في صورة “ضربة شاملة”، رغم أهمية إسماعيل هنية في المعادلة الفلسطينية، وسيكون المحرك الأساسي لهذا الرد هو محاولة طهران لجم الأضرار التي نتجت عن الضربة الإسرائيلية، سواء التي لحقت بجبهتها الداخلية أو التي أصابت حلفاءها، وبالتالي لن يخرج الرد الإيراني إلى حدود المواجهة الإقليمية مع إسرائيل، وقد يتخذ عدة سبل أساسية، منها التركيز على استهداف شخصية سياسية إسرائيلية بارزة، أو استهداف قاعدة جوية إسرائيلية رئيسية، كقاعدة “رامات ديفيد”، التي باتت تخشى تل أبيب بالفعل تعرضها للاستهداف، وهذا ربما يفسر إعلانها إغلاق المجال الجوي المحيط بهذه القاعدة اليوم، بين مدينتي “الخضيرة” و”طيرة الكرمل”.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82137/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M