جاء اجتماع وزراء خارجية ودفاع فرنسا وأستراليا الذي عُقد يوم الاثنين الموافق الثلاثين من يناير 2023، لتعزيز العلاقات القائمة، وترجمتها بشكل عملي إلى أفعال، وخاصة بعد محاولة الجانبين العمل على تهدئة الأوضاع بينهم التي شهدت عدد من التحديات على خلفية تبعات اتفاق “أوكوس” الذي أبرمته أستراليا مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة في أغسطس 2021؛ ليُلقي الضوء على مسار العلاقات بين فرنسا ودول منطقة المحيطين الهندي والهادئ وفي مقدمتهم بعض دول مجموعة الحوار الأمني الرباعي “كواد” التي تتضمن كلًا من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا؛ حيث تراجعت العلاقات بينهم بشكل مُلحوظ خلال الآونة الأخيرة من حيث حجم ونطاق التعاون الدفاعي والأمني.
وقد تجلى ذلك إبان الجولة الخارجية التي قام بها رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” -الذي يتولى رئاسة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى خلال هذا العام- في الفترة من التاسع من يناير 2023 وحتى الخامس عشر من نفس الشهر، والتي شملت كلًا من: فرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية؛ في سياق تحضيره لعقد القمة المُقبلة التي سيستضيفها في هيروشيما في شهر مايو 2023.
وقد أسفرت هذه الجولة عن مجموعة من اللقاءات الرسمية مع قادة هذه الدول، وعكست مدى حرص طوكيو على تعزيز شراكتها العسكرية معهم. وبالرغم من ذلك، كان الأمر اللافت للنظر هو مستوى التعاون والشراكة الذي ترغب فيه طوكيو مع كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا. الأمر الذي دفع إلى التساؤل: هل هناك نهج مُتعمد لتجاهل فرنسا من الترتيبات الأمنية والدفاعية التي تقوم بها الدول الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على غرار ما حدث إبان في اتفاق “أوكوس”، ولكن بنمط مُغاير لتجنب الصدام بشكل مباشر مع باريس؟
حضور راسخ
لكي نستطيع الإجابة على هذا التساؤل لابد من توضيح بعض النقاط المهمة التي تتضمن: ماهية الحضور الفرنسي في المنطقة، ورؤية فرنسا للتغيرات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة؛ فقد اكسبت منطقة المحيطين الهندي والهادئ أهمية في السياسة الخارجية الفرنسية لكونها ساحة جاذبة للقوى الدولية المُتنافسة، وهو ما تمثل في تنامي الصعود الصيني من حيث النطاق والقدرات على الصعيد المدني والعسكري، بجانب إعادة التموضع والانتشار الكبير الذي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع حلفائها وشركائها المُتوافقين مع تصوراتها وتوجهاتها بشأن ضمان أمن واستقرار منطقة المحيطين.
انطلاقًا من ذلك، استخدام الرئيس “إيمانويل ماكرون” في الثالث من مايو 2018 لأول مرة مصطلح “اندو-باسيفك” كمفهوم في السياسة الخارجية، تمهيدًا للإعلان عن إصدار استراتيجية خاصة بالمنطقة التي قام بتحديثها في فبراير 2022؛ بهدف الارتقاء بقدراته الدفاعية في المنطقة على المستوى العملياتي، علاوة على التنسيق مع الشركاء الدوليين، ولتأمين المصالح الفرنسية بجانب تقديم آليات للتعامل مع التحديات المُتلاحقة على كافة الأصعدة في المنطقة. لتكون بذلك أول دولة في الاتحاد الأوروبي تنتهج هذا المسار، وتأتي على غرار اليابان التي تبنت هذا التوجه لأول مرة منذ عام 2007، تلتها أستراليا في عام 2013. ويرجع هذا الاهتمام إلى عدد من الدوافع التي يمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:
● تمتلك فرنسا موقعًا جيوستراتيجي؛ إذ تتشارك الحدود مع اثنتي عشرة دولة في المحيط الهادئ، وخمس دول في المحيط الهندي، فضلًا عن نفوذها المُمتدّ في عدّة أقاليم وجزر مثل: بولينيزيا الفرنسية، وكاليدونيا الجديدة، وجزيرة كليبرتون، وجزيرة ريونيون، ومايوت؛ إذ يعيش ما يقرب من 1.6 مليون مواطن فرنسي في هذه الأقاليم، وتقع أكثر من 75% من المنطقة الاقتصادية الخالصة لفرنسا في منطقة “الإندو باسيفيك”، لتكون بذلك ثاني أكبر منطقة اقتصادية عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
● تتمركز بعض القوات الفرنسية في المنطقة التي يبلغ عددها أكثر من 7 آلاف جندي، بجانب عدد من القطع البحرية، وطائرة هليكوبتر، علاوة على الإعلان عن نشر حاملة طائرات فرنسية بحلول عام 2025، بالإضافة إلى المشاركة في التدريبات مُتعددة الجنسيات لتأمين مصالح البلاد، وضمان حماية المواطنين الفرنسيين الموجودين في هذه المنطقة، والقيام بعدد من المهام الأخرى مثل التعامل مع الكوارث الطبيعية. ويُذكر أن الحضور العسكري الفرنسي في المنطقة يُقدر بنحو 60% من أصل قواتها العسكرية الدائمة في الخارج؛ فعلى سبيل المثال تُمكن القوات المسلحة في كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية باريس من ضمان أمن أراضيها ومنطقتها الاقتصادية الخالصة ومجالها الجوي السيادي في جنوب المحيط الهادئ.
● وفقًا للاستراتيجية الفرنسية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، تريد فرنسا أن تكون قوة لتحقيق الاستقرار، وتعزيز قيم الحرية وسيادة القانون؛ بهدف تقديم حلول للتحديات الأمنية والاقتصادية والصحية والمناخية والبيئية التي تواجه دول المنطقة. وتعمل كذلك من أجل نظام دولي مُتعدد الأطراف يقوم على سيادة القانون.
● تستند الاستراتيجية الفرنسية للمنطقة إلى أربع ركائز رئيسة، يتمثل أبرزها في: ضمان بقاء المنطقة مفتوحة، بجانب الاحترام المُتبادل للسيادة الوطنية بين دول المنطقة، علاوة على تحسين المعايير الدولية والامتثال لها الأمر الذي يُعد أولوية وخاصة على المستوى التجاري، وتعزيز تعددية الأطراف الفعالة في المنطقة للحد من تنامي التوترات.
● وفي هذا السياق، أوضحت الاستراتيجية أن منطقة المحيطين تشهد عددًا من التغيرات الاستراتيجية، مثل تزايد النفوذ الصيني، بجانب تنامي المنافسة بين واشنطن وبكين، وأيضًا التوترات على الحدود الصينية-الهندية، وفي مضيق تايوان وشبه الجزيرة الكورية، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية العابرة للحدود مثل الإرهاب والقرصنة، بجانب أن تداعيات المنافسة الاستراتيجية القائمة بين واشنطن وبكين وتفضيل الترتيبات الثنائية وعلاقات القوة من أجل المصالح الوطنية الخاصة تسهم في انهيار النظام الدولي، في حين أن التحديات العالمية تتطلب تعاونًا أكبر من الدول.
تحولات تدريجية
بالرغم من أن الجولة الخارجية لرئيس الوزراء الياباني قد تُجدد النقاش مرة ثانية بشأن الترتيبات الدفاعية التي تشهدها منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلا إنها لم تكن بتحركات جديدة في هذه المنطقة التي تتجه نحو مزيد من العسكرة على خلفية ما تقوم به الدول المركزية فيها بقيادة واشنطن لمواجهة النفوذ الصيني المُتصاعد، وهي تأتي في إطار جُملة من الترتيبات الأخرى التي لا تحضر فيها فرنسا، يتجسد أبرزها على النحو التالي:
● إبرام تحالفات مرنة: تشهد منطقة المحطين الهندي والهادئ عددًا من التحولات المُتلاحقة التي ستكون لها تداعيات على توازنات القوى فيها التي تزايدت مع الإعلان عن الاتفاق الأمني والدفاعي المُعزز بين كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا في منتصف أغسطس 2021، الذي يعرف باسم تحالف “أوكوس”، ويتضمن التعاون على الصعيد الدبلوماسي، والعسكري، والمعلوماتي، والتكنولوجي، تمهيدًا لتحقيق التكامل بين القواعد الصناعية، والتقنيات التكنولوجية، والأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، وسلاسل التوريد الخاصة بالأمن والدفاع، بالتركيز على التشغيل البيني الثلاثي. بجانب بناء ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية لصالح البحرية الأسترالية، لتكون أول دولة ستشارك الولايات المتحدة معها تكنولوجيا الدفع النووي بعد المملكة المتحدة التي حصلت عليها في عام 1958.
● تحديث القدرات الدفاعية: يتجه المزيد من دول المنطقة نحو تحديث ترساناتها، وهو ما اتضح مع قيام أستراليا بموجب اتفاق “أوكوس” بالتراجع عن اتفاق مُماثل قد تم إبرامه مع فرنسا في عام 2016 بتكلفة (65.88 مليار دولار أمريكي) لبناء 12 غواصة هجومية تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء من قبل شركة “Naval Group” الفرنسية، مقابل الحصول على ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية. ذلك بالإضافة إلى الإعلان مؤخرًا في الثامن عشر من يناير 2023 عن تخليها عن مروحيات من طراز “تايبان” الفرنسية، مقابل شراء 40 مروحية أمريكية من طراز “بلاك هوك” التي تقدر قيمتها بنحو 1.96 مليار دولار. لم يكن الأمر بجديد –فعلى سبيل المثال- فقد سبق وأن وافقت الخارجية الأمريكية، في مايو الماضي على إمكانية بيع صواريخ مُتنقلة لـ كانبيرا.
● تطوير الإنتاج المشترك: وقعت الهند والولايات المتحدة في سبتمبر 2021 على اتفاقية لتعزيز التعاون الدفاعي يتم بموجبها المشاركة في تطوير المركبات الجوية بدون طيار التي يتم إطلاقها من الجو، علاوة على ذلك تُعد هذه الاتفاقية هي مشروع للتطوير المشترك تبلغ قيمته حوالي 22 مليون دولار. ويأتي في إطار مبادرة التجارة والتكنولوجيا الدفاعية الأمريكية-الهندية، وهي “آلية لتحسين التعاون بين البلدين فيما يتعلق بالتبادل التكنولوجي، والبحث، والإنتاج والتطوير المشترك لأنظمة الدفاع بما يضمن تحديث القوات لدى الجانبين”.
● تجديد النهج القائم: واتصالًا بما سبق قامت أيضًا أستراليا بإبرام اتفاقية مع اليابان في الثاني والعشرين من أكتوبر من 2022 تشمل التعاون على الصعيد العسكري، والاستخباراتي، والأمن السيبراني، وهي تحديث لاتفاق مُسبوق تم توقيعه لأول مرة في عام 2007. وبالتزامن مع إعلان الاتفاقية شاركت قوات الدفاع الذاتي اليابانية الجيش الأسترالي للقيام بتدريبات لأول مرة بموجب هذه الاتفاقية. وقد سبقها عقد اتفاقية دفاعية أخرى في السابع من يناير من نفس العام تستهدف الوصول المُتبادل بين الجانبين مثل الوصول إلى القواعد العسكرية والموانئ لبعضهما البعض، والتسهيلات اللوجستية، ومواءمة بروتوكولات الأمان ذات الصلة؛ بهدف تسهيل التدريبات العسكرية المشتركة على أراضي البلدين، وعليه تُعد هذه الاتفاقية الأولى من نوعها توقعها اليابان مع أي دولة أخرى غير الولايات المتحدة.
● تعميق مسارات الشراكة: استكمالًا للجهود الدفاعية التي تقوم بها دول منطقة المحيطين، تم الإعلان في التاسع من ديسمبر 2022 عن توقيع اتفاق جديد بين المملكة المتحدة وإيطاليا واليابان يستهدف تطوير الجيل التالي من الطائرات المقاتلة الجوية؛ إذ قالت الدول الثلاث في بيان مشترك: “نحن مُلتزمون بدعم النظام الدولي القائم على القواعد والحر والمفتوح، وهو أمر أكثر أهمية من أي وقت مضى في وقت تتنازع فيه هذه المبادئ وتتزايد التهديدات والعدوان”. ليكون بذلك أول تعاون في مجال الصناعات الدفاعية على مستوى كبير منذ الحرب العالمية الثانية بعيدًا عن الولايات المتحدة الأمريكية، يرتكز على تشغيل مُقاتلة مُتقدمة في الخطوط الأمامية، ومجموعة من الطائرات بدون طيار، وأجهزة الاستشعار بحلول عام 2035 عبر الجمع بين نظام Future Combat Air System بقيادة المملكة المتحدة والمعروف باسم Tempest مع نظام F-X الياباني في مشروع يسمى برنامج القتال الجوي العالميGlobal Combat Air Programme.
● تباين في مستوى التعاون: ألقت زيارة رئيس الوزراء الياباني “كيشيدا” إلى كل من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الضوء على مستوى العلاقات الدفاعية بين هذه الدول وبعضها البعض، والمسارات المستقبلية لها؛
- بالنسبة لفرنسا؛ نوه قادة البلدين عن رغبتهما في الارتقاء بمستوى العلاقات على الصعيد الأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وصرح الرئيس الفرنسي ” ماكرون” عن رغبته تعزيز التعاون مع اليابان في مجال التسليح، علاوة على ذلك عبر السيد “كيشيدا” عن رغبته في تعزيز التعاون مع فرنسا فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية المشتركة. وفي هذا السياق قال السيد “كيشيدا”: “إن فرنسا هي شريك رئيس لإنشاء منطقة “حرة ومفتوحة” بين المحيطين الهندي والهادئ حيث يزداد الوضع الأمني في المنطقة توترًا وسط تزايد الإصرار العسكري الصيني”. فيما قال السيد “ماكرون”: “يمكن لليابان الاعتماد على دعمنا المستمر لمواجهة الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي من بيونغ يانغ”. كما “إن فرنسا واليابان ستواصلان “إجراءاتهما المشتركة في المحيطين الهندي والهادئ”.
- بالنسبة المملكة المتحدة؛ فقد شهدت الزيارة “كيشيدا” للمملكة المتحدة تعميق للتعاون بين الجانبين؛ حيث قام بتوقيع اتفاقية دفاعية في الحادي عشر من يناير، تستهدف الوصول المُتبادل بين البلدين، لتبسيط الإجراءات المُتعلقة بالأبعاد التعاونية بينهم مثل زيارات الموانئ للسفن، والتدريبات المشتركة. وبناءً على ذلك ذكر البيان الصحفي الصادر عن الحكومة البريطانية أن الاتفاقية “ستُعزز أيضًا التزام المملكة المتحدة بأمن المحيطين الهندي والهادئ، مما يسمح لكلا القوتين بتخطيط وتنفيذ تدريبات وعمليات انتشار عسكرية على نطاق أوسع وأكثر تعقيدًا”. وعليه تُعد هذه الاتفاقية من أهم الاتفاقيات التي تم إبرامها بين لندن وطوكيو منذ عام 1902، وستكون لندن بذلك أول دولة أوروبية لديها اتفاقية وصول مُتبادل مع اليابان، وثالث دولة بعد الولايات المتحدة وأستراليا.
- بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية: نوه كل من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الياباني عن “انتقاداتهما المشتركة لروسيا والصين وكوريا الشمالية، والتزاماتهما المشتركة تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة، و”تحديث” التحالف العسكري وزيادة قدرة الردع والاستجابة للتحالف”. فضلًا عن ذلك قال الرئيس “جو بايدن”: “نحن نقوم بتحديث تحالفنا العسكري، والبناء على الزيادة التاريخية لليابان في الإنفاق الدفاعي واستراتيجية الأمن القومي الجديدة”.
أسباب مُحتملة
بالرغم من تأكيد القوى الدولية الكبرى الفاعلة في المنطقة أن فرنسا شريك أساسي، وهو ما تجسد من جانب إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بعد الإعلان عن تحالف “أوكوس”، وأيضًا رئيس الوزراء الياباني إبان زيارته الأولى لباريس منذ توليه منصبه منذ أكتوبر 2021، إلا إن مستوى التعاون الدفاعي لا يتناسب مع حجم التصريحات. وعليه قد ترجع الأسباب المُحتملة لعدم إشراك دول المنطقة وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وأستراليا فرنسا معهم في جهود ضمان أمن واستقرار المنطقة، بشكل عملي، على المستوى الدفاعي على وجه التحديد، بالتزامن مع قيام هذه الدول بتعميق التعاون فيما بينها، أو مع شركاء أوروبيين آخرين بشكل مُعمق فيما يلي:
● اختلافات قائمة: بالرغم من أن العديد من الدول قد صاغ تصورًا لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلا أن الأهداف قد اختلفت من دولة إلى أخرى -فعلى سبيل المثال- بالنسبة لفرنسا فإنها تعمل على حماية مكانتها الدولية، ونفوذها في المنطقة، وأن تكون قوة مُتوازنة وسيطة. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها تُريد ضمان استمرار النظام القائم على القواعد الذي تم إرساؤه في المنطقة، فيما ترغب أستراليا في تحقيق التوزان في علاقاتها ببكين وواشنطن بالتزامن مع ضمان أمنها. بينما تستهدف اليابان تعزيز الاستقرار العالمي والازدهار، وعليه فقد تكون هذه التصورات المختلفة التي تطرحها الدول تجاه المنطقة، أحد العوامل المُؤثرة على مسارات وأبعاد التعاون.
● نفوذ مُتراجع: بالرغم من امتلاك فرنسا لنفوذ راسخ في عدد من الأقاليم والجزر في المنطقة إلا إنها ما زالت تواجه مجموعة من التحديات مثل علاقاتها المُتوترة بكاليدونيا الجديدة التي قامت بإجراء ثلاثة استفتاءات للحصول على الاستقلال عن فرنسا، كان آخرها في ديسمبر 2021؛ حيث جاءت النتائج لصالح استمرار التابعية لفرنسا، ولكن ما زالت الرغبة في الاستقلال مستمرة، فهناك دعوات لإجراء استفتاء رابع، وخاصة بعد تراجع نسب المُشاركة في الاستفتاء الأخير نتيجة مُقاطعة الأحزاب الداعمة للاستقلال عملية التصويت، علاوة على إنه تزامن مع تفشي جائحة “كوفيد-19”.
وهنا تكمن المشكلة، فهذه المنطقة ذات الموقع الجيواستراتيجي، والغنية بالموارد الطبيعية مثل النيكل، أصبحت محط أنظار القوى المُنافسة في المنطقة مثل الصين التي تعمل على زيادة التعاون التجاري معها خاصة فيما يتعلق بمنتجات النيكل والكوبالت؛ حيث بلغت قيمة صادرات كاليدونيا الجديدة نحو 197.2 مليون دولار في عام 2020 من هذه المنتجات. لذا فقد يكون لدى واشنطن وحلفائها تخوف من تراجع النفوذ الفرنسي في الأقاليم التابعة لها خلال السنوات المُقبلة، وهو ما قد يُضر بمصالحها والمحور الذي تسعى واشنطن إلى تدشينه.
● توجهات ضاغطة: مع تغير البيئة الأمنية بشكل مُتزايد بجانب تنامي المنافسة الجيواستراتيجية بين القوى الكبرى، في محاولة لإعادة التُموضع في عدد من المناطق ذات الثقل، التي ترتبط بمصالحهم وتعزز من مكانتهم الدولية، تسعى بعض دول إلى إقامة شراكة أمنية ودفاعية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في إطار ثنائي أو مُتعدد الأطراف سواء مع دول المنطقة أو مع الدول الأوروبية عبر إنشاء تحالفات مرنة قائمة على التوافق المشترك بشأن مصادر التهديدات، وسبل الاستجابة لها من خلال وضع مُقاربة شاملة تستهدف مُعالجة هذه التهديدات ومحاصرتها، وذلك بما يتناسب مع الأوضاع الراهنة، بدون المواجهة المباشرة مع الأطراف الدولية الآخر مثل الصين في عمقها الاستراتيجي، وهو ما قد يكون أحد الأسباب التي تفسر لماذا يتراجع التعاون مع فرنسا في الوقت الحالي.
● التحوط الاستراتيجي: بالنظر إلى الاستراتيجية الفرنسية تجاه منطقة المحيطين، ورغبة فرنسا في أن تكون قوة وسيط، تعمل على إحداث توازن بين واشنطن وبكين بهدف تجنب تبعات الصدام بين هذه القوى على المصالح الفرنسية، وفي مُحاولة للاستفادة من هامش المناورة بين واشنطن الحليف الاستراتيجي لباريس وبكين التي تُمثل تحديًا لفرنسا وفي نفس الوقت لا تراها تهديدًا مثل واشنطن، بالإضافة إلى رفض الرئيس الفرنسي لسياسات الهيمنة والمواجهة وهو ما نوه عنه خلال حضوره المنتدى الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي في نوفمبر 2022؛ وعليه يمكن اعتبار أن نهج الحياد أو ما قد يُطلق عليه “تحوط استراتيجي” الذي تحاول فرنسا تبنيه غير مُتوافق مع واشنطن وحلفائها وشركائها من دول المنطقة الذين لديهم تصورات مُتقاربة بشأن التهديدات القائمة فيها، والتي تتمثل في الصعود الصيني، الذي يعد مُهددًا لمصالحهم وللترتيبات الأمنية القائمة في المنطقة.
لذا فقد تكون هناك رغبة من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا في تجنب الصدام مع القوى الغربية التي ما زالت لديها علاقات مع الصين، أو قطع العلاقات معهم أو الضغط عليهم بشكل مباشر حتى لا يكون هناك مجال لأي ثغرات يمكن أن توظفها بكين لخدمة مصالحها عبر إعادة التموضع وتقديم نفسها بديلًا استراتيجيًا يمكن أن يملأ فراغ القوى المنسحبة. وبناءً على ذلك، من المُحتمل أن يكون هذا الأمر توجهًا جديدًا من قبل واشنطن يستند إلى تعزيز التعاون وتعميق الشراكات مع الدول الحليفة لها بشكل تدريجي، بما يضمن تقوية محور دولي مُكون من الدول المُتوافقة معها، ويكون قادرًا على الردع الاستباقي.
ختامًا؛ ما زالت فرنسا شريكًا استراتيجيًا لدول منطقة المحيطين الهندي والهادئ بالرغم من التحديات التي تواجهها في علاقاتها الحالية مع دول المنطقة على مستوى التعاون الدفاعي؛ فمن غير المُحتمل أن يكون هذا النهج القائم هو ركيزة أساسية للعلاقات خلال المرحلة المُقبلة. فمن المُتوقع أن تسعى باريس إلى إعادة بناء شراكتها مع دول المنطقة وفقًا لنهج مُتوازن يحقق أهدافها، ويتوافق مع توجهات الدول الأخرى على غرار ما حدث إبان الحرب الروسية الأوكرانية التي فرضت على فرنسا ضرورة التنسيق والتعاون مع حلف شمال الأطلسي بقيادة واشنطن في سياق ردع روسيا والدفاع عن أوكرانيا، بعد دعواتها المتكررة بشأن أهمية تحقيق الاستقلال الاستراتيجي للقوى الأوروبية وخاصة في مجالي الأمن والدفاع.
.
رابط المصدر: