تسليح إسرائيل… بين المبالغة في دعوات الحظر والاكتفاء الذاتي

يبعد أحد أكثر المواقع تلوثا في إسرائيل بضع دقائق سيرا على الأقدام عن وسط تل أبيب، على امتداد “طريق هاشالوم” (طريق السلام بالعبرية). ويعرف الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة، أن هذا الموقع مهجور منذ سنوات، على الرغم من أنه قائم على أرض باهظة الثمن– لكنهم قد لا يعرفون لِمَ بقي هذا الموقع مهجورا طوال هذا الزمن وما الذي كان مبنيا عليه.

حتى عام 1997، كان هذا المجمع المهجور مصنعا للأسلحة يسمى “هاماغين”، ينتج عددا من الأسلحة الصغيرة، ويلقي بمخلفات سامة تطلبت عقدين من التنظيف فيما بعد. وشُيّد هذا المجمع في البداية عام 1948 ثم وسع عام 1967 حينما واجهت الصناعة العسكرية الإسرائيلية أزمة كبيرة مرتبطة بالحظر الفرنسي الذي فرضه الرئيس آنذاك، شارل ديغول، بعد ثلاثة أيام من حرب الأيام الستة. إذ إن إسرائيل كانت حينها لا تزال تعتمد على الأسلحة الفرنسية وليس الأسلحة الأميركية.

ويبدو المصنع اليوم رمزا لزمن انقضى منذ أمد بعيد، حين كانت الصناعة العسكرية الإسرائيلية وريثة مباشرة لشبكة ورشات سرية، أقيمت قبل إنشاء الدولة، وكانت تصنع الذخيرة والأسلحة، التي استخدمت في حرب1948 التي خاضتها البلاد.

ولم تكن الصناعة العسكرية الإسرائيلية في ذلك الوقت، تنتج صواريخ جوية اعتراضية قادرة على تدمير الصواريخ في الجو. بل كانت تكتفي بما هو متوفر لديها من مواد، بما في ذلك على سبيل المثال قذيفة “دافيدكا” سيئة السمعة. وهي قذيفة هاون مؤقتة استخدمت في أثناء حرب عام 1948، وقد لا يتذكرها معظم الإسرائيليين اليوم إلا كاسم لساحة مركزية في القدس.

ولقد استدعى نتنياهو نفسه هذا التاريخ لتخفيف محاولات الضغط على إسرائيل. فهذه الحرب العنيفة في غزة، واستخدام قنابل مصنوعة في الولايات المتحدة في المناطق المدنية المكتظة، ثم توسع الصراع مؤخرا إلى لبنان، دفعت الدول التي تصدر الأسلحة إلى إسرائيل إلى استخدامها كأداة للضغط عليها. وعندما واجه نتنياهو مثل هذه التهديدات، بقي على تحديه. وسعى في كلمة له إلى التذكير بأن لإسرائيل تاريخا في خوض حروب وجودية مهما كانت الأدوات المتاحة لها. وقال إن إسرائيل “ستقف بمفردها” إذا لزم الأمر: “لقد قلت من قبل إننا إذا اضطررنا، فسنقاتل بأظافرنا”.

 

تقاتل إسرائيل بأنظمة الأسلحة التي توفرها لها كل من صناعتها الدفاعية، وتقاتل بأسلحة تحصل على معظمها من الولايات المتحدة

 

 

بيد أن إسرائيل لا تقاتل بأظافرها، بل تقاتل بأنظمة الأسلحة التي توفرها لها كل من صناعتها الدفاعية، وتقاتل بأسلحة تحصل على معظمها من الولايات المتحدة. وهذا الاعتماد الواضح على واشنطن، في وقت يبدو فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي أصما على نحو متزايد تجاه المخاوف الأميركية، كان هدفا لتعليقات عنيفة بأن من الضروري استخدام هذه الأداة كوسيلة للضغط عليه. وفي مشهد تاريخي يتكرر ثانية، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى فرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل لإجبارها على التفاوض على حل دبلوماسي للحرب في لبنان وغزة.

وقد أغضبت هذه الدعوة نتنياهو بشدة، ولكنها كانت موجهة في المقام الأول إلى واشنطن. فبخلاف ما كان عليه الوضع في الستينات والحظر الذي فرضه ديغول حينها، لم تعد فرنسا المصدر الرئيس الذي يورد الأسلحة الأجنبية لإسرائيل، فهي تمثل أقل من 0.1 في المئة من واردات إسرائيل. بينما استحوذت الولايات المتحدة، حسب بيانات معهد استكهولم لأبحاث السلام، على 70 في المئة من واردات إسرائيل تقريبا، في الفترة من 2019 إلى 2023. كما ارتفعت المساعدات الأميركية لإسرائيل في أثناء الصراع الذي اندلع في أعقاب هجمات “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلى مستوى غير مسبوق، في وقت يشتد فيه طلب أوكرانيا على المساعدات العسكرية الأميركية نفسها، بسبب الغزو الروسي.

مفارقة صناعة الدفاع الإسرائيلية

قد يتوقع المرء أن قادة صناعة الدفاع في إسرائيل يشعرون بقلق قاتل، أمام التهديدات باستخدام إمدادات الأسلحة كأداة للضغط على إسرائيل. غير أن الحال ليس كذلك. فقد شهدت شركات الدفاع الإسرائيلية ارتفاعا في إيراداتها، على الرغم من التهديدات بفرض حظر على الأسلحة، أو القرار الفرنسي الأخير الذي منع على الشركات الإسرائيلية المشاركة في معرضين فرنسيين خلال العام الماضي. وقد ارتفع الاهتمام بأنظمة الأسلحة الإسرائيلية ارتفاعا كبيرا، على الرغم من الانتقادات المتزايدة لأفعال إسرائيل في غزة ثم في لبنان الآن، وعلى الرغم من الفشل الكارثي في 7 أكتوبر/تشرين الأول، الذي شهد اكتساح “حماس” لما تملكه إسرائيل من دفاعات تكنولوجية عالية الدقة بالقرب من غزة.

وازدادت مبيعات الأسلحة والأنظمة العسكرية الإسرائيلية لتبلغ مستوى قياسيا عام 2023 للعام الثالث على التوالي. ومن المرجح أن يشهد عام 2024 تأكيدا لهذا الارتفاع المضطرد، إذ إن شركات مثل شركة “رافائيل”، التي تنتج القبة الحديدية وغيرها، سبق لها أن سجلت نتائج تظهر زيادة في المبيعات بنسبة 25 في المئة خلال الربع الثاني من عام 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

نظام دفاعي إسرائيلي من طراز Irone Dome، ونظام صاروخي أرض-جو، وصاروخ مضاد للصواريخ الباليستية من طراز Arrow 3 في قاعدة هاتسور الجوية الإسرائيلية 

أحد البنود الرئيسة المدرجة على قائمة الأسلحة الإسرائيلية المباعة في الخارج، هو نظام الدفاع الجوي “آرو-3″، النظام الأكثر تطورا والأغلى ثمنا. ففي عام 2023، أصبحت ألمانيا أول دولة أجنبية توقع عقدا لشراء نظام الدفاع الجوي هذا. وتُعد هذه الصفقة التي بلغت قيمتها حوالي 4 مليارات دولار، أكبر صفقة لبيع السلاح في تاريخ إسرائيل.

وقد وقعها الطرفان قبل اندلاع الصراع، ولكن جرى تأكيدها أثناء الحرب. جاء ذلك بعد أن أثبت نظام “آرو” فعاليته في التصدي للهجوم الصاروخي الذي شنته إيران في 13 أبريل/نيسان. واضطرت شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، وهي الشركة التي تنتج هذا النظام ومقرها إسرائيل، إلى توسيع قدراتها الإنتاجية إلى حد كبير، وزيادة مدة المناوبة فيها وإلى توظيف عمال جدد، بسبب الطلب الأجنبي إضافة لاحتياجات إسرائيل المحلية. والواقع أن هذا النظام استُخدم مرة أخرى (إنما بكفاءة أقل) في الأول من أكتوبر، حينما شنت إيران هجوما صاروخيا أوسع نطاقا. وقد يغدو نظام “آرو-3” جزءا من “مبادرة درع السماء” الأوروبية، مما يعزز مكانته في المشهد الدفاعي الأوروبي.

 

في عام 2023، أصبحت ألمانيا أول دولة أجنبية توقع عقدا لشراء نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي “آرو-3”. وتُعد هذه الصفقة التي بلغت قيمتها نحو 4 مليارات دولار، أكبر صفقة لبيع السلاح في تاريخ إسرائيل

 

 

ثمة معضلة تواجه أوروبا، التي تستورد 35 في المئة تقريبا من الصادرات الإسرائيلية، إذ على الرغم من أن الكثير من الدول الأوروبية كانت من بين الدول الأعلى صوتا في انتقاد سلوك إسرائيل في غزة، إلا أنها تواجه أيضا تهديدات جديدة قد تتطلب بعض الابتكارات العسكرية الإسرائيلية. فأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية تتمتع بأهمية خاصة، وهي تشكل أكثر من ثلث صادرات البلاد من الأسلحة.

جاءت الحرب في أوكرانيا لتكون جرس إنذار ينبه إلى الحاجة لاتخاذ قرارات برغماتية بدلا من القرارات ذات الدوافع السياسية. كما أظهرت أيضا أن خطر الحروب التقليدية المعروفة بنطاقها الواسع، لم يختف بعد عقود من الحروب التي ركزت على المتمردين. وفي الوقت نفسه، كان موقف إسرائيل المعارض لتقديم دعم عسكري لأوكرانيا “خوفا من استعداء روسيا” سببا للاحتكاك بينها وبين الدول الغربية. فقد ذهبت إسرائيل إلى حد منعت معه الدول الأوروبية من نقل الأسلحة المنتجة على الأراضي الأوروبية بموجب ترخيص منها، مما يوضح كيف أن “الجغرافيا” السياسية لا يمكن تجاهلها حقا حينما يتعلق الأمر بمبيعات الأسلحة.

أما الحصة الكبيرة الأخرى من صادرات الأسلحة فتذهب إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتشكل نصف إجمالي المبيعات تقريبا. وتحتل الهند أعلى القائمة بفارق كبير، فقد بات هذا العملاق الآسيوي مهتماً على نحو متزايد بأنظمة الأسلحة الإسرائيلية، حتى غدت إسرائيل ثاني أكبر مصدر للمعدات العسكرية الأجنبيةإليها. كما ساعدت قوانين حيازة الأسلحة الجديدة التي مررت عام 2020، في أعقاب تصاعد التوترات مع كل من باكستان والصين، في تسريع بيع الأنظمة الإسرائيلية وتعزيزها. كما ربطت هذه القوانين الجديدة مبيعات الأسلحة بإنشاء مصانع في الهند نفسها لتصنيع الأسلحة. ونتيجة لذلك، تنتج الهند الآن بعض المسيّرات المصممة إسرائيليا، بما في ذلك مسيّرة “هرمز-900”.

 

 

وليس من المرجح أن تتلاشى الشراكة العسكرية المتنامية باطراد بين إسرائيل والهند، نظرا لاحتياجات نيودلهي العسكرية، إضافة للدعم الضمني الذي تلقته هذه الشراكة من واشنطن، التي تسعى إلى فصل الهند عن روسيا، موردها العسكري تاريخيا. كما ردت الهند الجميل، حيث قدمت مساعدة عسكرية هادئة لإسرائيل بعد هجمات 7 أكتوبر. وفي الواقع باعت الهند لإسرائيل بعض المسيرات ذات التصميم الإسرائيلي، التي باتت الهند تنتجها الآن. وأرسلت شحنات الأسلحة من الهند إلى إسرائيل، في خضم احتياجات إسرائيل المتزايدة بسبب الحرب.

ولا حتى مسمار واحد

مع أن مبيعات إسرائيل لم تتأثر بشدة بتهديدات الحظر، فقد كان لها بعض التأثير، ولكن ربما لم يكن ذاك التأثير المتوقع. وكما كان الحال غالبا عندما واجهت إسرائيل تهديدات بالحظر مرتبطة على وجه التحديد بصناعتها العسكرية، ارتفعت الأصوات الداعية إلى الاعتماد على الذات.

ولكن ليس في الأمر جديد. فقد تشكل تاريخ صناعة الدفاع الإسرائيلية بفعل الحظر واضطراب عمليات الشراء. وقد أدى الحظر الذي فرضته فرنسا عام 1967 مثلا، إلى ازدهار صناعة الدفاع الإسرائيلية، التي شهدت إنتاج طائراتها الخاصة لتحل محل الطائرات الفرنسية. وكان لتردد بريطانيا في بيع دبابتها القتالية الرئيسة من طراز “شيفتين” لإسرائيل، دور جزئي في تشجيع إسرائيل على البدء في برنامج سيؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج خط دبابات “ميركافا”، التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي حاليا. إلا أن إسرائيل تخلت تدريجيا عن إنتاج هذه الطائرات في وقت لاحق، مع اقترابها من الولايات المتحدة، وهو ما أظهر أن إنتاج الأسلحة محليا لا يُعد دوما الخيار الأفضل. ولكن البلاد حافظت على ثقافة صناعية تؤكد الاعتماد على الذات، سواء كان ذلك حقيقيا أم متخيلا.

 

أدى الحظر الذي فرضته فرنسا عام 1967، إلى ازدهار صناعة الدفاع الإسرائيلية. وكان لتردد بريطانيا في بيع دبابتها من طراز “شيفتين” لإسرائيل، دور جزئي في تشجيع إسرائيل على إنتاج دبابات “ميركافا”

 

 

أخبرني مسؤول سابق في وزارة الدفاع أن العقلية العامة في إسرائيل هي أن لا يُصنّع ولا حتىمسمارواحد خارج إسرائيل، بما يخص بعض المركبات البرية والدبابات القتالية الأكثر استخداما في إسرائيل على سبيل المثال. وحتى بالنسبة للطائرات الإسرائيلية، وهي جميعها أميركية الصنع، تسعى إسرائيل إلى شق طريقها الخاص بالاعتماد على إلكترونيات الطيران المصنعة محليا.

وحتى نكون واضحين، فإن نموذج “الاعتماد على الذات” مجرد وهم من نواحٍ عديدة، فإسرائيل أصغر من أن تنتج كل ما يلزمها لبناء أنظمة الأسلحة الخاصة بها. إلا أن هذا يعكس عقلية تثمن الاستقلال عاليا، على الرغم من العلاقات العسكرية التاريخية التي تربط البلاد مع واشنطن.

نقطة الضعف الواضحة التي تثير قلق القيادة الإسرائيلية اليوم، هو إمدادات الذخيرة. فقد فرضت الحرب في أوكرانيا ضغوطا هائلة على مخزونات الغرب من الذخيرة وعلى قدرات الإنتاج. ووجد الغرب ككل ومعه الولايات المتحدة، أنهم ليسوا مستعدين لهذا النوع من الصراعات، الذي اعتقد معظمهم أنه من سمات القرن الماضي.

وسيزداد هذا الوضع حدة بطبيعة الحال بسبب الجدل الدائر حول استخدام إسرائيل للذخيرة في غزة ثم في لبنان الآن، وما تلحقه بالضحايا المدنيين في هذين الصراعين. غير أن كل هذه التوترات لم تغير حتى الآن من حسابات إسرائيل بشكل حقيقي.

 

رويترز رويترز

دبابات إسرائيلية تقوم بمناورة بالقرب من الحدود بين إسرائيل وغزة، في 6 أكتوبر 2024 

غير أن هذا لا يعني أن الخطاب العام حول الضغط على إسرائيل عبر الأسلحة لا تأثير له. ففي حين يواصل المعلقون التساؤل لِمَ لا تعتمد واشنطن إلى مدى أكبر على هذه الأداة من أدوات الضغط، يبدو أن إسرائيل تستعد لهذا اليوم القادم. فقد أطلقت وزارة الدفاع الإسرائيلية برنامج ذخيرة جديدا تحت اسم “أزرق وأبيض” (وهي ألوان إسرائيل)، وقد بدأ بعقد واسع النطاق مع شركة الدفاع الإسرائيلية “إلبيت” لإنتاج قذائف هاون دقيقة التوجيه. وكجزء من هذا العقد، سيبنى مصنع جديد، وتُوسع خطوط الإنتاج الحالية.

 ولا يزال من المبكر جدا أن نستنتج شيئا، مع أن تاريخ إسرائيل المتقلب في مجال شراء الأسلحة لطالما مال لصالح مصنعي الأسلحة المحليين، حتى إنه ينبغي أن لا نتفاجأ برؤية مصانع تصنيع الأسلحة- مثل ذاك المصنع المهجور الآن في وسط تل أبيب- تظهر مرة أخرى اليوم.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M