تراجَع عدد سكان الصين في نهاية عام 2022 (بمعدل 850 ألف نسمة) لأول مرة خلال 60 عاماً. ووُصِفت نقطة التحول الديموغرافية هذه بـ”تسونامي” شيخوخة المجتمع، لما لها من تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية. فما هي هذه التداعيات؟ وكيف من المتوقع أن تتعامل الحكومة الصينية معها؟
نهاية إرث “الدولة الأكثر سكاناً” في العالم
أحدثت نهاية الحرب الأهلية، ونشأة جمهورية الصين الشعبية عام 1949، طفرة في عدد سكان البلاد. وتضاعف عدد هؤلاء من 540 مليوناً عام 1949 إلى 969 مليوناً عام 1979. وارتكز هذا المسار التصاعدي على تقدُّم قطاع الصحة العامة، وتراجُع وفيات الأطفال، وزيادة متوسط أعمار الصينيين. وبدأت زيادة السكان تشكل عائقاً أمام صعود الصين الاقتصادي. ووصل متوسط المواليد لكل سيدة عام 1970 إلى 5.8 أطفال، وهو ما دفع الحكومة إلى فرض برنامج تنظيمي صارم عام 1979 عرف بـ“سياسة الطفل الواحد”.
وأدت المخاوف حول نتائج هذه السياسة، من قبيل تراجُع عدد السكان وزيادة كلٍّ من متوسط العمر وعدد الذكور مقارنة بالإناث في المجتمع، إلى خلق توافق في دوائر صنع القرار في بيجين منذ تولي شي جينبنغ الرئاسة عام 2013. وفي عام 2016، أُلغيت “سياسة الطفل الواحد” رسمياً لصالح الطفلين. وتحوَّلت هذه السياسة إلى “سياسة الأطفال الثلاثة” عام 2021. وقفز متوسط الأعمار من 21.5 عام 1978، إلى 38.4 عام 2021. وإذا استمر التصاعُد بنفس الوتيرة، يُتوقع أن يصل متوسط الأعمار في الصين إلى 50 عاماً بحلول عام 2050.
ويتناقض وصول عدد سكان الصين للذروة في يناير الماضي مع توقعات القيادة الصينية باحتمالية حدوث ذلك بحلول عام 2030. ووفقاً للأمم المتحدة، فإنّه مع افتراض استمرار معدل المواليد الحالي، وهو 1.3 لكل سيدة، حتى عام 2100، يُتوقع أن ينكمش عدد سكان الصين بنسبة 45% بحلول نهاية هذا القرن، وأن يتخطى حوالي رُبْع سكان الشعب الصيني عمر 65 عاماً بحلول عام 2040. ويعني ما سبق أن الصين بدأت رسمياً دخول حقبة شيخوخة المجتمع.
مُحفزات التراجُع السكاني
ثمة عوامل عدة تقف وراء التراجع الملحوظ في أعداد سكان الصين، أهمها الآتي:
- التأثير البنيوي لـ “سياسة الطفل الواحد” على المجتمع، وتزامن تراجع الإنجاب في الصين مع انخفاض معدلات المواليد عالمياً مع زيادة النمو الاقتصادي وتحوُّل الاقتصادات من النموذج الزراعي، حيث يمثل أفراد الأسرة مصادر دخل إضافية، إلى اقتصادات السوق المعقدة. ورغم ذلك، تركت هذه السياسة آثاراً نفسية وثقافية مُقاوِمة للإنجاب على الأجيال الجديدة.
- تأخُّر الصينيين في الزواج، وعزوفهم اختيارياً عن الإنجاب أو إنجاب أكثر من طفل واحد، برغم إلغاء العمل بـ “سياسة الطفل الواحد”. فقد تراجَع عدد المتزوجين حديثاً في الصين بما يقرب من 40%، من 13.4 مليون إلى 8 ملايين، بين عامي 2013 و2020.
- التنافسية والكلفة المرتفعتان اللتان أنتجتا رفضاً شعبياً عاماً للتنافسية العالية على فرص التعليم والوظائف المرموقة، والمتطلبات المبالغ فيها من أجل الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، باتت وظائف متواضعة اجتماعياً تتطلب حصول مستحقيها على دراسات عليا كي يمكن الالتحاق بها. ويتطلّب ذلك سنوات إضافية من الدراسة تتسبب في تأخُّر الزواج أو الإنجاب. فضلاً عن ذلك، فإن كلفة تربية وتعليم الأطفال في الصين مرتفعة مقارنةً بكثير من الاقتصادات المتقدمة. ووصل متوسط كلفة تربية الطفل حتى بلوغ سن 18 عاماً في الصين أكثر من 76 ألف دولار، وفرض ذلك ثنائية صعبة، خصوصاً على النساء العاملات، حول الاختيار بين حياة عملية ناجحة ومستوى اقتصادي مقبول أو تربية الأبناء. ويمكن عَدّ ذلك واقعاً احتجاجياً ضمنياً ضد النظامين الاقتصادي والاجتماعي، ورغبة توافقية بين الشباب لاكتساب شعور بالوكالة عبر مقاومة سياسات الحكومة المشجعة على الإنجاب.
- التمييز الجندري الناتج عن تركيز السلطات الصينية، منذ صعود شي، على العودة لقيم الأسرة الكلاسيكية في الأدبيات الشيوعية، وتعميق النظرة لتربية الأبناء ورعاية شؤون المنزل والأسرة باعتبارها المهمة الأولى والمقدسة للمرأة. وقد ارتبطت هذه الصورة برفض السيدات التعاطي مع إنهاء “سياسة الطفل الواحد” باعتباره خطوة تحولهن إلى “ماكينات تربية”. وكان ارتفاع معدلات الطلاق أحد نتائج التفاعلات الرافضة للتحولات الاجتماعية الناتجة عن تشجيع الإنجاب، إذ زادت نسبة الطلاق من 26% إلى 53% بين عامي 2013 و2020.
- الرفض السياسي والاجتماعي للإنجاب خارج إطار الزواج منذ عام 2019، رغم عدم تضمين ذلك بشكل رسمي في قانون “السكان وتنظيم الأسرة” و”قانون الزواج”. ويشكل ذلك أحد ثوابت الثقافة الاجتماعية في شرق آسيا، ومُحركاً آخر لتراجع معدلات الإنجاب مقارنةً بدول غير آسيوية ذات اقتصادات متقدمة. فعلى سبيل المثال، 70% من المواليد في أيسلندا حالياً هُم نتاج علاقات خارج الزواج، يُقابلها 40% في الولايات المتحدة. بينما تتراجع النسبة في اليابان إلى 2%، و1.5% في كوريا الجنوبية. وبدأ بعض الأقاليم الصينية، مثل سيشوان، في إعادة النظر في هذه السياسة عبر تقديم نفس الحوافز الاجتماعية والصحية والتعليمية للأطفال المولودين خارج إطار الزواج أيضاً.
تداعيات شيخوخة المجتمع على الصين
سيكون لوصول المجتمع الصيني إلى نقطة الذروة الديموغرافية تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية طويلة المدى.
التداعيات الاقتصادية
تُواجه الصين معضلتين جراء شيخوخة السكان، تتمثَّل الأولى في تراجُع أعداد العمالة الكافية لتنشيط حركة الاقتصاد واستعادة معدلات النمو المرتفعة مرة أخرى. على المدى البعيد، سينعكس ذلك في زيادة عدد كبار السن، وتوقُّع حدوث ضغط كبير على نظام الرعاية الصحية، ونظام معاشات التقاعد، كدوافع للمعضلة الثانية. ويعني هذا التطور تحوُّل التراجع في الإنتاجية الوطنية والضغط المتزايد على الميزانية العامة إلى مرض اقتصادي مُزمن ليس متصوراً الخروج منه خلال العقود الأربعة المقبلة.
وستُبنى التصورات المستقبلية على محدد جوهري يتمثَّل في قدرة الحزب الشيوعي على قيادة التسريع من التحوُّل من الاقتصاد المعتمد على التصنيع وقطاع الخدمات كثيفي العمالة، إلى الاقتصاد الرقمي والأخضر الذي قد يتَّسق مع التراجع في أعداد العمالة المدربة. ويُنتظر أن تُحدِث سرعة هذا التحوُّل تغيرات اجتماعية عميقة، تشبه التحوُّل من النموذج الاقتصادي الزراعي إلى التصنيع، تتصل بزيادة متوسط الدخل، وتركيز الاستثمارات الوطنية على الرعاية الصحية ورعاية كبار السن وتطوير نظام الرعاية الاجتماعية. أي أن الصين صار عليها التعامل مع عصر ما بعد التصنيع باعتباره واقعاً.
التداعيات الاجتماعية
يُمثِّل التوزيع الجغرافي غير العادل للثروة وشبكة الأمان الاجتماعي معضلة متجذرة. ومنذ تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، خصوصاً منذ عام 2000، توفرت لدى بيجين الفوائض المالية التي سمحت لها بالاستثمار في هذه الشبكة (الرعاية الصحية والاجتماعية ونظام معاشات التقاعد) بكثافة. ورغم ذلك، أدَّت سرعة التحولات الاقتصادية والديموغرافية إلى عدم كفاية هذه الاستثمارات.
واتَّسمت استثمارات الحكومات الصينية المتعاقبة بعدم المساواة بين المناطق الريفية والمراكز الحضرية الكبيرة، وكانت نتيجة ذلك سوء الرعاية الصحية وانعدام الرعاية الاجتماعية تقريباً، وقلَّة الدخول والمعاشات في الريف مقارنةً بالمدن.
ويُتوقع أن يؤدي التراجع الديموغرافي الحاد والسريع إلى تشكًّل شبكات حماية اجتماعية قائمة على اعتماد كبار السن، الذين ليس لدى أغلبهم أكثر من طفل واحد بسبب “سياسة الطفل الواحد”، على أبنائهم من النواحي الاقتصادية والصحية والاجتماعية، خصوصاً في المناطق النائية. وسيُعمِّق ذلك التناقضات الموجودة بالفعل في مستوى الدخول والمعيشة على أسس جغرافية إن لم تتمكن الحكومة من التدخل بشكل مكثف لتغيير الأمر الواقع على المديين القصير والمتوسط. وسينهي أيضاً نسل عائلات صينية بأكملها مع العزوف عن الإنجاب، وهي ظاهرة باتت تعرف في المجتمع الصيني باسم “الجيل الأخير”.
التداعيات السياسية
سيُمثل المحددان السابقان (الاقتصادي والاجتماعي) مقياسين شعبيين لشرعية الحزب الشيوعي في المستقبل. فقد بُنيت هذه الشرعية تاريخياً على ضمان استمرار النمو الاقتصادي، ما يعني أن الركود طويل المدى سيُمثِّل أحد المهددات المباشرة للأمن القومي في نظر النخبة الحاكمة. وسيقيس أيضاً قدرة الحكومة والحزب الحاكم على معالجة أزمة الرفاهية الاجتماعية على المدى الطويل عامل تأييد أو رفض شعبيين لبقاء الحزب في السلطة خلال العقود المقبلة.
كذلك، فإن التراجع الديموغرافي لا يعني فقط تراجعاً في مكانة الصين بوصفها أكثر الدول سكاناً لصالح الجارة الهند، وإنما أيضاً انكماشاً طويل الأجل في القوة الشاملة الصينية في نظر القوميين الصينيين الداعمين للحزب. ومن ثم، فإن مصادر الضغوط الداخلية على النخبة الحاكمة قد لا تتركز في صفوف المعارضة الصامتة، وإنما قد تشمل أيضاً البيئة الشعبية الحاضنة للحكم الشيوعي.
الحلول السهلة مقابل الحلول الصعبة
في عام 2021، أقرّ 44% من النساء و25% من الرجال في المدن الصينية بعدم رغبتهم في الزواج. وحفّز ذلك النقاش الحكومي الداخلي باتجاه التسريع من تنفيذ خطط تشجيع الإنجاب. لكن، إلى الآن، تبدو حلول الحكومة الصينية سهلة ومتوقعة وتركز على سياسات تحفيز الإنجاب وتتجنب الأفكار التي قد تتضمن كلفة سياسية مرتفعة.
أحد هذه الحلول تطبيق فترة “التهدئة” الممتدة لشهر لحث الأزواج على إعادة النظر في الطلاق بهدف تقليل نسب الطلاق المرتفعة. وقد جاءت النتيجة سريعة، إذ انخفضت معدلات الطلاق بشكل حاد من 3.7 مليون حالة في 2020 إلى 2.1 مليون حالة في 2021. لكن يظل هذا المعدل غير مرتبط بزيادة معدلات الزواج أو الإنجاب.
وتتضمن سياسات الحكومة الصينية أيضاً تقديم حوافز مادية، وضمانات اجتماعية، وزيادة فرص الأمهات لتلقي رعاية صحية واجتماعية، وإطالة مُدد إجازات الوضع، فضلاً عن السماح، في بعض الأقاليم، بحصول الأطفال المولودين خارج إطار الزواج على مكاسب مماثلة. ويتوقع محللون تحوُّل معاجلة أزمة عدد السكان إلى مستهدف سياسي تحت إشراف الرئيس شي مباشرة. وسيُنتج ذلك تلقائياً ديناميات وظيفية تجعل الوصول إلى هدف 1.5 طفلاً لكل سيدة شرطاً للترقي بين مسؤولي الأقاليم المحلية، في تكرار لخطط حقبة “سياسة الواحد”.
وهذا النوع من السياسات ليس جديداً على منطقة شرق آسيا التي تعاني من معضلات ديموغرافية عنيفة. فقد سبق أن طُبِّقَت في دول أخرى مجاورة على مدار العقدين الماضيين، لكنها لم تنتج الظروف الملائمة لاستقرار الحالة الديموغرافية في المنطقة أو تشجيع السكان المحللين على زيادة الإنجاب.
وثمة مجموعة أخرى من السياسات الأكثر فاعلية، لكنها تحمل في نفس الوقت مخاطر اجتماعية وسياسية. أول هذه السياسات رفع سن التقاعد من مستوياته المتدنية حالياً التي أُقرت في بداية خمسينيات القرن الماضي. ويبلغ سن التقاعد 55 عاماً للنساء (50 عاماً للنساء من الطبقة العمالية)، و60 عاماً للرجال. وأكدت وثائق حكومية احتمال رفع سن التقاعد بحلول عام 2025. لكن هذه الخطوة قد تفرز مقاومة واسعة النطاق من قبل الموظفين الحكوميين والعاملين في القطاع الخاص خصوصاً في المدن، وهو ما سيكون له تبعات سياسية على شعبية الحزب الشيوعي والرئيس شي.
ويرتبط هذا المحفز بإصلاح “نظام التوظيف الحضري”، وهو نظام معاشات التقاعد المشرف على أكثر من 400 مليون من العمال والمتقاعدين، عبر تحسين التغطية والاستدامة والمساواة والقضاء على الفساد المتمثل في التهرب من الدفع. ومنذ عام 2013، تُطبق الحكومة المركزية إصلاحات هيكلية في نظام معاشات التقاعد، لكنها لا تزال غير كافية، إذ لا يشمل النظام ملايين العمال المهاجرين الأصغر سناً.
ثانياً، المقاومة الشعبية لسد ثغرات الوظائف الشاغرة عبر تشجيع العمالة الأجنبية للهجرة للصين. وأصبحت هذه الأداة شائعة في اقتصادات شرق آسيا المتقدمة مع تراجع مردود السياسات المشجعة على الإنجاب. فخلال العقود الثلاثة الماضية، شهدت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان زيادة في نسبة العمال الأجانب، ضمن برامج توظيف قصيرة الأجل وغير مؤهلة للحصول على الجنسية، من إجمالي عدد السكان حيث وصلوا إلى 2-4%.
واعتمدت الصين خلال العقود الأربعة الماضية على الهجرة الداخلية من المناطق الريفية للمدن. ويُسجَّل المهاجرون باعتبارهم من الريف حتى لو كانوا من مواليد المدينة نتيجة صعوبة إدخال تغييرات على نظام تسجيل الأسرة المحدد لطبيعة العمالة في الصين. ويترتب على ذلك ظهور فوارق شاسعة في مستوى الرواتب والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية ومستوى المعيشة بين العمال. لكن حركة الهجرة الداخلية وصلت إلى قمتها بالتزامن مع ارتفاع مستوى متوسط الأعمار بين المهاجرين الداخليين من 34 عاماً في 2008 إلى 42 عاماً في 2021.
خلاصة واستنتاجات
فقدت الصين هذا العام، ولأول مرة منذ قرون عديدة، مكانتها كأكثر الدول سكاناً في العالم. ويُتوقَّع أن يصبح هذا التطور نقطة تحوُّل مركزية في البنية الديموغرافية والاجتماعية ومسار التنمية الاقتصادية الصينية على المدى الطويل.
وتُواجِه القيادة الصينية هذه الأزمة الهيكلية، التي قد تكون لها تبعات سياسية أيضاً، بحزمة إجراءات تقليدية داعمة للتشجيع على الإنجاب، وهي سياسات تبنّتها اقتصادات متقدمة أخرى في منطقة شرق آسيا ولم تُقدِّم مردوداً كبيراً. ومن ثمّ، سيكون على بيجين تغيير هذا المسار الهبوطي عبر إصلاح نظام التقاعد، وتشجيع الهجرة الخارجية، والاستثمار السريع في أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية، خصوصاً لكبار السن.
.
رابط المصدر: