وسط الأزمة التي تعيشها البلاد، سياسياً واقتصادياً، تعيش تونس حالة ترقُّب لما ستؤول إليه مبادرة «الحوار الوطني»، التي أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل وثلاث منظمات مدنية أخرى عن إعدادها في وقت سابق، كي تُشكِّل أرضيةً شاملةً للخروج من الأزمة القائمة. وعلى رغم تأخر صدور الوثيقة النهائية للمبادرة، فإن بعض ملامحها بدأ يظهر إلى العلن، وسط شكوك تجاه مدى قبولها من طرف الرئيس قيس سعيّد.
تُسلِّط هذه الورقة الضوء على السياق الذي دفع نحو هذه المبادرة، وتُحلِّل خطوطها العريضة، وصولاً إلى رسم السيناريوهات المستقبلية المتوقعة لها.
سياق طرح المبادرة وخطوطها العريضة
يقود الاتحاد العام للشغل، المركزية النقابية الأكثر نفوذاً في البلاد، قطار هذه المبادرة وإلى جانبه ثلاث منظمات مدنية لها وزن اجتماعي وسياسي مهم، هي: عمادة المحامين، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وعلى رغم التأييد الذي أبداه اتحاد الشغل تجاه الرئيس سعيد بعد حلِّه للبرلمان وإقالته للحكومة في 25 يوليو 2021، فإنه بدأ منذ ديسمبر 2021 في الإفصاح عن تحفُّظه على النهج السياسي للرئيس، وتحديداً عقب إعلان سعيّد في 13 ديسمبر عن خريطة طريق المرحلة الانتقالية؛ إذ أظهر الاتحاد موقفاً مُعارِضاً لقرار الرئيس التوجه لإجراء تعديلات دستورية جوهرية بشكل منفرد. وأخذت حالة المعارضة بعدها مساراً أكثر تعقيداً، حتى لحظة الانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر الماضي، لترفع منسوب التوتر في العلاقة بين الطرفين، حيث وقفت القيادة النقابية على ضعف الشرعية الشعبية للمشروع السياسي للرئيس سعيد، ومن ثمّ دعا الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبّوبي، الرئاسة التونسية إلى “حوار جدي وليس صورياً”، مُشدِّداً على أن “الهروب إلى الأمام والمغامرات غير المحسوبة لن تحل أزمة البلاد”. وقد تزامن ذلك مع إقرار الموازنة العامة للعام 2023 التي رفضها الاتحاد، بسبب حصر مصادر التمويل للميزانية في القروض الخارجية ورفع الضرائب.
ومنذ مطلع العام الجاري (2023) شرع الاتحاد في بحث طبيعة مبادرة حوار وطني، دعا إليها منظمات مدنية. لكن هذه المبادرة لم تظهر في صيغتها النهائية حتى اليوم، رغم الإعلانات المتكررة عن قرب ظهورها. فقد جرى الحديث عن إقرارها نهائياً بعد عيد الفطر، ثم عاد الأمين العام للاتحاد في الأول من مايو بمناسبة عيد العمال، وأعلن عن “عزمه عرض مبادرة على الرئيس قيس سعيد”. كما أكد بسام الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن “المبادرة شبه جاهزة، وننتظر التوقيت المناسب للإعلان عنها”. وبحسب الطريفي، فإن الخطوط الكبرى للمبادرة تتمثل أساساً في “تنقية المناخ السياسي بشكل عاجل عبر تشكيل فريق حكومي جديد، وإلغاء المرسوم 54 (قانون الجرائم الإلكترونية)، وتشكيل المحكمة الدستورية، وإنهاء مهام هيئة الانتخابات واستبدالها بهيئة مستقلة، والذهاب إلى انتخابات رئاسية في 2024، إلى جانب إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإيقاف المحاكمات ضد الصحافيين والمدونين”.
في المقابل، كرَّر الرئيس التونسي موقفه الثابت بأن البلاد لا تحتاج حواراً. وردّ بوضوح على المبادرة قبل صدورها النهائي في 6 أبريل الماضي بالقول: “لا حاجة للحوار طالما أن هناك برلماناً، وذلك بمناسبة لماذا انتخبنا برلمانا إذاً؟ وعمّ سنتحاور؟ الحوار يجرى في البرلمان، وهي مهمة المشرّع المتمثلة في المصادقة على مشاريع القوانين”.
ومن الواضح أن الطرفين (الرئيس سعيّد وأصحاب المبادرة) ينطلقان من أرضية مختلفة لتشخيص الواقع التونسي. فمن جهة، يعتبر اتحاد الشغل والمنظمات المدنية وأحزاب المعارضة أن البلاد تعيش أزمةً مركبةً سياسية واقتصادية، وأن المشكلات الاقتصادية القائمة جذرها الأصلي هو الأزمة السياسية وانفراد الرئيس بالسلطة. وفي المقابل لا يرى الرئيس سعيد أن البلاد تعيش أزمة سياسية، في ظل وجود ما يسميه “مؤسسات مُنتخبة”، فيما ينطلق تشخصيه للأزمة الاقتصادية من تحميل المسؤولية فيها للذين حكموا البلاد طيلة السنوات العشر الماضية، وتحديداً حركة النهضة الإسلامية وحلفائها. أخذاً في الاعتبار أن العقيدة السياسية للرئيس، تقوم على تقسيم سياسي يُدرِج القطاع الأوسع من المعارضة ضمن “النخبة الفاسدة”، ولذلك سيكون من الصعب أن يتنازل سعيّد للجلوس والحوار مع هؤلاء، وهو النهج السياسي الذي سار عليه على الأقل منذ قرارات 25 يوليو 2021، ولا يبدو أنه في وارد أن يغيره.
هذا التعارُض الجذري في التشخيص، يجعل من توافر الحد الأدنى لإمكانية وجود المبادرة ضعيفاً، حيث تحتاج أي مبادرة للحوار على الأقل إلى إقرار جميع الأطراف بوجود أزمة كي يُصار إلى حلها أو مناقشة حلها ضمن مبادرة للحوار. لذلك فإن رفض الرئيس سعيد الحديث أساساً عن وجود أزمة سياسية تحتاج إلى حوار يُشكِّل عاملاً لاعتبار المبادرة مرفوضة شكلاً دون حتى الدخول في نقاش بنودها، أو مدى فشلها أو نجاحها.
ومن حيث المضمون، يبدو من خلال الخطوط الكبرى التي قدَّمها القائمون على المبادرة، أن بنودها الأساسية تتجه نحو كسر احتكار السلطات من طرف الرئيس سعيّد، وفرض نوع من التوازن السياسي في البلاد، وذلك من خلال تغيير الحكومة وإلغاء قانون الجرائم الإلكترونية، الذي يُنظر إليه بوصفه أداةً في يد الحكومة لمعاقبة المعارضين، وكذلك إعادة تشكيل الهيئة العليا للانتخابات على أساس مستقل بعيداً عن التعيينات التي فرضها الرئيس، وتنصيب المحكمة الدستورية، التي يمكن من خلالها الطعن في قرارات الرئيس والحكومة، والأهم هو الذهاب إلى انتخابات رئاسية العام المقبل يمكن أن تكون حاسمةً بالنسبة للرئيس سعيّد، إما نحو تغيير جديد على رأس السلطة، أو تثبيت شرعيته الشعبية.
لذلك، فإن توجه المبادرة نحو التقليص من سلطة الرئيس يمكن أن يكون سبباً إضافياً لرفضها من طرفه. إضافة إلى مسألة أخرى تتعلق بالشكل، حيث تصدر هذه المبادرة عن أربع منظمات مدنية، ثلاثة منها على الأقل، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة حقوق الإنسان والمنتدى الاجتماعي والاقتصادي، ما فتئت تُعبِّر عن مواقف مُعارضة بشكل واضح لسياسات الرئيس سعيّد الاقتصادية، وفيما يتعلق بالحريات، وهذا ما سيجعل إمكانية قيامها بدور الوسيط في الحوار، أمراً صعباً.
السيناريوهات المحتملة
مع أن سوابق الرئيس قيس سعيّد في رفض الحوار الوطني، كثيرة، وتُعبِّر عن ثبات واضح، إلا أن عمق الأزمة التي تعيشها تونس، في ظل توتر علاقتها الدولية مع واشنطن، وتأخُّر مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض يسد عجز الموازنة العامة، يمكن أن يكون دافعاً لاستغلال المبادرة للخروج الأزمة أو تقاسُم أعبائها مع قطاع من المعارضة السياسية والمدنية. لذلك، فإن مصير هذه المبادرة يتأرجح بين سيناريوهين محتملين:
1. سيناريو النجاح؛ ويفترض هذا السيناريو نجاح القوى التي تقف خلف المبادرة في إقناع الرئيس قيس سعيد بوجاهة الحوار وضرورته لحلّ الأزمة، باعتبار أن قناعات الرئيس المسبقة تمثل العقبة الأبرز أمام أصحاب المبادرة، وقد يمهد ذلك إلى نجاح اتحاد الشغل والقوى الأخرى في صياغة مخرجات عملية للمبادرة من خلال تقديم التنازلات من طرفي السلطة والمعارضة. ومع أن هذا السيناريو لا يبدو مستحيلاً، لكن إمكانية حصوله تبقى ضعيفة، لأن ما من مؤشرات تدل على أن الرئيس سعيّد في وارد الاقتناع بنجاعة أي حوار أصلاً.
2. سيناريو الفشلّ؛ وهو السيناريو الأكثر احتمالاً، إذ من المتوقع أن يرفض الرئيس قيس سعيّد المبادرة، من حيث المبدأ وحتى من دون الدخول في نقاش مضمونها السياسي. لكن تداعيات هذا السيناريو قد تدفع الاتحاد العام التونسي للشغل وبقية المنظمات المدنية والاجتماعية، ذات الوزن والتمثيل المُعتَبرينِ، في اتجاه معسكر المعارضة الجذرية لنظام الرئيس سعيّد. وبالتالي سيكون ذلك في صالح المعارضة السياسية الحزبية، التي وإن قبلت من حيث المبدأ المبادرة والحوار، إلا أنها تعتقد أن الرئيس سعيّد لا يمكن أن يكون طرفاً في أي حوار.
وغالباً، فإن توجه المركزية النقابية نحو مزيد من المعارضة قد يُشكِّل عبئاً إضافياً على الرئيس سعيّد، خاصة أنه في حاجة لدعم النقابات العمالية لمسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وفي تطبيق برنامج “الإصلاح الاقتصادي” الذي طرحته الحكومة. إضافة إلى أن فكرة الرفض ستجعل الرئيس يظهر على المستوى الدولي، لاسيما بالنسبة للقوى الغربية والولايات المتحدة تحديداً، على أنه عقبة أمام حلّ الأزمة القائمة، وبالتالي فإن هذه القوى قد تزيد مستقبلاً من درجة ضغطها على النظام، سياسياً واقتصادياً.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/scenario/mubadarat-alhiwar-alwatani-wafaq-hal-azmat-tunis