بلال وهاب
في الثاني من أذار/ مارس، تنحى رئيس الوزراء العراقي المكلف محمد توفيق علاوي بعد عجزه عن الحصول على الدعم البرلماني الكافي لحكومته المقترحة، مما أدّى إلى بدء [التوقيتات] الدستورية بالتحرك بالنسبة لرئيس الجمهورية برهم صالح الذي أمامه 15 يوماً لتكليف مرشح آخر. وتنتهي هذه المهلة في 17 أذار/ مارس، وقد يتعين إعادة تحديد مهلة أخرى إذا تعثرت محاولة تشكيل الحكومة المقبلة أيضاً.
ومع ذلك، فإن إطالة العملية أكثر وسط استمرار انتهاج سياسة المحسوبية سيكون أمراً خطيراً في ضوء التحديات المتعددة والهائلة التي تواجهها البلاد – مسار مرتبك قد يؤدي إلى استئناف الاحتجاجات الجماهيرية بسرعة – بدءاً من ازدياد تفشي فيروس كورونا في العراق والدول المجاورة؛ وتجدد الأعمال العدائية العسكرية بين القوات الأمريكية والميليشيات الموالية لإيران؛ وصولاً إلى الإعسار المالي الذي يلوح في الأفق بسبب تدهور سوق النفط. ووفقاً للخبير المالي المتمرس أحمد الطبقجلي، فإن كل انخفاض للدولار الواحد في متوسط سعر النفط يكلّف العراق خسارة إيرادات سنوية بقيمة 1.5 مليار دولار – وهو رقم يبعث على الذهول نظراً لأن سعر خام برنت انخفض للتو من 68 دولاراً للبرميل إلى 36 دولاراً.
لماذا فشل علاوي؟
تشير عدم قدرة علاوي على تشكيل حكومة إلى أن النظام السياسي القائم على تقاسم المناصب العامة والفوائد (“المحاصصة”) لا يزال مطبقاً. وعلى الرغم من وعده بتجنب عِرفْ الترشيحات الحزبية وتشكيل حكومة تكنوقراطية، إلا أنه اعتمد السرية والمجابهة خلال مفاوضاته، وهو أمر اعتبره خصومه نابعاً من إبرامه اتفاقاً مع القيادي الشيعي مقتدى الصدر. وفي النهاية، أبعد علاوي الأكراد، ومعظم العرب السنّة، وعدداً كافياً من النواب الشيعة مما أدّى بالتالي إلى خسارته النصاب القانوني. وربما قد تحسب الأحزاب الكردية والسنية أنه باستطاعتها انتظار التوصل إلى ترتيب أكثر مواتاة لها كونها محصنة ضد الاحتجاجات الشعبية التي ضغطت على الأحزاب الشيعية منذ تشرين الأول/ أكتوبر.
ومن الأمور التي لم تتغير أيضاً: سياسة التعطيل. ففي حين لا يملك أي حزب بمفرده القدرة على جمع ائتلاف حاكم، إلّا أن معظم الأحزاب الأصغر حجماً تتمتع بسلطة كافية لعرقلة مثل هذا الائتلاف. وحتى أن الميليشيات التي ليس لديها مقاعد في مجلس النواب تتمتع بهذا التأثير غير المتكافئ – على سبيل المثال، اعترضت جماعة «كتائب حزب الله» المصنفة على قائمة الإرهاب الأمريكية على ترشيح رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي لمنصب رئيس الوزراء. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة لأي مرشح سيتمّ تكليفه بعد علاوي، ولقدرة الحكومة المشكّلة على التعامل مع هذا العدد من الأزمات في وقت واحد.
انتكاسات إيران تغيّر المشهد
على الرغم من المشاكل المستمرة الناجمة عن قضايا المحسوبية، والتدخل الإيراني، وعدم استعداد النخبة للاستماع إلى مطالب المحتجين، قد تكون هناك فرصة لإجراء عملية جديدة ومحسنة وحقيقية [لتشكيل حكومة] في العراق. ففشل علاوي هو صفعة لسلطة الصدر ولقدرة إيران على فرض نتائج والتوسط في إجماع عراقي حول إملاءاتها.
وهنا تجدر الملاحظة إلى أن اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني وشريكه زعيم «كتائب حزب الله» أبو مهدي المهندس، ترك أثراً سياسياً كبيراً. فلا توجد شخصية واحدة في العراق أو إيران قادرة حتى الآن على الاضطلاع بالدور المهم الذي كان يلعبه سليماني في السياسة الشيعية العراقية وهو بناء التوافق.
علاوة على ذلك، أثبت التحالف الجديد للصدر مع إيران أنه غير مجدٍ حتى الآن. ففي سعيه للسيطرة على السياسة العراقية في وقت يصوّر نفسه على أنه يترفع عن ذلك، لم ينجح الصدر سوى في استعداء خصومه. ثم ضاعف من أخطائه الكثيرة التي ارتكبها بإصداره أوامر إلى ميليشيا “سرايا السلام” التي يتزعمها، ليس فقط للتوقف عن حماية المحتجين بل للمشاركة في قمعهم [أيضاً]. وخلال الشهر الماضي، ووسط تصاعد عدد القتلى والجرحى، أدلى بتصريح قاسٍ لمراسل تلفزيوني عراقي كان يجري معه مقابلة قال فيه أن العنف هو وسيلته “لشد أذن أطفاله” الذين يحتاجون إلى التأديب.
ولكن لمجرد أن إيران تخسر لا يعني أن العراق ينتصر. فالسياسيون العراقيون يتمتعون بسجل حافل بالتفريط بإدارتهم، ويعملون في إطار هيكلية تحفيزية تميل نحو الاختلال الوظيفي والطائفية والصراع الداخلي بدلاً من الحوكمة الجيدة والسيادة. ولسنوات، عملت الفصائل والميليشيات العراقية المدينة لإيران بالسلطة والثروة، إما لمصلحة طهران أو لمصلحتها الخاصة – على حساب الجمهور إلى حد كبير. وثمة مجال لكي تتغيّر هذه الديناميكية إذا تغلب القوميون العراقيون ضمن الطبقة السياسية على مخاوفهم من إيران، تماماً كما تغلّب الآلاف من المحتجين الشباب.
هذا أمر بالغ الصعوبة في الوقت الحالي لأن ميليشيات الصدر والميليشيات المنافسة الأخرى كانت الجهة المستفيدة الأكبر من الفراغ الذي تركه المهندس، وليس القوميون. علاوة على ذلك، في حين أن تخفيف ونزع الشرعية عن نفوذ إيران والميليشيات تُعد أخباراً جيدة إذا تمّ توجيهها بشكل إيجابي، إلا أن الأزمات المالية والصحية الكامنة قد تزيد من الضغط على بغداد إلى درجة لا تطاق مع تفاقم الاقتتال الداخلي بين الميليشيات، الأمر الذي لن يساهم سوى في زيادة معاناة الشعب.
ماذا بعد؟
في الوقت الحالي، يبدو أن الهدف الرئيسي لإيران هو إنهاء الاحتجاجات العراقية في الوقت الذي تحدد فيه بديلين عن سليماني والمهندس وتحضيرهما. ويختلف الوضع اختلافاً صارخاً عما كان عليه قبل عامين فقط، عندما بدا أن الانتخابات البرلمانية لعام 2018 عززت نفوذ طهران على المدى الطويل من خلال تهميش الأحزاب السياسية التقليدية وتمكين الميليشيات الموالية لإيران. والآن وبعد مقتل سليماني وعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الصدر، قد تضطر طهران إلى عكس مسارها قليلاً وأن تحاول التودد إلى/استمالة أحزاب وسياسيين عراقيين آخرين يتمتعون بمكانة محلية. ويبرز بديلان قديمان – نوري المالكي وهادي العامري – كمرشحين رئيسيين.
في الموازاة، قد تساهم سياسة العراق المعرقلة في تمديد الوضع الراهن حيث يبقى عادل عبد المهدي المستضعف رئيس وزراء انتقالي رغم استقالته قبل أربعة أشهر. ومن المؤكد أن إيران والميليشيات مهتمون بإبقائه في منصبه من أجل الحفاظ على المكاسب الانتخابية التي حققوها في عام 2018. كما أن «حكومة إقليم كردستان» تفضل عودته، على أمل أن يضمن تدفقاً مستقراً لأموال الموازنة الاتحادية من بغداد.
غير أن الحفاظ على الوضع القائم أصبح أكثر صعوبة. فالأزمة الصحية الوشيكة ستؤدي إلى نزع الشرعية عن حكومة تعرضت أساساً لاحتجاجات مستمرة منذ شهور. ويمكن أن تُثبت أسعار النفط المنخفضة والتدفقات المالية المتقلصة بشكل مفاجئ أنها أكثر تأثيراً في تقويض قدرة النخبة على الصمود. ومن المرجح أن تؤدي مثل هذه الأزمات إلى الفوضى بدلاً من إرغام الجهات الفاعلة السياسية على التركيز على العمل الجماعي. وفي غياب أي تنظيم إيراني، قد تتسبب المنافسة بين الشيعة في حدوث مزيد من الخلافات مع تقلّص الإيرادات النفطية المتراجعة الحصص، في حين قد تصعّد الميليشيات أعمال العنف التي تقوم بها ضد المحتجين والخصوم الآخرين.
وقّدم الأسبوعان الماضيان لمحة تمهيدية عن هذه الفوضى المحتملة. فقد هلّل خصوم الصدر عندما أثبت علاوي عدم قدرته على تشكيل حكومة، وسرعان ما طلب مسؤول «كتائب حزب الله» ابو علي العسكري من رجل الدين الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني أن يمنح موافقته على إعادة عبد المهدي كرئيس وزراء مؤقت. ورداً على ذلك، حذر الصدر من أنه سيعيد إحياء نشاط كتائب «جيش المهدي» السيئة السمعة. وفي غضون ساعات من إعلان علاوي، أُطلِقت صواريخ على “المنطقة الدولية” [الخضراء] في بغداد. وكان الهدف غير واضح – سفارة الولايات المتحدة أم مقر الحكومة العراقية؟ ولم يسهم هجوم 11 أذار/ مارس الذي أودى بحياة موظفين أمريكيين وبريطانيين في معسكر التاجي سوى في مفاقمة الوضع.
ولتجنب مثل هذه التقلبات والمضي قدماً، ستحتاج الحكومة إلى رئيس وزراء موثوق يمكنه الاستفادة من النجاحات الأخيرة مع خفض سقف التوقعات حول ما يمكن القيام به في فترة الأزمات المتعددة. وكانت حركة الاحتجاجات قد أرغمت عبد المهدي على الاستقالة وخلقت زخماً كبيراً باتجاه إجراء انتخابات مبكرة. وبالتالي، بدلاً من محاولة تفكيك نظام المحسوبية على الفور، من الأفضل استخدام الوسائل للتصرف باستقلالية من أجل استحداث مساحة آمنة لإجراء انتخابات عادلة. ومن شأن هذه الخطوة – بالإضافة إلى إدارة الأزمات – أن تكون المهمة الرئيسية للحكومة المقبلة.
ولا يمكن إقناع المحتجين [بإخلاء الساحات] والعودة إلى ديارهم سوى من قبل مرشح قومي عراقي قوي. وعندئذ، سيحتاج رئيس الوزراء الجديد إلى الشروع في المهام الصعبة المتمثلة في ضمان مساحة يمكن خلالها للمحتجين ترجمة مطالبهم إلى برامج سياسية، وإبقاء الميليشيات تحت السيطرة، وتمرير قانون انتخابات جديد يضمن المساءلة في أوساط المسؤولين المنتخبين، ووضع أساس لعملية موثوقة تجلب المتورطين في أعمال العنف ضد المحتجين أمام العدالة.
دور الولايات المتحدة
كان القسم الأكبر من المقاربة الأخيرة التي انتهجتها واشنطن تجاه العراق عبارة عن حقيبة مختلطة من العصي، شملت شن هجمات بطائرات بدون طيار استهدفت جماعات محددة وفرض عقوبات إضافية. وقد وضع المسؤولون الأمريكيون العبء على قادة العراق بشكل مباشر لضمان عملية شفافة لتشكيل حكومة من دون تدخل أي جهة خارجية. وحتى الآن، ردعت هذه المقاربة السياسيين في بغداد عن اتخاذ خيارات كارثية، ولكنها لم تدفعهم نحو اعتماد سياسة بناءة. وبالتالي، يتعيّن على واشنطن النظر في وسائل إضافية لتحصين الوسائل للتصرف باستقلالية في بغداد.
ومن بين الخطوات الأخرى التي يجب أن تكون على رأس جدول الأعمال هو إجراء تستطيع الولايات المتحدة القيام به بصورة فعالة عندما تركز عليه بشكل كاف وهو: حشد الدعم الدولي لإجراء انتخابات عراقية موثوقة. وتبقى “بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق” (“يونامي”) قناة شرعية وفعالة لمساعدة بغداد على إصلاح قانونها الانتخابي، وإجراء تقسيم جديد مناسب للدوائر الانتخابية، وتنظيم عملية إشراف دولية. ولتفادي المزيد من خيبات الأمل، من الأهمية بمكان تحسين الأمن وزيادة المساحة السياسية الحرة من الآن وحتى موعد الانتخابات المقبلة.
رابط المصدر: