ترجمة: ابراهيم قنبر
تشيلي بلدٌ غنيٌّ ومع ذلك فإن خصخصة القطاعات الرئيسية أدّى إلى استمرار الهوّة التي أثّرت – نتيجة انعدام المساواة – على الطبقة الوسطى في المجتمع.
تشيلي حسبما صوّرها رئيسها سيباستيان بينيرا مؤخّرًا تبدو كواحةٍ من الاستقرار، ذلك في الوقت الذي كانت فيه أمريكا اللاتينية تغلي، الآن تعاني تشيلي منذ منتصف تشرين الأول/أكتوبر لموجة أعمال شغبٍ عفويّة حركتها بشكلٍ واضح التباينات الاجتماعية السحيقة، ناهيك عن انفصال القادة السياسيين عن الواقع الذي تعيشه البلاد.
مثل هذا السيناريو منتشرٌ الآن في عدّة نقاطٍ في العالم كالإكوادور ولبنان والعراق، وكذلك فرنسا ليست بمنأى عمّا يحدث في الكوكب (السترات الصفراء)، كلّ ما يحصل في تلك المناطق ليس أكثر من الوضع في بريطانيا العظمى حيث يترجِم خروجها من الاتحاد الأوربي سلميًّا تذمّرًا اجتماعيًّا عميقًا.
لكن السياق التشيلي أكثر وضوحًا ومحدّد بشكلٍ كبير: الليبرالية المتطرّفة التي تسيطر على الاقتصاد والمجتمع لم تُوضع في موقعِ تساؤلٍ منذ نهاية دكتاتوريّة بينوشيه (1973-1990).
لقد أدّت خصخصة القطاعات الرئيسيّة مثل الصحة والتعليم والمياه والنقل إلى توليد وإطالة أمد الفجوة التي تعاني منها الطبقات الوسطى.
ذلك أنّ تسديدات التأمين الصحي الخاص ضئيلةٌ للغاية وتستفيد أقلية صغيرة جدًّا من التشيليين من المستشفيات الخاصّة عالية الجودة، كما يُثقل كاهل الطلاب بالديون لعقودٍ لتمويل دراساتهم في الجامعات الخاصّة، ويجمع نظام المعاشات المموّلة بين المساهمات الباهظة والمعاشات التقاعديّة المتأخّرة.
حفلات الأواني مستمرّة وبشكل يومي:
في السنوات الأخيرة شجبت الحركات الاجتماعية هذا الوضع، ولكن أعمال الشغب الحاليّة أخذت شكلًا وحجمًا لم يسبق له مثيل منذ نهاية الدكتاتورية في البلاد.
كانت شرارة هذه الأحداث زيادة سعر تذكرة المترو في سانتياغو من800 إلى 830 بيزو (0.98 إلى 1.02 دولار) وهو وسيلة النقل الحيوية في مدينةٍ ضخمة يبلغ عدد سكانها 7.6 مليون نسمة.
كما وأنّ إلغاء هذه الزيادة من قبل الحكومة لم يمنع الاحتجاجات، فقد استمرّت وأخذت زخمًا أكبر وازدادت التجمعات واستمرّت حفلات الأواني وبشكلٍ يومي.
تمّ استخدام الجيش في محاولةٍ لقمع الاحتجاجات، فقام بدورياتٍ في الشوارع الرئيسية لأول مرةٍ منذ سقوط بينوشيه، ولم يفلح القمع الذي مارسه الجيش ولا اللجوء إلى العنف إلا في تأجيج الغضب المشتعل أصلًا.
في مواجهة إشعال الحرائق وعمليات النهب تمّ إعلان حالة الطوارئ في العاصمة وفي تسعٍ من المناطق الستَّ عشرة في البلاد وتمّ كذلك فرض حظر للتجوال، وتوفي خمسة عشر شخصًا بعضهم بنيران الشرطة وآخرون بسبب الحرائق أو أثناء نهب مراكز التسوّق، كما تمّ إلقاء القبض على أكثر من 2600 شخص.
بدوره أعلن الرئيس بينيرا _69 عامًا وتمّ انتخابه في أواخر عام 2017 والذي سبق أن كان في السلطة بين عامي 2010 و 2014_ سلسلةً من الإجراءات الاجتماعية، منها رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 20%، واعترف ب”عدم وجود رؤية” وطلب “العفو”.
لكن الرئيس الملياردير يُجسّد النظام وكذلك يمثّل نسبة ال1% من السكّان الذين يستحوذون على 25- 30% من الثروة، فضلًا عن أنّه حصل على ثروته خلال عهد الدكتاتورية، ويُنظر إليه أنه المدافع عن الإدارة الخاصّة الواسعة للخدمات الأساسية التي أدّت إلى الافتقار إلى شبكات الأمان الاجتماعي وتشريعات العمل، والتي لم يتم إصلاحها إلا قليلًا منذ عهد بينوشيه ممّا أدّى إلى استمرار الهشاشة في المجتمع التشيلي.
تصنّف تشيلي كرابع أكبر اقتصادات أمريكيا اللاتينية، وهي بلدٌ غنيّ يتميّز بمعدل نموّ يُحسد عليه (4% في عام 2018 ويُتوقّع أن يصل إلى 2.5% في هذا العام) كما يوجد لديها وسائل لسدّ الخرق الاجتماعي الذي يغذّي الضيق لدى السكان وبالتالي العنف.
يمكن للدولة تصحيح الحالة الاجتماعية المتعبة شريطة أن تلعب دورها في الحماية وأن تضمن جودة الخدمات العامّة.
لذلك يمكن القول أن الإصلاحات في تشيلي تنطوي على إحداث تغييراتٍ عميقةٍ في الدستور الليبرالي المتطرّف لعام 1980، والذي ظلّت أحكامه التي تحدّ من دور الدولة في الاقتصاد كما هي دونما تغيير منذ الدكتاتورية.
افتتاحية لوموند في 23 تشرين الأول أكتوبر 2019
رابط المصدر: