مع نهاية عام 2022 وبداية عام 2023 اتخذ النشاط العملياتي لتنظيم داعش منحىً تصاعديًا على الجغرافيا السورية، فعلى الرغم من الضربات الموجعة التي تكبدها التنظيم على المستوى القيادي خلال العام الفائت؛ إلا أنه حرص على بدء العام الجديد بتنفيذ سلسلة من الهجمات الدامية بشكل شبه يومي ضد أهداف عديدة على الأراضي السورية، بطريقة عكست تمسكه بِرهان أنه قادر على التمدد وإثبات حضوره القوى في الفضاءات الجغرافية المختلفة، خصوصًا في سوريا لما لها من أهمية عملية ورمزية بالنسبة للتنظيم، حتى وإن تم تضييق الخناق على تحركاته وتطويق مساحات انتشاره بفعل الجهود الأمنية التي اتجهت بوصلتها لاستهداف بؤر وخلايا وقادة داعش في معاقله المختلفة.
تصاعد ملحوظ
رغم الخسائر التي تكبدها تنظيم داعش في سوريا جراء الحملات الأمنية الموسعة ضد معاقله خصوصًا تلك التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من قوات التحالف الدولي ضد داعش، إلا أن نشاط التنظيم خلال الأسابيع القليلة الماضية يشي بأن داعش يحاول الانتقال من حالة الكمون العملياتي التي شهدها نشاطه إلى شن عمليات هجومية ضد أهداف مختلفة على الأراضي السورية والعراقية. ففي سوريا وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان قيام التنظيم خلال عام 2022 بشن أكثر من 100 هجوم أودت بحياة نحو 266 شخصًا لا سيما في مناطق البادية السورية ودير الزور وحمص والسويداء وحماة وحلب والرقة ومناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. وخلال الأسبوعين الأوائل لعام 2023 شن التنظيم نحو 14 هجوم في مناطق نفوذ قوات (قسد)، مما أدى إلى سقوط نحو 12 شخص من قوات (قسد) وقوى الأمن الداخلي (الأشايس).
وقد تنوعت التكتيكات التي استخدمها التنظيم ما بين تنفيذ الهجمات الخاطفة ونصب الكمائن والتفجيرات وزراعة الألغام، وكان من اللافت ظهور بعض المؤشرات على حرص داعش على التواجد في مناطق الجنوب السوري، وذلك بعد توقفه لمدة طويلة عن الإعلان عن تبني هجماته في هذه المنطقة؛ حيثُ تبنى التنظيم -بحسب إحصائيات صحيفة “النبأ” الداعشية- نحو 34 عملية استهداف خلال الأشهر السبعة الماضية في الجنوب السوري أودت بحياة نحو 51 شخصًا يتوزعون بين محافظات درعا والقنيطرة والسويداء.
واتصالًا بالسابق، لم يكن نمط “الإرهاب الطاقوي”، القائم على استهداف البنى التحتية للنفط والغاز، بعيدًا عن سلسلة الهجمات التي شنها داعش مؤخرًا على الأراضي السورية، حيثُ شن التنظيم في 30 ديسمبر 2022 هجومًا بصواريخ ورشاشات ضد ثلاث حافلات مما أسفر عن مقتل نحو 12 عاملًا إبان عودتهم من حقل تيم النفطي الواقع في ريف دور الزور الغربي. وفي السياق ذاته، أشارت بعض التقارير إلى أن التنظيم يُصعد من عملياته ضد المستثمرين في الآبار النفطية بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ويواصل الضغط عليهم للحصول على عائدات مالية، ومن يمتنع عن الدفع يتعرض لبطش التنظيم سواء بالتهديد بالقتل أو إحراق الحقل وإعطاب معداته، وبهذه الآلية يستطيع التنظيم زيادة موارده المالية في إطار “الحرب الاقتصادية” التي ينتهجها داعش بشكل عام ضد أعدائه.
دوافع عديدة
يكمن وراء تصعيد تنظيم داعش لعملياته في الأراضي السورية جُملة من الدوافع، يمكن الوقوف على أبرزها فيما يلي:
• الثأر لمقتل قادة التنظيم: يُمثل تكثيف هجمات داعش على الأراضي السورية والعراقية وباقي الفضاءات الجغرافية الأخرى المتواجد بها مفارزة المختلفة، ترجمة عملية لمساعي التنظيم للثأر والانتقام لمقتل قادته، حيثُ شهدت سوريا وحدها خلال عام 2022 العديد من العمليات التي تندرج تحت استراتيجية (قطع الرؤوس) والتي استهدفت قادة داعش سواء على مستوى القيادة المركزية أو الإدارات المختلفة داخل التنظيم، وبدأت هذه العمليات بمقتل الزعيم الأسبق للتنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في غارة أمريكية في 3 فبراير 2022 بمحافظة إدلب، مرورًا بمقتل زعيم الفرع السوري لداعش ماهر العقال في 12 يوليو 2022، ووصولًا إلى القضاء على الزعيم الثالث للتنظيم أبو الحسن الهاشمي القرشي في 30 نوفمبر 2022، فضلًا عن اعتقال عدد من مسئولي التخطيط داخل التنظيم. وقد دأب تنظيم داعش على تكثيف هجماته بعد مقتل قادته لتحقيق جملة من الأهداف في مقدمتها إثبات صموده وصلابته الهيكلية بعد القتل المُستهدف لزعمائه، وتوظيف تلك الهجمات في جهوده الدعائية عبر أجهزته الإعلامية المتطورة لضمان الحفاظ على معنويات عناصره وضمان الحصول على بيعتهم وولائهم للزعيم الجديد.
• الرد على الضربات التي يتلقاها التنظيم: يُمكن النظر إلى هجمات داعش الأخيرة على الجغرافيا السورية في إطار مساعي التنظيم لإثبات حضوره وتعزيز تواجده؛ ردًا على الضربات التي وجهتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية ضد معاقل ومخابئ وعناصر التنظيم، ففي نهاية ديسمبر الماضي أعلنت القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) حصيلة عملياتها وهجماتها ضد تنظيم داعش في سوريا خلال العام 2022؛ إذ نفذت 14 عملية أمريكية أحادية الجانب، و108 عمليات مشتركة أسفرت عن اعتقال 215 شخصًا ومقتل 466 آخرين من عناصر داعش. وكان من أبرز العمليات التي نُفذت ضد التنظيم خلال شهر يناير الجاري، ما يلي:
- أطلقت قوات قسد بالتعاون مع قوات التحالف الدولي عملية أمنية تحت مُسمى (صاعقة الجزيرة) ضد عناصر داعش استمرت ثمانية أيام خلال الفترة من (29 ديسمبر 2022 وحتى 6 يناير 2023)، وتمكنت من خلال عمليات التمشيط ومداهمة الأوكار الإرهابية من إلقاء القبض على 154 من العناصر المطلوبة للقضاء، من بينهم 102 من عناصر خلايا داعش و27 شخصًا يُشتبه في توفيرهم الدعم الدعائي واللوجيستي للتنظيم. كما نجحت العملية في إحباط هجمات للتنظيم كانت ستستهدف مدينتي الحسكة والقامشلي خلال احتفالات رأس السنة.
- نفذت قوات قسد في 5 يناير الجاري عملية أمنية بدعم جوي من قوات التحالف الدلي في مزرعة حطين بريف الرقة الشمالي؛ أسفرت عن اعتقال “أمير بيت مال التنظيم” سابقًا، حيثُ كان يعمل على تقديم الدعم لخلايا التنظيم لشن المزيد من الهجمات.
- أعلنت “سنتكوم” في 20 يناير الجاري، أن القوات الأمريكية والكردية اعتقلت أحد أعضاء تنظيم داعش في شرق سوريا في غارة بطائرة هليكوبتر، بتهمه المشاركة في مهام تجنيد وتسهيل وتخطيط العمليات لتنظيم داعش.
وعلى صعيد متصل، تتصاعد المخاوف من القنبلة الموقوتة داخل المخيمات التي تأوي عشرات الآلاف من عائلات وأسر الدواعش في شمال شرق سوريا لا سيما في مخيم الهول، حيث يسعى التنظيم عن كثب لإحداث التوترات داخل المخيم لتحرير عناصره المحتجزة هناك خصوصًا مع تراجع قدرته على الجنيد المحلي. وقد تصاعدت حدة هذه التوترات خلال عام 2022 الذي شهد عشرات جرائم القتل التي ارتكبتها العناصر الداعشية داخل مخيم الهول، حيثُ يقوم هؤلاء بالانتقام من المتعاونين مع الحراس، ويطردون منظمات الإغاثة، إلى جانب عمليات تهريب الأسلحة إلى المخيم بشكل منتظم، فضلًا عن هروب المئات وما يسمون بـ (أشبال الخلافة) إلى معسكرات التدريب الصحراوية التي يديرها التنظيم في محاولة لتعويض نزيفه البشري المتمخض عن الضربات الأمنية التي توجه ضد أفرعه المختلفة. وفي هذا الصدد حذّر تقرير للقيادة المركزية الأمريكية مؤخرًا من أن تنظيم داعش لدية “جيش منتظر” في سجون ومعسكرات النزوح بسوريا والعراق، حيث يوجد نحو 25 ألف طفل في مخيم الهول يمثلون وجهة رئيسية للتطرف الداعشي، ويشكلون الجيل القادم المحتمل لداعش.
• الاستثمار في الضربات العسكرية التركية ومحاولات التقارب بين أنقرة ودمشق: مثلت العملية العسكرية التركية التي انطلقت في الشمال السوري في 20 نوفمبر 2022 ضد حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا (بي كا كا) ووحدات قوات سوريا الديمقراطية، مُحفزًا لتنظيم داعش لشن المزيد من الهجمات على الأراضي السورية، مستغلًا انشغال قوات سوريا الديمقراطية في ذلك التوقيت بالرد على الضربات التركية، والتلويح التركي بشن هجوم بري في الشمال السوري.
وبعبارة أخرى، يستثمر داعش الضربات التركية التي تتجدد بين الحين والآخر في إيجاد فرصة سانحة لتكثيف نشاطه؛ إذ يترتب على تلك الضربات صرف تركيز قوات قسد عن جهودها لتطويق خطر التنظيم، وتقويض عمليات مكافحة الإرهاب المشتركة بينها وبين الولايات المتحدة، حيثُ تُعد قسد الذراع الأمريكية لإلحاق الهزيمة المكانية بتنظيم داعش، وحجز الزاوية في جهودها الرامية إلى تطويق خطره. وذلك نظرًا لما توفره تلك القوات من قدرات استخباراتية مكّنت الجانب الأمريكي مؤخرًا من توجيه عدة ضربات قاسمة لداعش، كان أبرزها مقتل الزعيم السابق للتنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، فوفقًا لتصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن حول عملية مقتل القرشي، لعبت قوات سوريا الديمقراطية دورًا بارزًا في إنجاح هذه العملية، هذا إلى جانب الدور تقوم به تلك القوات في إطلاق حملات أمنية موسعة على مستويات عديدة لملاحقة خلايا التنظيم وضبط الوضع الأمني في مخيم الهول.
وانطلاقًا من أهمية هذا الدور يؤدي شغل قوات قسد سواء بالرد على العمليات التركية التي تستهدف مواقعها، أو بالمباحثات الثلاثية الدائرة بين كل من سوريا وتركيا وروسيا، وما قد يتمخض عنها من احتمالات تقارب فعلي بين أنقرة ودمشق، إلى خلق حالة الفراغ الأمني التي قد تُشكل بيئة مواتية للتنظيم لتعزيز صفوفه ولملمة شتاته وتصعيد هجماته سواء داخل الجغرافيا السورية أو خارجها.
ختامًا، يُمكن القول إن هجمات داعش الأخيرة في سوريا تأتي في إطار مساعي التنظيم لإثبات صموده وبقائه وتماسكه أمام ما يتلقاه من ضربات بفعل الجهود الأمنية المحلية والدولية التي أفقدته الكثير من قادته. مستغلًا في ذلك الأوضاع المضطربة في سوريا، وحالة التوتر التي تنشب من فترة لأخرى بين الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة السورية والتي تخلق بيئة جيوسياسية مضطربة تؤثر بدورها على فاعلية جهود محاربة الإرهاب، ويجد التنظيم في ثناياها فرصة سانحة لتعزيز صفوفه وتكثيف نشاطه، حيث يقوم نهجه بشكل عام على الاستثمار في الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة لتحقيق أهدافه.
.
رابط المصدر: