مي صلاح
بعد فقدانه الأمل في الفوز برئاسة وزراء بريطانيا في انتخابات سبتمبر الماضي، عاد “ريشي سوناك” إلى المشهد السياسي البريطاني وبقوة بعد استقالة “ليز تراس” من منصبها عقب عدة أزمات وانتقادات أدت إلى تخليها عن منصبها وعدم قدرتها على الاستمرار، وبنفس السرعة يتم الاستقرار على سوناك والدفع به إلى قيادة حزب المحافظين البريطاني، ويعينه الملك تشارلز ثاني رئيس للوزراء في عهده بعد قبوله استقالة تراس، مطالبًا إياه بسرعة تشكيل حكومته الجديدة التي ستعمل على تصحيح المسارات السابقة التي أدت إلى زعزعة استقرار المملكة المتحدة وانهيارها اقتصاديًا.
انتخابات قيادية يحسمها حزب المحافظين
لم يكن الاستقرار على اسم “ريشي سوناك” بالأمر الصعب؛ فبعد رحيل تراس، تم طرح العديد من البدائل الفورية لمنصبها، وكان سوناك على رأس القائمة، يليه “بيني مودرنت”، فقد حصلا على أعلى نسبة من أصوات المحافظين في الانتخابات الأخيرة التي انتهت بفوز تراس، فضلًا عن اسم “بن والاس” وزير الدفاع، وصولًا إلى طرح اسم “بوريس جونسون” ليعود من جديد ويتحمل المسؤولية. وكل هذا وسط دعوات وضغوطات أخرى متزايدة من الأحزاب المعارضة لإجراء انتخابات عامة قد تقلب الموازين وتسحب بساط القيادة من تحت حزب المحافظين في الوقت الحالي.
وبإجراء اقتراع داخلي جديد لحزب المحافظين بعد ترشح اسمين هما “ريشي سوناك”، و” بيني موردنت”، وانسحاب جونسون من السباق، فاز سوناك -بعد أن حصل على 100 تزكية من نواب الحزب لدخول السباق- بدون برنامج انتخابي أو تصويت من الأعضاء. وبالنظر إلى حملته الانتخابية السابقة التي خسرها بفارق بسيط أمام تراس، نجد أنها ركزت على الحالة المتدهورة لاقتصاد المملكة المتحدة، وسبل الإنقاذ لمحاربة التضخم، وهاجم خلالها خطة تراس التي أدت إلى تراجع الاقتصاد البريطاني، مؤكدًا أنها خطة خيالية.
من هو “ريشي سوناك”؟
وصل رئيس الوزراء الجديد البالغ من العمر 42 عامًا إلى السلطة في مرحلة غير مسبوقة من عدم الاستقرار، وسيكون بذلك أصغر رئيس للحكومة البريطانية، وأول رئيس وزراء لبريطانيا في التاريخ من أصول آسيوية هندية، وخامس رئيس للحكومة منذ عام 2016، عندما اختارت البلاد الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبتلخيص أبرز المحطات في حياته السياسية نجد ما يلي:
● هاجرت عائلة سوناك إلى بريطانيا في الستينيات، وهي الفترة التي انتقل فيها كثيرون من مستعمرات بريطانية سابقة إلى البلاد لمساعدتها في إعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية.
● التحق بجامعة أكسفورد لدراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد، ودرس إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، ليعمل بعد ذلك محللًا ماليًا في بنك “جولدمان ساكس”، ويصبح شريكًا في اثنين من صناديق التحوط البريطانية، ويُعتقد أنه أغنى أعضاء البرلمان البريطاني.
● جذب الاهتمام على المستوى العام عندما كان وزيرًا للمالية في حكومة جونسون عام 2020، فقد وجد نفسه خلال أسابيع من تعيينه مضطرًا لإدارة اقتصاد بريطانيا العظمى خلال أزمة تفشي جائحة كورونا وبدء إجراءات الإغلاق، وقد أثبت ببراعة أنه يستحق هذا المنصب عندما أصدر برامج اقتصادية بدعم يصل إلى 350 مليار جنيه استرليني مكنت بريطانيا حينها من عبور الجائحة، محافظًا على الاقتصاد البريطاني من الانهيار، لترتفع شعبيته بعد ذلك بصورة كبيرة.
● كان سوناك من أوائل الغاضبين والمنقلبين على بوريس جونسون، فباستقالته وحده انهالت عشرات الاستقالات، وتم سحب الثقة من جونسون، وقد اتهم الكثيرون سوناك بالخيانة بعد هذا الانقلاب الذي انتهى بسقوط جونسون وإجراء انتخابات مبكرة لزعامة الحزب.
● تعرض سوناك للعديد من الانتقادات خلال حملته الانتخابية أمام تراس؛ فالكثيرون يرون أنه بسبب ثرائه لن يشعر أو يفهم الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها البريطانيون، وحتى الآن ومع تركيز خطته على الاقتصاد وحده، يستمر هذا الانتقاد في ملاحقته.
إصلاح الأخطاء الاقتصادية، ومعالجة الفوضى الحزبية
أصبح سوناك رئيسًا للحكومة في بلد يواجه بالفعل تحديات اقتصادية هائلة من غير الواضح إن كان ممكنًا التصدي لها وإعادة الاستقرار المالي والنقدي لبريطانيا بما يساعد في محاولة استعادة ثقة السوق من عدمه، وبتفنيد التحديات والأزمات التي تواجه رئيس الوزراء الجديد نجد ما يلي:
● التضخم والفائدة: فقد تخطى التضخم معدل الـ 10%، ومن المتوقع أن يصل إلى 15% ليصبح الأعلى بين دول مجموعة السبع، فيما لا تزال أسعار الطاقة مرتفعة وستواصل الارتفاع، فضلًا عن أسعار المواد الغذائية، وزيادة كلفة المعيشة على الأسر البريطانية نتيجة ارتفاع الأسعار، وسط مخاوف صريحة تتعلق بالركود وهبوط الإنفاق الاستثماري الذي يشكل القدر الأكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي البريطاني. ولهذا، سيضطر “بنك إنجلترا” إلى الاستمرار في تشديد السياسة النقدية برفع سعر الفائدة الأساسية وسحب السيولة ببيع ما لديه من سندات، وذلك يعني المزيد والمزيد من الضغط على الأسر البريطانية مع زيادة كبيرة في مدفوعات أقساط قروض الرهن العقاري التي تضر بأكثر من ثمانية ملايين أسرة بريطانية.
● الدين العام: ارتفاع التضخم والفائدة تقابله زيادة كبيرة في التزامات الحكومة بمدفوعات خدمة الدين العام، خاصة أنه وبالنظر إلى حجم الاقتراض الحكومي في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، نجد أنه ارتفع إلى نحو 81 مليار دولار، وستضطر الحكومة إلى مزيد من الاقتراض لتمويل العجز الناجم عن مدفوعات خدمة الدين، ومع استمرار الاضطراب في سوق السندات سيكون اقتراض الحكومة في الفترة المقبلة أعلى كلفة بكثير. ومن غير الواضح كيف سيمكن للحكومة الجديدة أن تستعيد ثقة الأسواق والمستثمرين الأجانب بما يخفض نسبة العائد على سندات الخزانة البريطانية لكسر الدائرة المفرغة لارتفاع حجم الدين العام ومدفوعات خدمته الشهرية.
ولهذا، سيتعين على سوناك أن يعمل بسرعة على تهدئة الأسواق التي اضطربت بسبب قرارات تراس الاقتصادية التي تراجعت عنها في آخر وقت قبل استقالتها، وسيتعين عليه أيضًا العمل بجهد كبير لاستعادة الثقة في السياسة البريطانية، وتحديدًا في حزب المحافظين وسياساته الاقتصادية، ولكنه في النهاية تحدث للجميع بصراحة ووضح مؤكدًا أن هناك قرارات صعبة قادمة لا مفر منها، وعلى الجميع تحملها.
وقد أعلن سوناك عن بقاء “جيريمي هانت”، وزير المالية الذي عينته تراس، والذي حاول أن يصلح سياساتها الخاطئة قبل استقالتها، عن طريق اتخاذ تدابير خفض نفقات كبيرة ومحاربة التضخم والركود، وأكد سوناك أن حكومته لن تترك للأجيال القادمة إرثًا من الديون كي يسددوها، متعهدًا بخفض الدين العام ووضعه على قائمة أولويات الحكومة الجديدة. ومن المعروف أن هذا الدين قد تراكم من قبل تراس في ظل قيادة جونسون وسوناك معًا للسياسة المالية والاقتصادية للحكومة التي كان جزءًا منها، ولهذا، يبدو أن سوناك كان يتحدث عن إرثه من الأخطاء وليس أخطاء تراس وحدها.
ولكن بالنظر إلى السياسة التي يريد سوناك وجيرمي اتباعها حاليًا وهي “التقشف“، فتدور في الأذهان تساؤلات تتعلق بالمصدر الذي ستحاول منه الحكومة توفير أموال لتخفيف عبء الدين العام الذي يقترب من نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، فمن المتوقع أن إلغاء سياسات تراس الخاطئة التي اقتضت خفض الديون ستؤدي إلى عدم زيادة الدين بنحو 72 مليار دولار كانت ستقترضها الحكومة لتمويل خفض الضرائب، ولكن تبقى هناك حزمة دعم فواتير الغاز والكهرباء التي ستكلف مبلغًا مماثلًا تقريبًا في ظل ارتفاع أسعار الطاقة ودخول فصل الشتاء.
ومن المتوقع أن يتخلى سوناك وجيرمي عن بعض بنود برنامج “جونسون”، والتي على أساسها فاز حزب المحافظين بالانتخابات عام 2019، والتي تعلقت بعدم المس بمعاشات التقاعد والبقاء على جبايتها ضريبيًا، وقد يتم تغييرات جذرية بهذا الملف، بالإضافة إلى توقعات أخرى بعدم زيادة معاشات التقاعد الحكومية بمعدلات توازي التضخم، وأن تكون الزيادة بمعدلات توازي زيادة الدخل، وبما أن معدلات التضخم ترتفع بشكل أعلى من زيادة الدخل، فعمليًا سيعني ذلك خفضًا لمعاشات التقاعد الحكومية.
كل ذلك، إضافة إلى الإبقاء على ضريبة القيمة المضافة والزيادة في مستقطعات التأمين الاجتماعي من الشركات والعاملين، وبالطبع ذلك لن يكون كافيًا لسد فجوة العجز وتخفيف عبء الدين، وبالتالي قد تلجأ الحكومة إلى إجراءات تقشف كبيرة لخفض الإنفاق العام عبر مطالبة الوزارات والإدارات بتدبير توفير في ميزانياتها بإلغاء بنود الإنفاق، وعلى رأسها وزارة الدفاع التي تطلب 3% من الموازنة العامة.
وفي النهاية، حل المشاكل الاقتصادية من قبل سوناك سيدفع به نحو مشاكل سياسية قد تؤثر على تقييم أدائه، وتضع الأسر البريطانية في وضع لا يجعلها تتحمل تكاليف المعيشة، فبالرغم من أن إصلاحاته ستعمل -ولو بنسبة قليلة- على وقف ارتفاع لتضخم، ولكنها في النهاية لن تؤثر على انخفاض الأسعار، بل هي فقط ستبطئ من ارتفاعها.
وعن فوضى حزب المحافظين والانقسامات بداخله، حذر سوناك أعضاء الحزب أنه يجب عليهم “الاتحاد أو الموت”، من أجل استعادة ثقة البريطانيين بهم مجددًا عقب الأزمات الأخيرة، في ظل تحقيق حزب العمال المعارض تقدمًا كبيرًا في استطلاعات الرأي حاليًا، ويخشى من أن يستمر هذا التقدم خلال عامين من الانتخابات العامة، خاصة بعد أن أعرب 62% من الناخبين عن رغبتهم في إجراء هذه الانتخابات قبل نهاية عام 2022، ويعلم حزب المحافظين أن هذا الخيار سيصب بلا شك في مصلحة حزب العمال، لكنهم قرروا الاتجاه للاقتراع الداخلي في الوقت الحالي لحفظ ماء وجه الحزب وما تبقى من شعبيته ووضع حد لحال الفوضى الداخلية التي يعيشها.
شكل الحكومة الجديدة
قيل عن حكومة تراس السابقة أنها تم اختيارها بناء على الولاء بدلًا من الإمكانيات، وكان مصيرها مشابهًا لمصير جميع الحكومات المختارة على هذا الأساس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، و”كواسي كوارتينج”، وزير المالية الذي أقالته تراس المثال البارز على اختياراتها، والذي ضحت به في النهاية لإنقاذ نفسها من الهجوم والانتقادات.
ويبدو أن ريشي سوناك يتعلم جيدًا من الأخطاء، فلن يكرر أشياء قد تؤدي به في نهاية المطاف إلى رحيله ووضعه في مرمى النيران، وسيعمل في النهاية على إنشاء مجلس وزراء يدعم أجندته على نطاق واسع، وقد يضم أيضًا شخصيات بارزة ارتبطت بجونسون وتراس، ولكنها في المكان المناسب، لتتشكل في النهاية حكومة مختارة بعناية مبنية على “الخبرة”.
فقد أبقى سوناك على “جيريمي هانت” كوزير للمالية، وعين حليفه المقرب “دومينيك راب” وزيرًا للعدل ونائبا لرئيس الوزراء، وأعاد وزارة الداخلية لـ “سويلا برافرمان” أول المستقيلين في عهد تراس، وحافظ سوناك على كل من “جيمس كليفرلي” وزيرًا للخارجية، و “بن والاس” وزيرًا للدفاع، وتم تعيين “نظيم الزهاوي” رئيسًا لحزب المحافظين، وأُعيد تعيين “بيني موردنت” زعيمة لمجلس العموم.
ماذا عن ملف الهجرة؟
وفيما يتعلق بالهجرة، يرى سوناك هذا الملف أنه “حالة طوارئ ثانية” في البلاد تقتضي المعالجة الفورية، وذلك بعد المشكلة الأولى وهي تراكم حالات انتظار تلقي العلاج في مرافق “الخدمات الصحية الوطنية”، وقد وضع خطة أسماها “مواجهة الهجرة غير الشرعية في بريطانيا” خلال حملته الانتخابية بالصيف الماضي، وقد أعرب عن تأييده للبرنامج المثير للجدل والمتمثل في إرسال المهاجرين الذين وصلوا بشكل غير قانوني إلى المملكة المتحدة إلى رواندا.
وبالرغم من أنه قد تم حظر هذا المشروع في المحكمة، وظهرت 4 طعون قانونية على صفقة روندا، وأدى النزاع القضائي أمام “المحكمة العليا” إلى نشر عديد من الوثائق الحكومية التي أظهرت أن وزارة الخارجية البريطانية والمفوض السامي للمملكة المتحدة في رواندا كانا قد نصحا بعدم عقد أي اتفاق مع كيغالي بسبب سجل حقوق الإنسان هناك ومزاعم الفساد، فإن سوناك يؤكد أن هذه السياسة برمتها سليمة فقط إذا تم تنفيذها بشكل صحيح.
وفي تلميح إلى نهج سياسي قائم على الاقتصاد، وضع سوناك اقتراحًا خطيًا قال فيه إنه سيجعل المساعدات والتجارة والتأشيرات “مشروطة” باستعداد الدول الأخرى لقبول عودة مواطنيها من طالبي اللجوء ومتجاوزي القانون، بالرغم من أن إجبار طالبي اللجوء على العودة إلى دولهم التي يرون أنهم معرضون فيها للخطر يعد انتهاكًا للقانون الدولي، ومن المرجح أن تقاوم حكومات الدول مثل هذه الشروط في الصفقات التجارية.
وأخيرًا، سيتعين على سوناك الفائز برئاسة الوزراء في أكثر العهود السياسية البريطانية اضطرابًا أن يمنح ضمانات للأسواق والمستثمرين لإعادة الثقة مجدداُ في الاقتصاد البريطاني، بالإضافة إلى العديد من الملفات المفتوحة التي تنتظر منه معالجتها، وسط مخاوف من أن يناله قسط من غضب الشعب غير الراضي دائمًا عن الأداء، ولا يفكر إلا بتكلفة المعيشة وارتفاع الأسعار، وقد يواجه حينها مصير ليز تراس ومن قبله جونسون، فهل يستطيع سوناك معالجة الأزمات السابقة جنبًا إلى جنب مع قيادة حزب المحافظين المفكك والدفع به إلى فوز جديد في الانتخابات القادمة؟
.
رابط المصدر: