تصعيد دراماتيكي: أوروبا تحظر استيراد النفط الروسي

بسنت جمال

 

تشهد أسواق الطاقة العالمية صدمات متلاحقة منذ قيام الحرب الأوكرانية، حيث تُعد الموارد الطاقوية أحد الأسلحة الجيوسياسية الرئيسية التي يستخدمها اللاعبون الرئيسيون في الحرب كالاتحاد الأوروبي وروسيا للضغط على بعضهما بعضًا. وفي تصعيد جديد لسلسلة العقوبات المتبادلة بين الطرفين، قرر الاتحاد الأوروبي فرض حظر على استيراد النفط الروسي عن طريق خفض واراداته بنحو 90% على مدار الأشهر الستة المقبلة.

وجاء هذا القرار عقب إيقاف شركة “غازبروم” الروسية إمدادات الغاز الطبيعي عن بولندا وهولندا وبلغاريا وفنلندا لرفضها سداد المدفوعات بالروبل مما يصعد أزمة الطاقة التي تمر بها أوروبا منذ نهاية العام الماضي بفعل نقص الإمدادات وارتفاع الطلب إلى مستويات ما قبل الجائحة، مع إعادة فتح الاقتصاد العالمي وانتشار لقاحات كورونا على مستوى العالم.

دوافع ومُحركات القرار

ينطبق الحظر الأوروبي على النفط الروسي الذي يتم تسليمه عن طريق البحر فقط مع إعفاء مؤقت للنفط الذي ينقله خط أنابيب “دروجبا” الروسي، الذي يمر عبر بولندا وألمانيا والمجر وسلوفاكيا والتشيك، ولهذا سوف تستمر بعض البلدان غير الساحلية في أوروبا الوسطى مثل المجر والتشيك وسلوفاكيا في استيراد النفط الروسي، في حين اتفقت ألمانيا وبولندا على وقف استخدام النفط من الفرع الشمالي لأحد أطول خطوط الأنابيب حول العالم، وتبين الخريطة الآتية مسار خط أنابيب النفط.

مسار خط أنابيب النفط

واستطاعت الدول الثلاث المذكورة أعلاه أن تحصل على إعفاء من قرار الحظر بسبب اعتمادها بشكل رئيسي على موسكو في تأمين إمداداتها من النفط، حيث استوردت سلوفاكيا نحو 96% من إجمالي احتياجاتها من النفط من روسيا خلال العام الماضي، فيما استوردت المجر والتشيك نحو 58% و50% على الترتيب.

ويمثل النفط الروسي الذي يتم تسليمه عن طريق البحر نحو ثلثي واردات الاتحاد الأوروبي من النفط. وبشكل عام، تعتبر الدول الأوروبية أكبر مشترٍ للخام الروسي، حيث تلقت نحو 138 مليون طن خلال عام 2020 من إجمالي صادرات روسيا البالغة حوالي 260 مليون طن، أي إن روسيا تُصدر نحو 53% من صادراتها النفطية لأوروبا، فيما تعتمد الأخيرة على الواردات الروسية بنسبة 29% فقط، يليها الولايات المتحدة والنرويج والسعودية والمملكة المتحدة، كما يُبين الشكل أدناه:

الشكل 1- موردو النفط الخام للدول الأوروبية خلال 2020 (%)

وبناء على البيانات والإحصائيات السابقة، يتبين أن القرار الأخير يحمل تبعات أشد قسوة على الجانب الروسي مقارنة بالجانب الأوروبي، حيث يعتمد الأخير على الأول بنحو 29% فقط في تأمين وارداته فيما يعتمد الأول على الأخير بحوالي 53% في بيع صادراته، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي لاتخاذ هذا القرار إلى جانب المُحركات الآتية:

• حرمان روسيا من تدفقات النقد الأجنبي: تحاول القارة الأوروبية أن تضيق الخناق على روسيا فيما يتعلق بمصادر النقد الأجنبي التي تعتقد أنها تستخدمها في تمويل حربها ضد أوكرانيا، حيث تشير التقديرات إلى أن عائدات مبيعات النفط والغاز الروسية تمثل حوالي 43% من الميزانية الروسية خلال الفترة التي تتراوح بين عامي 2011 و2020. وتدفع أوروبا نحو 450 مليون دولار يوميًا لشراء النفط الروسي، وحوالي 400 مليون دولار يوميًا لشراء الغاز الطبيعي، وفقًا للبيانات الصادرة عن مركز الأبحاث الأوروبي ” Bruegel”. وبالإضافة إلى ذلك، يستهدف الاتحاد الأوروبي الإضرار بالاقتصاد الروسي الذي يعتمد على صادرات الطاقة في تأمين العملات الأجنبية، ولا سيما أن حصة صناعة النفط والغاز في الاقتصاد الروسي تمثل حوالي 15% حتى عام 2020.

• التعويل على تحالف “أوبك+”: قرر الاتحاد الأوروبي حظر النفط الروسي في الوقت الذي أعلن فيه تحالف “أوبك +” عن زيادة أكبر مما كان متوقعا إنتاجها هذا الصيف، في محاولة للحد من ارتفاع أسعار الطاقة. وقرر التحالف زيادة إنتاج النفط بنحو 648 ألف برميل يوميًا مقارنة بنحو 432 ألف برميل يوميًا خلال الأشهر السابقة. وقد تكون الدول الأوروبية تحفزت لاتخاذ مثل هذا القرار بسبب احتمالية مساهمة ارتفاع إنتاج النفط في امتصاص الصدمات السعرية التي قد تترتب على حظر النفط الروسي مما سيقلل من حجم الإضرار الواقعة عليها.

ارتدادات ضاغطة

قد يترتب على حظر النفط الروسي تداعيات خطرة على كلٍ من الاقتصاد الأوروبي والروسي بداية من تضخم أسعار الطاقة، وفقدان موسكو لعائدات الطاقة مما قد يؤثر على قيمة عملتها، انتهاءً عند تغير مسار تجارة النفط في الأجل المتوسط والطويل، وهو ما يتبين من التحليل الآتي:

• ارتفاع أسعار الطاقة: عززت الخطوة الأوروبية المخاوف المتعلقة بحدوث مزيد من انحسار إمدادات الطاقة مما نتج عنه ارتفاع ملحوظ في أسعار خام برنت والخام الأمريكي حتى مع قرار “أوبك+” بزيادة الإنتاج حيث سجل خام برنت نحو 124.99 دولارًا للبرميل فيما بلغ سعر برميل الخام الأمريكي حوالي 118.41 دولارًا بحلول السادس من يونيو الجاري، وهو ما يُبينه الشكل الآتي:

الشكل 2- سعر الخام الأمريكي وخام برنت (دولار للبرميل)

ومن المقرر أن تترجم زيادة أسعار النفط إلى ارتفاع تكاليف الطاقة بشكل عام، مما يعني ارتفاعًا في معدلات التضخم الأوروبي وتفاقم أزمة الغذاء الأوروبية والعالمية مما قد يضغط في نهاية المطاف على البنك المركزي الأوروبي لتشديد سياساته النقدية من أجل مواجهة ارتفاع الأسعار، حيث توقع البنك اتباع مسار تدريجي ومستمر في رفع الفائدة عقب شهر سبتمبر، وذلك بعد قراراه بتثبيت الفائدة على عمليات إعادة التمويل الرئيسية والإقراض والإيداع دون تغيير.

ومن المتوقع أن يبلغ معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو نحو 8.1% خلال مايو 2022 ارتفاعًا من 7.4% في أبريل السابق، لتسجل الطاقة أعلى معدل سنوي في مايو عند 39.2% يليها الغذاء والمواد الكحولية عند مستويات تبلغ نحو 7.5%.

• الإضرار بالاقتصاد الروسي: تُعزز عائدات الطاقة ميزانية روسيا، مما يضيف إلى احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية التي يمكن أن تساعد روسيا في دعم قيمة الروبل والتعويض جزئيًا عن العقوبات الغربية التي جمدت احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية الموجودة خارج البلاد. وفي هذا السياق، قدرت وكالة “بلومبرج” خسائر روسيا من عائدات التصدير المفقودة بنحو 10 مليارات دولار سنويًا؛ إذ إن الحظر الأوروبي سيجبر موسكو على بيع خامها بخصم إلى آسيا حيث يتم تداوله بالفعل بسعر أقل بنحو 34 دولارًا للبرميل مقارنة مع سعر عقود برنت الآجلة.

وعلاوة على ذلك، انخفض الروبل مقابل كلٍ من الدولار واليورو خلال تعاملات الأسبوعين الماضيين ليسجل 60.91 روبل مقابل الدولار في السادس من يونيو، فيما سجلت العملة الروسية نحو 65.34 روبل مقابل اليورو، لترتفع بعد ذلك وتعوض القليل من خسائرها مسجلة نحو 57.62 مقابل الدولار، وحوالي 60.62 مقابل اليورو في الحادي عشر من يونيو الجاري.

• تغيير التدفقات التجارية: شهد العالم بالفعل تحولًا في تجارة النفط منذ بداية الحرب الأوكرانية حيث تراجعت صادرات روسيا القادمة إلى أوروبا بينما اشترت الدول الآسيوية كميات متزايدة من النفط الروسي، حيث ارتفعت إمدادات موسكو للهند خلال مارس إلى 310 آلاف برميل يوميًا، وصدرت حوالي 70.79 ألف برميل يوميًا للصين في حين انخفضت الإمدادات إلى أوروبا بمقدار 420 ألف برميل يوميًا إلى 1.4 مليون برميل يوميًا خلال الشهر نفسه.

ورغم ذلك فإن الدول الآسيوية لا تعتبر بديلًا واحدًا لواحد بالنسبة لروسيا، بسبب وجود حدود أمام مقدار النفط الروسي الذي يُمكن معالجته بواسطة مصافي التكرير في الهند، كما تهتم الصين بالحفاظ على تنوع إمدادات النفط وتجنب الاعتماد المفرط على دولة واحدة، مما يضع سقفًا لمشترياتها الروسية. وإلى جانب ذلك، قد تزداد الصعوبات المفروضة أمام الدول الآسيوية لشراء النفط الروسي في ظل العقوبات الأوروبية التي تحظر الشركات المحلية من تأمين الناقلات التي تحمل النفط الروسي في أي دولة حول العالم مما سيزيد من تكاليف شراء النفط القادم من موسكو.

وفي الختام، يتبين أن أوروبا لن تتوانى عن اتخاذ الخطوات اللازمة لتقويض قدرة روسيا على تمويل حربها ضد أوكرانيا، إلا أن تلك العقوبات لن تعيق موسكو عن تحقيق أهدافها حتى وإن كان ثمن ذلك خسارة بعض من عائداتها من النقد الأجنبي، حيث أثبتت التجارب التاريخية أن العقوبات الاقتصادية نادرًا ما حققت أهدافها المرجوة منها رغم تداعياتها السلبية على اقتصادات الدول المستهدفة بالعقوبات.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/19769/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M