على الرغم مما يبدو أن إيران قد تحقق مكاسب، ولو أن بعضها ظاهري، مما يحدث منذ أيام بعد إطلاق فصائل المقاومة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الجاري، فإن التطورات الحالية والحسابات الدولية المعقدة بشأن التعامل مع إيران، علاوة على مستقبل التصعيد في القطاع واحتمالات اتساع نطاق الحرب إقليميًا؛ قد تشير إلى أن إيران تبدو الآن في وضع لا تُحسَد عليه كثيرًا، وهو أمر يؤيده العديد من الأدلة الواقعية ليس أولها محاولة السياسيين الإيرانيين نفي أية صلة بين ما تقوم به الفصائل الفلسطينية وأي دعم من جانب إيران.
كيف تعاملت إيران مع “طوفان الأقصى”؟
منذ الساعات الأولى ليوم انطلاق عمليات “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الجاري، تجمع كثيرٌ من الإيرانيين في عدد لا بأس به من المحافظات شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا للتعبير عن دعمهم وسعادتهم بهذه العمليات. وقد رفع هؤلاء المتجمعون شعارات مؤيدة ليس فقط للعمليات، ولكن للمرشد الأعلى أيضًا علي خامنئي ولقائد “فيلق القدس” السابق، قاسم سليماني، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية بالقرب من مطار بغداد الدولي في 3 يناير 2020.
لقد بدت هذه التجمعات سريعة عند الحديث عن توقيت انطلاق “طوفان الأقصى”، ولكنها وبشكل ما قد بدت حدثًا داعمًا للنظام السياسي في طهران، ليس لأنها كانت تهتف للمرشد الأعلى فقط، ولكن لأنها عبّرت عن “دعم غير مباشر” للسياسة الإيرانية الخارجية في الإقليم من حيث دعم الفصائل في المنطقة ومنها الفصائل الفلسطينية، وهي قضية لطالما خضعت لانتقادات حادة من جانب طوائف في الشعب الإيراني، علاوة على بعض السياسيين بالأساس.
وقد أعلنت إيران في اليوم نفسه عن دعمها بشكل رسمي للعملية، على لسان الجنرال يحي رحيم صفوي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي للشؤون العسكرية، علاوة على الرئيس، إبراهيم رئيسي، الذي أيدها وقال تبعًا لذلك إن “المعادلة قد تغيرت”. وقد ذهب المرشد الإيراني خامنئي إلى الأمر نفسه في خطاب له يوم 10 أكتوبر، اليوم الرابع للعمليات، خلال حضوره في حفل تخرج ضباط عسكريين من جامعة “الإمام علي” العسكرية في طهران. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن المسؤولين الإيرانيين لا يقصدون بدعم بلادهم للعملية دعمًا لوجستيًا وماديًا عينيًا، بل يقصدون بذلك الدعم قبولهم وتأييدهم لها.
اتهامات إسرائيلية وغربية لإيران بـ “الوقوف وراء العملية”
على الرغم من عدم انخراط ضباط أو جنود عسكريين إيرانيين في عمليات “طوفان الأقصى”، فإن الاتهامات طالت إيران بدعم العملية أو الوقوف وراءها. فقد وجّه السفير الإسرائيلي في برلين، رون بروسور، أصابع الاتهام لإيران بـ “الوقوف وراء العملية”، حيث صرّح قائلًا “ستتم معاقبة المسؤولين عن الهجوم الكبير الذي تشنه حماس على إسرائيل، وسنفعل كل ما بوسعنا لا لندافع عن أنفسنا فحسب، بل أيضًا لمعاقبة جميع المسؤولين عن ذلك”. وأضاف “بروسور”: “الأمر المؤكد لنا أن إيران تقف وراء هذا أيضًا، وستحاول بذل كل ما يمكن لإدخال المنطقة في حالة حرب”. ولم تكن هذه التصريحات من جانب السفير الإسرائيلي ببرلين منفصلة عن تقارير من الداخل الإسرائيلي تتهم طهران بـ “دعم العملية”.
أما غربيًا، فعلى الرغم من أن الاتهامات لم تكن على المستوى الرسمي فإن كبريات الصحف ووسائل الإعلام الغربية قد “اتهمت” إيران بـ “دعم” العملية. وصرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي، جاك سوليفان، في 10 أكتوبر الجاري قائلًا إن “إيران منخرطة بالمعنى الواسع في هجوم حماس، إلا أنه لا تتوافر معلومات تشير إلى أن طهران قد عرضت بشكل محدد دعمًا للهجوم غير المسبوق”. مضيفًا: “إيران قدمت نصيب الأسد في دعم الجناح العسكري لحماس، فهم قدموا التدريب والإمكانات، وقدموا الدعم، وانخرطوا واتصلوا مع حماس لسنوات وسنوات، وكل هذا قد لعب دورًا فيما نراه”.
ونلاحظ هنا أن “سوليفان” أشار إلى لفظ “الدعم بالمعنى الواسع”، أي أنه يعني أن إيران غير متورطة في “طوفان الأقصى”، ولكنه يريد أن يشير إلى دعم إيران بوجه عام الفصائل المسلحة في المنطقة ومنها الفصائل الفلسطينية. أما صحيفة “واشنطن بوست” فقد قالت، فيما أوردته عن مسؤولين أمنيين غربيين وشرق أوسطيين، حسبما وصفت، إن “الهجوم على إسرائيل قد تم التخطيط له قبل عام بدعم أساسي من الجمهورية الإسلامية شمل التدريب العسكري والمساعدات اللوجستية وكذلك عشرات الملايين من الدعم التسليحي”.
وفي السياق نفسه، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” معلومات جاء فيها أن “التخطيط لعملية حماس تم خلال اجتماع عُقد في بيروت خلال شهر أغسطس الماضي”، مضيفة أن “قادة حماس وحزب الله وممثلو جماعات مسلحة اجتمعوا مع ضباط في الحرس الثوري”، مستطردة أن “قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بدأ عمليات تنسيق مكثفة مع الفصائل الفلسطينية وحزب الله منذ أبريل الماضي” وأن “حماس أكدت أنها خططت للهجمات بقرار فلسطيني لكنها لا تذكر دعم إيران”. وانتهى تقرير الصحيفة بالقول إن “مسؤولين أمنيين إسرائيليين يتوعدون بمهاجمة إيران إذا ثبت ضلوعُها في الهجوم”.
برنامج طهران النووي و”طوفان الأقصى”: فرصة أم حصار لإيران؟
حققت إيران حتى الآن مكاسب غير مباشرة من وراء انطلاق عمليات “طوفان الأقصى” قبل أيام. وكان من أبرز هذه المكاسب تضرر الأمن الإسرائيلي والمعادلة العسكرية بين إيران وإسرائيل على أي حال. ولا تزال وسائل الإعلام في إيران تسلط الضوء كثيرًا على هذا المعنى، إلى جانب ما يعنيه ذلك من تحول المعادلات العسكرية والأمنية بين إيران وإسرائيل في بعض المناطق، التي لا تنحصر في الشرق الأوسط، لصالح إيران ولو بشكل مؤقت على الأقل؛ نظرًا لاهتزاز المعادلة المُشار إليها وانشغال إسرائيل بالحرب في قطاع غزة وتبدل تلك الأخيرة لتصبح أولوية للجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن.
وإلى جانب هذه المعادلات الأمنية والعسكرية، فإن النظام السياسي الإيراني نفسه قد استفاد على المستوى السياسي من هذه العمليات بالترويج لـ “قوته ونفوذه” إقليميًا وهو أمر استفاد منه أيضًا على المستوى الداخلي. يعني هذا في الحقيقة أن الحرب في غزة قد أعطت النظام السياسي في طهران “ثقلًا ونبضة حياة” على المستوى الداخلي.
ولكن على أي حال، تُظهر لنا المؤشرات المتوافرة حاليًا في مشهد التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي الكلي أن هذه العمليات المتبادلة قد تتحول لتكون حصارًا وتهديدًا لإيران، حيث تأتي أبرز هذه المؤشرات على النحو التالي:
- الاتهامات الغربية والإسرائيلية لإيران بـ “التورط” في حرب غزة إلى جانب “حماس”:
إن الاتهامات الغربية والإسرائيلية لإيران بـ”دعم” أو “التورط” في عمليات “طوفان الأقصى” إلى جانب الفصائل الفلسطينية وأبرزها “حماس” قد يشكل في وقت لاحق مبررًا للهجوم على أهداف إيرانية واسعة ومهمة سواء في الداخل الإيراني أو خارجه، خاصة بعدما اتهمت إسرائيل إيران رسميًا وباتت الاستخبارات الأمريكية تبحث الآن عن معلومات في هذا الصدد.
وتحتاج إسرائيل وبعض الدول الكبرى إلى مثل هذا السيناريو لضرب مواقع إيرانية سواء في الداخل أو الخارج، وذلك مثل مواقع تصنيع الصواريخ أو الطائرات المسيرة أو ربما بعض المواقع النووية إذا ما تحول التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي إلى مواجهة أكبر على المستوى الإقليمي؛ ففي ظل ذلك، سيكون مهاجمة أهداف ثمينة لإيران أمرًا مبررًا وربما “مستساغًا” على المستوى الدولي.
وفي هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى أن مقتل عدد من المواطنين الأجانب في الهجمات الأخيرة قد يعزز من غضب بعض الدول حول العالم ويدفعها إلى قبول مثل هذه الهجمات ضد مصالح إيرانية. ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا، علاوة على مقتل جنسيات من دول أخرى في حرب غزة مثل عدد من مواطني أوكرانيا التي تربطها بإيران خلافات كبيرة منذ سقوط طائرتها في إيران في يناير 2020 حتى مسألة علاقات إيران بروسيا في الحرب الأوكرانية الأخيرة. وعليه، فإن هذا المؤشر قد يتحول لاحقًا إلى تهديد لإيران.
- اتساع دائرة الحرب إقليميًا واشتباك “حزب الله”:
منذ بدء الحرب في غزة قبل أيام قليلة، أكد المسؤولون الإيرانيون دومًا أن بلادهم غير منخرطة أو متورطة في هذه الهجمات، وكانت هذه التأكيدات –ولا تزال- تأتي من أكبر المسؤولين وأبرزهم في طهران. وهو ما يمكن تفسيره بأن إيران تدرك حجم التحديات والتهديدات التي يمكن أن تواجهها جرّاء الإقرار بـ”دعم أو الوقوف وراء” عمليات طوفان الأقصى.
ومع ذلك، يمكن القول من ناحية أخرى إن إيران قد تنجر إلى عملية التصعيد الفلسطينية الإسرائيلية الجارية، إذا ما أقدمت الفصائل الموالية لها على الدخول على خط المواجهة مثل حزب الله الذي أصدر بيانًا يوم 9 أكتوبر الجاري، بعد يومين من بدء الصراع، قال فيه إن 3 من أعضائه قُتلوا في غارة جوية إسرائيلية جنوبي لبنان، وذلك بعدما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه “جرى تحديد عددٍ من عمليات الإطلاق من الأراضي اللبنانية تجاهنا”. وقد أوضح “حزب الله”، أن “مجموعات من المقاومة الإسلامية أطلقت صواريخ موجهة على إسرائيل، مستهدفة ثكنة برانيت وثكنة أفيفيم التابعة للجيش الإٍسرائيلي، نتيجة الهجوم الإسرائيلي على بلدات وقرى لبنانية ومقتل عناصر من الحزب”.
وقبل ذلك، أصدرت فصائل عراقية موالية لإيران وعدد من الجماعات الأخرى في المنطقة بيانات أشارت فيها إلى أنها “قد تهاجم أهدافًا أمريكية في المنطقة إذا ما دعمت واشنطن إسرائيل ضد حماس”، ولا تزال هذه الجماعات والفصائل تصدر العديد من التحذيرات والبيانات في هذا الشأن.
تشير هذه المعطيات إلى أن احتمالية انخراط الجماعات الموالية لإيران في الإقليم، إلى جانب إيران ذاتها، في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الجاري في الوقت الحالي تحت اسم “طوفان الأقصى” تظل قائمة ومطروحة وقريبة، وذلك في ظل حشد الولايات المتحدة قواتها العسكرية في شرق البحر المتوسط فيما يبدو حتى الآن أنها “محاولة ردع” لهذه الجماعات من التحرك ضد إسرائيل أو حتى ضد المصالح الأمريكية في الإقليم.
ج- البرنامج النووي الإيراني ودخول الولايات المتحدة على خط “طوفان الأقصى”:
إن التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي هذه المرة قد اتخذ مسارًا أكبر عن ذي قبل. حيث بات رويدًا رويدًا يلقي بظلاله على الإقليم وعلى المستوى الدولي، خاصة لدى بعض الدول الكبرى. فالولايات المتحدة قد أرسلت حشودًا وعتادًا عسكريًا كبيرًا غير مسبوق إلى إسرائيل منذ عام 1982. قد يدل هذا على أن واشنطن تريد “ردع” إيران وحلفاءها من الوكلاء عن الدخول في صراع أكبر مع إسرائيل. ولكن، هذا قد يشير من ناحية أخرى إلى أن الصراع آخذ في النمو وأن الصدام ما بين الجماعات المدعومة من إيران وإسرائيل سوف يتبعه رد فعل أمريكي ومن ثم إيراني.
وإذا ما تفاقمت الأزمة على هذا النحو لا يستبعد أن يكون هناك تخطيط لاستخدام قوات دولية كبيرة ورادعة ضد البرنامج النووي أو الصاروخي الإيراني؛ خاصة بعد تقدم برنامج طهران النووي إلى مستويات غير مسبوقة “ويمكن وصفها بالمقلقة بالنسبة للدول الكبرى”، بالتزامن مع حالة من الغضب والهواجس الإسرائيلية الشديدة تجاه الملفين النووي والصاروخي الإيرانيين، علاوة على التحذيرات الاستخباراتية الغربية من تقدم برنامج طهران النووي، ما قد يطرح احتمالات مهاجمة مثل هذه المواقع الإيرانية.
الخلاصة
يُعتقد أن إيران تخشى من أن تتطور المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية إلى عمليات تستهدف إيران ذاتها في النهاية، وعلى وجه التحديد مواقعها الصاروخية والنووية، وذلك في إطار حرب أكثر شمولًا، وهو سيناريو يظل مطروحًا في ضوء الحقائق القائمة في الوقت الراهن فيما يتعلق بتطورات عملية “طوفان الأقصى” الفلسطينية وعملية “السيوف الحديدية” الإسرائيلية. ولهذا، فإن طهران لا تدعُ يومًا إلا وتؤكد فيه مراتٍ ومراتٍ على أنها غير منخرطة في الحرب الجارية.
.
رابط المصدر: