تعتبر الحركة التعاونية من أهم ارهاصات الفكر الاشتراكي وبرزت منذ أكثر من قرنين. بدأت الحركة في أوروبا في القرن التاسع عشر، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا، وأدت الثورة الصناعية والتحولات في اتجاه مكننة الاقتصاد إلى تغيرات اجتماعية هددت معيشة العمال والكادحين. يذكر أن أول جمعية تعاونية استهلاكية تأسست في عام 1769 في مدينة فيونوك في شرق أيرشاير في بريطانيا. تبع ذلك تأسيس قساوسة ورجال دين عددا من الجمعيات التعاونية لدعم احتياجات الفقراء.
في حلول عام 1830، كان هناك مئات من هذه الجمعيات، عجز العديد منها عن الاستمرار ففشلت وأفلست. ولم تتوقف هذه الجمعيات عند حدود الجمعيات الاستهلاكية بل تــأسست أيضا كمصارف تعاونيـــة.
يعتبر روبرت أوين الأب الروحي لفكرة التعاونيات في بريطانيا. آمن أوين بأهمية توفير بيئة اجتماعية مناسبة ومستوى معيشة مريح للعمال وتمكينهم مع أبنائهم من تلقي التعليم والارتقاء بمهاراتهم المهنية. جاء بعد أوين عدد من المفكرين أبرزهم وليام كنيغ الذي طور الفكرة وساهم في دفع العمال إلى تأسيس الجمعيات التعاونية في عدد من البلدات.
تمثل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في الكويت ثقلاً مهما في قطاع توزيع المواد الغذائية والاستهلاكية، وقدرت مساهمتها بنحو 70 في المئة
انتقلت فكرة التعاونيات الاستهلاكية إلى الدول العربية، ويمكن اعتبار النموذج الذي اعتمد في مصر بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952، من أهم المظاهر الاقتصادية، حيث اعتمد المستهلكون، خصوصاً الفقراء منهم، على شراء احتياجاتهم الغذائية وغيرها من السلع على الجمعيات التي انتشرت في عدد من المدن والبلدات المصرية. صدر القانون رقم 317 لسنة 1956 في شأن المؤسسات العامة التعاونية، وقد تم تعديله مرات عدة في السنوات اللاحقة.
بعد فترة زمنية، بدأت الكويت تنظم الجمعيات التعاونية وصدر القانون رقم 20 لسنة 1962 الذي يحدد شروط الجمعيات التعاونية وأنظمتها في البلاد. بموجب القانون، تأسسست أول جمعية تعاونية في منطقة كيفان بتاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1962، وهو تاريخ صدور دستور الكويت واعتماده من الأمير الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح، بعدما أقره المجلس التأسيسي في الكويت الذي تم انتخابه في بداية العام نفسه بعد استقلال البلاد عام 1961 وإنهاء معاهدة الحماية البريطانية.
اتساع رقعة الجمعيات
تمثل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية في الكويت ثقلاً مهما في قطاع توزيع المواد الغذائية والاستهلاكية، وقدرت مساهمتها بنحو 70 في المئة. يبلغ عددها 49 جمعية موزعة على المناطق. تتمتع الجمعيات التعاونية بتسهيلات وتقديمات حكومية أهمها توفير الأراضي، ويسمح القانون بتأجير الجمعيات لجزء من المباني التي تنشأ بتمويل من الحكومة. وبموجب هذه التسهيلات وارتفاع مستوى المبيعات، تمكنت جمعيات عدة من تحقيق إيرادات مهمة عززت قدراتها.
خلال السنوات المنصرمة، برزت أمور سلبية في مسيرة الحركة التعاونية في الكويت، تتعلق بالأمانة وظهور تجاوزات في الإدارة المالية
يحدد القانون ملكية كل من ساهم في الجمعية، ويتم توزيع نسبة من الأرباح على المساهمين وكذلك يوزع جزء من الأرباح على مساهمي الجمعية بحسب مشترياتهم المقيدة في الجمعية. لكن لكل عضو أو مساهم صوت واحد في اجتماعات الجمعية العمومية مهما كان عدد الأسهم التي يملكها والتي يشترط ألا تزيد على 20 في المئة من العدد الإجمالي للأسهم. وجذبت الجمعيات التعاونية في الكويت مساهمة عدد كبير من الكويتيين فاق عددهم 500 ألف في السنة الجارية.
مشكلات وتجاوزات
خلال السنوات المنصرمة، برزت أمور غير إيجابية في مسيرة الحركة التعاونية في الكويت واضطرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وهي الجهة المشرفة على الجمعيات، إلى إتخاذ قرارات صعبة حيث حل عدد من مجالس إدارات الجمعيات وعيِّنت مجالس موقتة، وتم أحياناً تحويل أعضاء على النيابة العامة. كانت هذه المشاكل تتعلق بالأمانة وظهور تجاوزات في الإدارة المالية أو عمليات تنفع تتعلق بتحديد الجهات التي تزود الجمعية السلع والبضائع.
كذلك اشتكى الكثير من تجار الجملة الذين يمدون الجمعيات بالسلع من تأخير سداد استحقاقاتهم أو من محاولات ابتزاز أعضاء أو مديرين في الجمعيات للاستمرار في التعامل تجارياً. لا بد من الإشارة إلى أن بعض من يتولون إدارة الجمعيات هم مواطنون لا يملكون مؤهلات في إدارة الأعمال ولم يمارسوا الأعمال التجارية والاستثمارية، والعديد منهم يأمل البروز من خلال عضوية مجالس الإدارة في أي جمعية تعاونية طموحاً لبلوغ عضوية مواقع أعلى مثل المجلس البلدي أو مجلس الأمة أو ربما التأهل لعضوية مجلس الوزراء. أي أن أهداف الكثر ممن يترشحون لعضوية مجلس إدارة جمعية تعاونية هو الحصول على موقع يؤدي إلى الرخاء والتنفيع وربما تحقيق الثروة بسرعة فائقة دون مجهود مهني يذكر.
اتحاد التعاونيات يرفض بشكل قاطع أي خصخصة أو استثمار في الجمعيات التعاونية، ولكن صار يوجد الآن في الكويت منافسة كبيرة
هذه الأوضاع والتجاوزات أدت إلى اقتراح المهتمين بالشأن الاقتصادي، اعادة النظر في فكرة التعاونيات وإمكان تحويلها إلى شركات مساهمة يمتلك أسهمها مواطنو المناطق السكنية، وتمكين شركات متخصصة بتوزيع السلع وإدارة الأسواق المركزية من تملك نسبة مهمة من الأسهم وتأهيلها لإدارة الجمعية.
منافسة حقيقية تستدعي الإصلاح
أسست الجمعيات التعاونية اتحاداً يضمها ويحدد علاقاتها مع الأطراف ذات الصلة مثل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والبلدية وغرفة التجارة والصناعة والتجار والموردين. يتولى الاتحاد الدفاع عن الجمعيات أمام الآخرين ويطرح الملاحظات حول كل ما يرد في الإعلام في شأنها. في عام 2016، اقترح اقتصاديون ورجال أعمال إمكان خصخصة الجمعيات بعدما برزت معالم الفساد في عدد منها. وكان رد رئيس الاتحاد آنذاك، سعد الشبو، “بأن الاتحاد يرفض بشكل قاطع أي خصخصة أو استثمار في الجمعيات التعاونية”. لا شك أن مبررات استمرار الجمعيات التعاونية هو توفير السلع والبضائع الاستهلاكية للمواطنين بأسعار مخفضة وبجودة مميزة. قد يكون ذلك صحيحاً قبل عقود، ولكن يوجد الآن في الكويت العديد من الشركات الكبرى المتخصصة في التوزيع السلعي، منها مركز سلطان الذي يملك العديد من الفروع وقد تأسس منذ ثمانيات القرن الماضي. تعمل إدارة هذه الشركة وغيرها من شركات تخصصت بالأسواق المركزية في الكويت، على الارتقاء بالجودة وتوفير خدمات جيدة للمستهلكين، بأسعار مخفضة.
أ.ف.ب.
سوق الأسماك، في مدينة الكويت 1 يونيو 2022
تمثل هذه الشركات إذاً منافسة حقيقية للجمعيات التعاونية، وقد برز مركز سلطان كأهم المنافسين ثم جاءت بعده “لولوهايبرماركت” وشركة “أونكوست” و”كارفور” و”سيتي سنتر” و”سيفكو”. إذاً، هناك إمكانات حقيقية للمنافسة ويقوم الكثير من المستهلكين بالتسوق في مراكز هذه الشركات المنافسة ويجدون متطلباتهم الاستهلاكية بأسعار مقاربة للأسعار في الجمعيات التعاونية.
بعد مرور ستة عقود على تأسيسها رسمياً وبموجب القانون، تستحق التعاونيات المراجعة الموضوعية وإمكان تطوير أنظمتها بما يتوافق مع مفاهيم الاقتصاد الحديث
على الرغم من التحفظات المحقة عن أداء الجمعيات التعاونية وتوالي قصص الفساد وسوء الإدارة، والمعالجات المستمرة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ظلت الجمعيات تحقق نتائج مالية مميزة.
أرباح مميزة… ولكن
في عام 2023، بلغت المبيعات من الجمعيات التعاونية 1,2 مليار دينار (أو 3,7 مليارات دولار)، كما وفرت هذه الجمعيات 80 سوقاً مركزياً في مختلف مناطق الكويت. قدر النمو في المبيعات في عام 2023 بنحو 5,9 في المئة، وقدر مسؤولو الاتحاد بأن متوسط استهلاك الفرد من البضائع والسلع الاستهلاكية بـ388 دينارا أو 1,270 دولارا سنوياً. تخصص الجمعيات جزءا من الأرباح لدعم أنشطة في المناطق السكنية أو لدعم الجهود التربوية، وأحيانا لتوفير رحلات العمرة للأعضاء. لكن هذه الجمعيات، وبعد مرور ستة عقود على تأسيسها رسمياً وبموجب القانون، تستحق المراجعة الموضوعية وإمكان تطوير أنظمتها بما يتوافق مع مفاهيم الاقتصاد الحديث والتطورات التقنية من أجل تجاوز كل الممارسات غير السوية والارتقاء بنشاط التوزيع السلعي في البلاد.
المصدر : https://www.majalla.com/node/321989/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%8A%D8%AA-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%84%D9%83%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A9