على الرغم أن التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا على مدار شهر ونصف، كانت تتم على كافة المحاور القتالية الأساسية سواء جنوبًا أو شرقًا، أو في الشمال والشمال الشرقي، إلا أنه يمكن القول إن العمق الأساسي للخطة الميدانية الروسية، كان يركز بشكل كبير على السيطرة الكاملة على الشريط الساحل الأوكراني على بحر آزوف والبحر الأسود، بجانب تأمين كامل الأقسام الإدارية لمنطقتي “لوهانسك” و”دونيتسك”، اللتان تشكلان معًا إقليم “الدونباس”.
هذا التوجه كان ملحوظًا منذ بداية العمليات العسكرية، ولكنه توارى بشكل تدريجي بفعل الزخم القتالي الكبير الذي اتسمت به كافة الجبهات، وبفعل الرغبة الروسية في التلويح بورقة السيطرة على كييف، لتحقيق هدفين رئيسيين، الأول، هو إجبار القوات الأوكرانية على توفير القسم الأهم من قوتها الأساسية لتدعيم الجبهة الشمالية المدافعة عن العاصمة، وهو ما منح القوات الروسية في جبهات أخرى – خاصة الجبهة الجنوبية – الحيز الميداني الأكبر للتقدم والسيطرة، وبالتالي لم يكن مستغربًا أن يكون التقدم الأكبر والأهم للقوات الروسية هو في الجبهة الجنوبية. الهدف الثاني، يتمثل في استخدام الضغط العسكري على العاصمة كييف، كورقة للمساومة السياسية، وهو هدف لا يبدو أن موسكو قد تمكنت من تحقيقه كما ترغب.
وبشكل عام، يمكن القول أن الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي “لوهانسك” و”دونيتسك”، حمل في طياته جوهر الهدف الرئيسي للتحركات الميدانية الروسية اللاحقة، ألا وهو إخراج القوات الأوكرانية مما تبقى من مناطق إدارية داخل إقليم الدونباس، فمنذ عام 2015، تكرس واقع ميداني تكون من خلاله خط تماس بين القوات الانفصالية – المدعومة روسيًا – وبين القوات الأوكرانية، يمر عبر القسم الجنوبي من لوهانسك، الذي يضم أربع مناطق تسيطر عليها القوات الانفصالية من إجمالي ثماني مناطق إدارية تتشكل منها “لوهانسك”، وعبر القسم الشرقي من دونيتسك، الذي تسيطر القوات الانفصالية فيه على ثلاث مناطق، من إجمالي ثمانية مناطق إدارية تتشكل منها هذه المنطقة.
معركة “الدنيبر”.. تحقيق النصر بتكلفة عالية
سيناريو “الوصول إلى نهر الدنيبر” وهو نهر رئيسي في أوكرانيا يقطع البلاد من الشمال إلى الجنوب، كان أقرب سيناريو تم توقعه بعد بدء التحرك العسكري الروسي في أوكرانيا، نظرًا لأن هذا التحرك شمل كافة المحاور المؤدية إلى الضفة الشرقية لهذا النهر التي انفتحت فيها القوات الروسية بشكل جعل كافة التقديرات تشير إلى أن موسكو تريد السيطرة على كامل الضفة الشرقية لهذا النهر، بما في ذلك العاصمة كييف. هذا السيناريو أعاد إلى الأذهان، ولو مؤقتًا، الخطة العسكرية السوفيتية التي تم تنفيذها بين أغسطس وديسمبر 1943، والمعروفة باسم “معركة الدنيبر”، التي من خلالها تمكن الجيش الأحمر من إزاحة الوحدات الألمانية من الضفة الشرقية للنهر، وهو ما كان بداية انعكاس الميزان الميداني لصالح القوات السوفيتية في الجبهة الشرقية حتى نهاية الحرب.
في خطة عام 1943، كان الاعتماد السوفيتي – كما كان الحال عليه في كافة معاركهم خلال القسم الثاني من الحرب العالمية الثانية – بشكل أساسي على “الموجات البشرية”، لاستنزاف الذخائر الألمانية وامتصاص نيرانها خاصة النيران الرشاشة، وفي نفس الوقت تشتيت جهود القيادات العسكرية الألمانية سواء على المستوى الميداني أو المستوى الخططي. هذا التكتيك أسفر عن نتائج مبهرة خلال هذه المرحلة، ولعل من الغريب ألا تكون لمعركة “الدنيبر” نفس الشهرة التي حازتها معارك أخرى مثل معركة “ستالينجراد”، بالنظر إلى أن كم القوات التي تم الدفع بها في معركة الدنيبر بلغ مجموعها من الطرفين نحو أربعة ملايين شخص، وهو فعليًا العدد الأكبر من القوات التي تم حشدها في معركة واحدة على مر التاريخ.
النتائج الميدانية الباهرة في معركة الدنيبر – الأولى – كان مقابلها خسائر بشرية جسيمة في الجانب السوفيتي، تعدت ما فقده الجيش الأحمر خلال معركة ستالينجراد، حيث خسر السوفييت نحو مليون ومائتي ألف جندي، مقابل 800 ألف جندي فقدتهم القوات الألمانية. هذه النقطة تعد محور أساسي عندما نقارن بين عمليات الجيش السوفيتي شرق الدنيبر، والعمليات الأخيرة للجيش الروسي في نفس النطاق الجغرافي.
القوة البشرية.. معضلة روسية في أوكرانيا
خلال الحرب العالمية الثانية لم تلقٍ موسكو بالًا لحجم الخسائر البشرية، في حين كان واضحًا منذ بداية العمليات الروسية في أوكرانيا مؤخرًا أن موسكو تعتمد بشكل أساسي على الجنود المتطوعين والمتعاقدين بجانب الاعتماد لاحقًا على وحدات عسكرية رديفة، وهو ما أدى إلى محدودية القوة البشرية اللازمة لشن عمليات واسعة النطاق على محاور عسكرية متعددة. الصعوبات التي واجهتها الوحدات المظلية الروسية في الجبهة الشمالية خلال الأيام الأولى للمعارك، دفعت موسكو بوحدات كبيرة من الحرس الوطني الشيشانية على رأسها كتيبة “الحاج أحمد”، والتي تعد أهم وحدة نخبوية في الجيش الشيشاني حيث تمت تسميتها تيمنًا بأحمد حاج قاديروف، مفتي الشيشان السابق ووالد الرئيس الشيشاني الحالي رمضان قاديروف، علمًا أن هذه الكتيبة تضم العشرات من أفراد عائلته.
تم نقل الوحدات العسكرية الشيشانية من العاصمة جروزني باتجاه الجبهتين الشرقية والشمالية في أوكرانيا، بحيث تم الدفع بالجزء الأكبر من هذه الوحدات إلى المحور الشمالي الغربي للعاصمة كييف، خاصة نطاق “غوستوميل – بوتشا – إربين”، بهدف الاستفادة من خبرة هذه القوات في مجال حرب المدن وحلحلة المقاومة الأوكرانية في هذا النطاق. في حين تم الدفع بجزء من هذه الوحدات، نحو الجبهة الشمالية الشرقية “خاركيف” انطلاقًا من منطقة “بيلوجراد”، بجانب الدفع بجزء آخر نحو مدينة “ماريوبول” في الجبهة الجنوبية.
دخول الوحدات الشيشانية إلى الميدان الأوكراني والاعتماد الروسي الأساسي عليها، ومعها لاحقًا وحدات قادمة من جمهورية “أوسيتيا الجنوبية” في جورجيا، كان التغير الأول في التكتيك العسكري الروسي على المستوى الميداني، ومؤشرًا على أن المخطط العسكري الروسي وجد مقاومة أكبر من المتوقعة من جانب القوات الأوكرانية، خاصة في الجبهتين الشرقية والشمالية، وهو ما وضع معوقات كبيرة أمام القوات المظلية الروسية التي أرادت تنفيذ تكتيكات مشابهة لما قامت به الوحدات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، عبر استخدام الإنزالات المظلية المباغتة للسيطرة على المرافق الحيوية المعادية.
هنا ظهر دور لافت للمجموعات الرديفة للجيش الأوكراني، والتي ساهمت بشكل أساسي في إبطاء التقدم الروسي على الجبهتين الشرقية والشمالية، والتي تشمل مجموعات متنوعة من المتطوعين بعضها يمتلك خبرة قتالية كبيرة من خلال مشاركتها في معارك إقليم الدونباس منذ عام 2015. القوة الرئيسة في هذه المجموعات تبقى للوحدات ذات التوجه اليميني المتطرف، فقد شكلت أوكرانيا منذ عام 2014، وحدات من المتطوعين تضم من يرغب في التطوع من الأوكرانيين أنفسهم – بما في ذلك المنتمين لتيارات يمينية متطرفة – وبلغ مجموع هذه الوحدات نحو 50 وحدة، ساهمت بشكل أساسي في إبقاء الوضع القائم على خط وقف إطلاق النار مع القوات الانفصالية في حالة من الثبات والاستنفار منذ العام 2015
تضمنت هذه الوحدات بعض المجموعات اليمينية المحلية المتطرفة، على رأسها كتيبة “آزوف” وكتيبة “خاركيف” وكتيبة “الدونباس”. كتيبة الدونباس تعد الأكبر ضمن هذه الكتائب اليمينية وشارك مقاتلوها في المعارك شمال العاصمة، وداخل مدينتي “ماريوبول” و”خاركيف” بجانب تواجدهم بشكل أساسي في مدينة “دنيبرو”. بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا تشكلت مجموعات يمينية إضافية ذات توجه نازي، منها كتيبة “Avant-Grade cultural union” التي نشطت في محيط العاصمة كييف، ومجموعة “Freikorps” في مدينة خاركيف، ومجموعة “Tradition and Order” والتي ينحدر معظم أفرادها من روسيا البيضاء، ومجموعات الألتراس التابعة للنوادي الرياضية الأوكرانية مثل أندية FC Arsenal Kyiv – FC Polissya – FC lviv – FC Kharkiv – FC Vorskla.
يضاف إلى هذه المجموعات اليمينية وحدات أخرى تعتنق الفكر “الأناركي” الفوضوي، والتي شكلت مجتمعة ما يسمى “لجنة المقاومة” لتكون بمثابة المظلة العسكرية التي من خلالها يشارك في المعارك كل معتنقي هذه الإيديولوجيا في أوروبا الشرقية. أبرز المجموعات الأناركية المنخرطة في هذا التجمع هي مجموعة “RevDia”، التي تم تشكيلها عام 2015 وانضمت في مارس 2022 إلى “لجنة المقاومة”. انضمت إلى هذه اللجنة مؤخرًا أيضًا مجموعات أناركية جديدة منها مجموعة “Black Flag”، ومجموعة “Black Stork” القادمة من بيلاروسيا، ومجموعة “Revolution DIA”.
المفارقة هنا، أن الجانب الأوكراني يضم في طياته وحدات عسكرية شيشانية، حيث تعمل على الأراضي الأوكرانية حاليًا كتيبتي شيشانيتين مواليتين للقوات الأوكرانية، تقاتلان فعليًا منذ عام 2015 في إقليم الدونباس، لكنهما شاركا في المعارك على الجبهة الجنوبية تحت مظلة “فيلق الدفاع الوطني”. الكتيبة الأولى هي كتيبة “جوهر دوداييف”، التي تأسست في مارس 2014 ويقع مقرها الأساسي في مدينة “نوفوموسكوفسك” في منطقة “دنيبرو”. وتضم هذه الكتيبة غالبية من المسلمين الشيشانيين بجانب مقاتلين مسلمين من جنسيات أخرى مثل أذربيجان وجورجيا. شاركت هذه الكتيبة في عمليات الجبهة الجنوبية بجانب بعض النشاط في الجبهة الشرقية، وتضم ما يناهز 300 مقاتل. الكتيبة الثانية هي كتيبة “الشيخ منصور” وقد تشكلت عام 2015 من أعضاء متطوعين سابقين في كتيبة “جوهر دوداييف”، وكانت تتمركز قرب خط القتال مع انفصاليي “دونيتسك”. وعلى الرغم من أن هذه الكتيبة قد تم حلها عام 2019 إلا أن اعضائها تم توثيق مشاركتهم في المعارك، ضمن الوحدات الأوكرانية المدافعة عن مدينة “ماريوبول”.
يضاف إلى هاتين الكتيبتين، مجموعات “تترية” من شبه جزيرة القرم، على رأسها كتيبة “نعمان جيلبيتشان”، التي نشطت خلال عامي 2014 و2015 في المناطق المحاذية لشمال شبه جزيرة القرم “منطقة “خيرسون”، لكن تم حلها عام 2016 وعادت للظهور مع بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث قاتل أفرادها في نطاق منطقة “خيرسون”. كتيبة “القرم” الإسلامية، هي إحدى الكتائب التترية الأخرى ويتزعمها “Isa Akaev”، الذي ظهر في تسجيلات مصورة يدعو فيها مسلمو روسيا إلى التطوع للقتال ضد الجيش الروسي في أوكرانيا، وقد كان لهذه الكتيبة سابقًا نشاط في معارك الدونباس منذ عام 2015 لكن تجدد نشاطها مع بدء العمليات الروسية.
كان لكافة المجموعات السالف ذكرها دور أساسي في تعطيل التقدم الميداني الروسي، وانضم لهذه المجموعات أعداد كبيرة من المتطوعين من خارج أوكرانيا، من كل من إسرائيل وهولندا والبرتغال وويلز وإسكتلندا وأذربيجان وكندا وإسبانيا وبولندا وفرنسا وروسيا البيضاء وأيرلندا والبرازيل والولايات المتحدة الأمريكية وجورجيا. كان يتم تجميع هؤلاء في معسكرات تقع شمال وغرب مدينة “لفيف” قرب الحدود مع بولندا عقب عبورهم الحدود، ومن ثم يتم إرسالهم بشكل أساسي نحو العاصمة كييف، بجانب نطاق الجبهة الجنوبية قرب مدينة “ميكولايف”. عدد معتبر من هؤلاء المتطوعين – خاصة الأمريكيين والإسرائيليين والبرازيليين – يمتلكون خبرات عسكرية كبيرة، بل وقام المتطوعون الأمريكيون ممن خدموا في العراق ومناطق أخرى – مثل المناطق الكردية في شمال سوريا – بتشكيل ما يعرف باسم “مجموعة المراقبة الأمامية F.G”، بهدف تنفيذ عمليات الاستطلاع شمال كييف.
هذه الأعداد من المتطوعين تم تنظيمها تحت اسم “الفيلق الدولي”، وقاتلوا بمعية “الفيلق الوطني الجورجي” الذي تم تشكيله عام 2014، بقيادة أحد الضباط السابقين في الجيش الجورجي ويضم هذا الفيلق مقاتلين من 18 جنسية مختلفة بالإضافة إلى مقاتلين من جورجيا وروسيا البيضاء. نشط هذا الفيلق بعد بدء المعارك في أوكرانيا وقاتل أفراده في مدينة “ماريوبول”، والتخوم الشمالية الغربية للعاصمة.
تغيير متكرر للأولويات الروسية الميدانية
نقص القوة البشرية يضاف إليه عدة عوامل ميدانية أخرى، ساهمت جميعها في تعديلات متتالية في الأولويات الميدانية الروسية في أوكرانيا. من هذه العوامل، تأثر خطوط الإمداد والتموين الروسية بهجمات خاطفة ومستمرة من جانب الوحدات الخاصة الأوكرانية والطائرات بدون طيار، التي ركزت في الأيام الأولى للعمليات – خاصة في الجبهة الشمالية – على كسر خطوط الإمداد الروسية القادمة من بيلاروسيا، ما عطل بشكل كبير حركة الأرتال المدرعة الروسية وعانت بعض وحدات المشاة من نقص في المؤن والذخائر، اضطرت فيه أحيانًا إلى التزود بالوقود والمؤن عنوة من المتاجر والمحال الأوكرانية.
يضاف إلى ذلك عدم تمكن سلاح الجو الروسي من إخماد كافة القدرات الصاروخية والجوية الأوكرانية، حيث استمرت الأنشطة الأوكرانية في هذا الصدد بشكل أو بآخر خلال أول أسبوعين من بداية المعارك، وشملت هذه الأنشطة حتى الأراضي الروسية نفسها، سواء عبر قصف مستودع وقود في مقاطعة “بيلجورورد” الروسية، عبر عملية جوية جريئة شاركت فيها مروحيتان أوكرانيتان من نوع “مي-24″، أو قصف قاعدة “ميليروفو” الجوية الروسية بصاروخ باليستي من نوع “توشكا”، بل وحتى قصف ميناء “بيرديانسك”، وإلحاق إصابة مباشرة بسفينة إنزال روسية واحدة على الأقل.
التغير الأول في التكتيك الميداني الروسي، كان عبر التراجع عن محاولة اقتحام المدن الأوكرانية الرئيسية في الجبهة الشرقية والشمالية، والاستعاضة عن ذلك بتطويق هذه المدن ومنع الإمداد عنها وإعطاء الأولوية للتحرك نحو العاصمة من الجهتين الشمالية والشرقية، على أن يتم لاحقًا الدخول إلى المدن المحاصرة وكذلك وصل قوات الجبهة الشمالية بقوات الجبهة الجنوبية، لمحاصرة القوات الأوكرانية المتواجدة في إقليم الدونباس. وعلى الرغم من أن ظاهر التحركات العسكرية الروسية نحو العاصمة كييف كان يستهدف السيطرة عليها ومحاصرتها، لكن تشير بعض الآراء إلى أن الغرض الأساسي للتحرك الروسي نحو كييف كان إجبار القيادة العسكرية الأوكرانية على تخصيص القسم الأهم من قواتها لصالح الدفاع عن العاصمة، وهو ما كان لها انعكاس إيجابي على الجبهة الجنوبية، خاصة ساحل بحر أزوف الذي تسيطر عليها روسيا حاليًا بشكل كامل. هذا الرأي ربما يحمل تفسيرًا منطقيًا للسؤال المتعلق بمبررات الانسحاب الروسي من كامل الجبهة الشمالية، وتفضيلها التركيز على الجبهتين الشرقية والجنوبية.
لهذا يمكن القول إن موسكو كانت تضع إقليم الدونباس والساحل الأوكراني على بحر آزوف والبحر الأسود، كأهداف رئيسية لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، ولهذا لم تستخدم قوتها الجوية أو الصاروخية الضارب، لإحداث تدمير شامل داخل العاصمة، كما أن القوات الروسية التي كانت تتقدم على المحورين الشرقي والشمال للعاصمة، تلكأت في قطع طريق الإمداد الواصل إلى الجانب الغربي من العاصمة، وهو ما حمل في طياته استخداما سياسيًا لورقة السيطرة على العاصمة، ربما لم يكن له أثر إيجابي على المستوى السياسي، لكنه بالقطع وفر للجبهة الجنوبية وقتًا ثمينًا.
بالعودة إلى التحضيرات الروسية للمرحلة الثانية من عملياتها في أوكرانيا والتي ستركز على كامل إقليم الدونباس، والجبهة الجنوبية، فيمكن القول إن مراجعة موسكو لمجريات المرحلة الأولى من العمليات أظهرت بجلاء وجود بعض القصور في المجال الخططي والتكتيكي، ولهذا كان من الضروري إحداث تغييرات على المستوى القيادي، كان أبرزها تعيين الجنرال ألكسندر دفورنيكوف كقائد عام للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو شخصية رفيعة المستوى في العسكرية الروسية، تولى سابقًا قيادة العمليات العسكرية الروسية في سوريا ما بين عامي 2015 و2016، وحظي أداؤه هناك بتقدير من القيادة الروسية، أعقبه تعيينه كقائد للمنطقة العسكرية الجنوبية، حيث أشرف على دعم القوات الانفصالية في إقليم الدونباس وتمت ترقيته منتصف عام 2020 إلى رتبة جنرال، التي ميزته عن بقية قادة المناطق العسكرية الروسية.
خبرة دفورنيكوف في سوريا – وحلب تحديدًا – ولاحقًا في الدونباس، تؤهله لإحداث تغيير شامل في التكتيك العسكري الروسي في أوكرانيا، بالنظر إلى أن رتبته ستتيح له الإشراف بسيطرة كاملة على العمليات العسكرية الروسية، انطلاقًا من القيادة العسكرية الموحدة للجيوش الروسية في الجنوب والتي باتت تدير كافة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بما في ذلك عمليات الوحدات التابعة للمناطق العسكرية الأخرى، وهو ما سيساهم في تقليل الأخطاء الميدانية التي نتجت بفعل تعدد الرؤوس القيادية للمجموعات القتالية الاثني عشر التي شاركت في المعارك.
إنهاء القيادة العسكرية الروسية لكافة المحاور القتالية الواقعة شمال وشمال شرق أوكرانيا وتركيزها على الشرق والجنوب، بدأ يشكل ملامح المرحلة الثانية من العمليات العسكرية الروسية، التي تقتضي أولًا إراحة وإعادة تنظيم الوحدات المقاتلة على الأرض وتأمين السيطرة على المواقع التي ما زالت محاصرة مثل مدينة ماريوبول، ثم إعادة حشد القوات، وهو ما رصدته صور الأقمار الصناعية فعليًا، بما في ذلك حشد عدد كبير من المقاتلات والقاذفات بواقع 44 طائرة، بجانب عدد من طائرات الحرب الإلكترونية وطائرات الشحن والتزود بالوقود جوًا، في قاعدة “مالشيوف” الجوية في مدينة فورونيج أقصى جنوب غرب روسيا قرب الحدود الأوكرانية، بجانب حشود مماثلة في مناطق أخرى قريبة من الحدود مثل “فاليوكي” و”دوبروفكا”، وهو ما يشير إلى استعدادات روسية لبدء حملة قصف مركزة على المواقع الأوكرانية في إقليم الدونباس، يتم فيها الحرص على أن تكون دقيقة ومكثفة بشكل أكبر من عمليات القصف خلال المرحلة الأولى من المعارك. جدير بالذكر أن عمليات قصف تمهيدية قد بدأت بالفعل في عدة مناطق بالدونباس، مثل مدينتي “بوباسنا” و “ماريينكا” في دونيتسك.
الحرب “الإعلامية” في ميدان أوكرانيا
جانب آخر مهم من جوانب المرحلة الأولى من العمليات العسكرية في أوكرانيا، هو الحرب الإعلامية، بطبيعة الحال يتضمن أي نزاع عسكري محدود أو واسع النطاق عمليات للحرب النفسية، تنفذها وسائل الإعلام والوحدات العسكرية المتخصصة في هذا النوع من العمليات. التحرك العسكري الروسي في أوكرانيا لم يكن استثناء لهذه القاعدة، بل يمكن القول إن هذا التحرك تضمن عدة مستويات من عمليات “التضليل الإعلامي” التي ساهمت – بالإضافة إلى عوامل أخرى منها تقلص هامش التغطية الصحفية الميدانية لمجريات المعارك على الأرض – في تعدد الروايات المتوفرة لكل حدث أو تطور ميداني، وتفاقم صعوبة إيجاد المعلومات الدقيقة عن حقيقة التطورات العسكرية في جبهات القتال المختلفة.
من إرهاصات ذلك، حقيقة أن كلا طرفي المعارك – روسيا وأوكرانيا – تمتلكان أسلحة ومنظومات قتالية ذات منشأ سوفيتي، وبالتالي كان من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت هذه الآلية المدرعة أو المنظومة القتالية الظاهرة في هذا الفيديو أو تلك الصورة تنتمي إلى الجيش الروسي أو الجيش الأوكراني، نظرًا لأن كلا الطرفين كان يعمدان إلى إزالة العلامات التي من خلالها يمكن تحديد إلى أي طرف تنتمي هذه الآليات، وهذا أدى بالتبعية إلى عدم القدرة في كثير من الأحيان على تحديد حجم الخسائر المادية التي تكبدها كلا الطرفين، وفتح الباب لهما كي يكون لكل منهما تقديراته الخاصة حول خسائر الطرف الآخر. في هذا الصدد يمكن ذكر عدة حوادث، من بينها الضربة الصاروخية التي أصابت محطة القطار في مدينة كراماتورسك الأوكرانية، والتي تم فيها استخدام صواريخ “توشكا” التكتيكية الباليستية، التي يمتلكها كلا الطرفين، وتبادل كلاهما الاتهامات حول هذه الحادثة، بين ادعاء أوكراني بضلوع أوكرانيا في هذه الحادثة، وبين حديث روسي عن أن الأرقام التسلسلية الخاصة بالصاروخ المستخدم تنتمي لنفس عائلة الصواريخ الأوكرانية من هذا النوع.
حتى على مستوى أداء الأسلحة والمنظومات القتالية، أجتهد كلا الطرفين في إظهار نجاعة وفعالية ما يمتلكانه منها خاصة الجانب الأوكراني، الذي تحدث بشكل مستفيض عن مدى فعالية الصواريخ المضادة للدروع التي تسلمتها من الدول الأوروبية، مثل الصواريخ البريطانية المضادة للدبابات “إن-لاو”، علمًا أن هذه الأخيرة أثبتت ضعفًا ميدانيًا كبيرًا خلال المعارك، وظهر بشكل واضح خلال تسجيل مصور أظهر فشل صاروخ من هذا النوع في إحداث أي ضرر يذكر بدبابة روسية من نوع “تي-72”.
وقد تحدث بعد ذلك عدة منتسبين للجيش الأوكراني، عن عدم فعالية هذا النوع من الصواريخ ضمن المسافات التي تزيد عن 1000 متر، ناهيك عن أن قسمًا كبيرًا من الصواريخ المضادة للدبابات – التي تزودت بها أوكرانيا كمساعدات عسكرية من الدول الغربية – كانت مخزنة لسنوات طويلة، وهو ما جعلها أقل كفاءة على المستوى القتالي.
يضاف إلى ذلك حقيقة أن الجيش الأوكراني اعتمد بشكل أساسي على بعض أنواع الصواريخ شرقية المنشأ المضادة للطائرات، مثل النسخة البولندية الصنع من صواريخ “إيجلا” المضادة للطائرات، التي حققت النتائج الأهم على المستوى الميداني مقارنة بصواريخ “ستينجر” الأمريكية و”ستارستريك” البريطانية، وهو ما يخالف الدعاية الأوكرانية – والأوروبية – حول مدى فعالية المساعدات العسكرية التي تم تقديمها لأوكرانيا.
من الأمور الجدير بالذكر في هذا الإطار، كان انتشار تسجيلات مصورة تم الادعاء أنها من المعارك الأوكرانية، واتضح بعد ذلك أنها مصورة من ألعاب كومبيوتر مثل التسجيلات التي نشرتها وزارة الدفاع الأوكرانية، وظهرت خلالها عملية إسقاط مروحيات روسية، ثم اتضح بعد ذلك أن هذه التسجيلات مأخوذة من لعبة حاسوبية تسمى “أرما-3” تتميز بواقعية شديدة في أحداثها.
فغياب التغطية الصحفية “الموضوعية” للمجريات الميدانية في أوكرانيا فتحت المجال بشكل واسع أمام “عمليات مزيفة” استهدفت اللعب على الوتر الإنساني، مثل انتشار صورة تظهر جثة المدونة الأوكرانية “ناستيا سافشيشين”، واتضح بعد ذلك أنها “مثلت” أنها تعرضت للقتل على يد القوات الروسية من أجل بث التعاطف مع الشعب الأوكراني. كذلك شملت هذا الوضع بعض المناطق التي تعرض فيها المدنيون للقتل، مثل منطقة “غوستوميل”، التي انتشرت صور لفتاة مقتولة وعليها آثار تعذيب فيها وحتى الآن ما زال الخلاف قائمًا حول من قتلها، بين من يرى أن الجيش الروسي هو المتسبب في هذا، وبين من يرى أن وجود شعارات “نازية” على جثتها يرجح أنه تم قتلها على يد المجموعات الأوكرانية المتواجدة في المنطقة.
.
رابط المصدر: