فراس زوين
لعل الذاكرة العراقية الحديثة والمعاصرة لم تشهد في طياتها تاريخ يحمل في ثنياته طوفان الرغبة في التغيير والاندفاع نحو الأمام كما شهده تاريخ 1/10/2019 وما تبعه من أحداث الشارع العراقي مرورا بيوم 25/10/2019 ولغاية هذه الساعة، والتي تمثل الرغبة الوطنية الصادقة للشعب العراقي في حياة حرة وكريمة تحت سقف العدالة والمساواة ومحاربة الفساد.
مما دفع بل واجبر القوى السياسية والحكومة العراقية المستقيلة ان تعمل على تهدئة الشارع بعدد من القرارات الآنية والحلول الفورية التي تتأمل أن تؤتي ثمارها بشكل سريع، من خلال إصدار العديد من القرارات السياسية والاقتصادية، في محاولة منها لتهيئة فرص عمل للعاطلين من الشباب وبشكل سريع وفعال، تأمل من خلالها ضمان سكب بعض الماء البارد على الغليان الجماهيري.
ومن هذه القرارات القانون رقم 26 لسنة 2019 والذي يمثل (التعديل الأول لقانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014) حيث حمل في طياته العديد من التعديلات، ولكن ما يهم في هذه الورقة هو الإشارة إلى نقطتين رئيسيين أرى إنهما تمثلان جوهر التعديل في القانون:
• تعديل السن القانوني للموظف إلى 60 سنة واعتباره السن القانوني للإحالة على التقاعد (مع ورود بعض الاستثناءات).
• يستحق المحال إلى التقاعد الراتب التقاعدي إذا كانت لديه خدمة 15 سنة ولا يصرف له الراتب إذا أكمل 45 سنة من عمره.
ان هذا التعديل يبدوا للوهلة الاولى انه سيعمل توفير العمل للعديد من الشباب العاطلين من خلال إزاحة الفئات العمرية الكبير نسبياً، والتي يفترض هذا القانون أنها قد أخذت دورها في التعيين الحكومي، ويفسح المجال لتعيين الآلاف من الشباب من أصحاب الشهادات والكفاءات العلمية.
ان هذا التعديل ربما فاته إن معظم الموظفين الذي سيحلهم إلى التقاعد هم ضمن حدود سن العمل والذي ينحصر بين (16-63) عاماً، ولا يزال معظمهم قادرون على العمل، فلم يبق طريق أمامهم سوى النزول إلى سوق العمل الحر، الذي يعاني أصلا من توقف هو أشبه بالموت، ومزاحمة العامل البسيط وأصحاب الحرف وسائقين التكسيات وغيرهم ممن لا راتب لهم ولا تقاعد، ومشاركتهم رغيف عيشهم الشحيح.
فالحكومة بذلك القت حملها على السوق الحر، من دون وضع الخطط لتنشيط الواقع الاقتصادي العراقي، وانتشاله من ركوده الذي طال زمانه وأوانه، والذي سحق تحت أقدام البضائع المستوردة، وبشكل يجعل العامل والمواطن العراقي البسيط هو من يتحمل فشل السياسات الحكومية في توفير فرص العمل.
ومما تقدم يبرز سؤال يلح في طلب الإجابة، هل يكفي تعديل قانون التقاعد مع حركة الملاك الطبيعية لحل مشكلة نصف الشباب العاطلين؟ بل هل تكفي لربعهم؟ بل هل تكفي لأقل من ذلك بكثير؟ وإذا وفر هذا القانون العمل للشباب المتظاهر الان فماذا عن الأيدي الداخلة للعمل في العام القادم والأعوام التي تليها؟؟
مع مراعاة انه يدخل سنوياً الى سوق العمل قرابة 350 ألف يد عاملة وقادرة على الإنتاج، وان نسبة البطالة في البلاد قد تصل أو تتجاوز 35% وان نسبة المواطنين الذين هم دون مستوى الفقر قد تصل إلى أكثر من 39% بحسب العديد من التقارير، بل إن الأمر قد يقودنا إلى سؤال أخر، وهو ماذا عن بقية الشباب الذين لا يملكون أي محصل دراسي، ولم تتح لهم الفرصة للتعلم أو لاكتساب شهادة جامعية أو إعدادية أو متوسطة أو اقل من ذلك، وهل هناك وزارة أو دائرة يمكن أن تستوعب جيوش العاطلين ممن لا يملكون شهادة دراسية مع العلم أن ما لا يقل عن 70% من المتظاهرين هم من هذا النوع.
قد يكون من الواضح إن الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 ولغاية الان انحصرت حلولها واجراءاتها لتوفير فرص العمل في التعيين الحكومي فقط لا غير، ولا اعتقد إن قائمة الحلول الحكومية تحتوي غير هذه الطريقة العقيمة، بل انها اهملت باقي الخيارات التي قد تكون أكثر تأثير وأكثر واقعية في معالجة حالات البطالة.
ولعل إن ما يثير الدهشة هو إن صفحات الفيسبوك لعامة الناس قد أدركت أهمية باقي القطاعات الإنتاجية وتمكنها من توفير فرص العمل لأبنائهم من خلال دعواها لدعم المنتج الوطني، وإعادة فتح كل خطوط الإنتاج المتوقفة منذ سنوات وفتح المصانع المغلقة، وإحياء الزراعة التي تضمن آلاف فرص العمل لكل الشباب بكل فئاتهم وطبقاتهم العلمية، في حين إن الرؤية الحكومية لحل مشاكل العمل لا تزال اسيرة ومحسورة بالتعيين فقط، والذي يمثل النهج الريعي الذي ابتلي به العراق والعراقيين.
إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد اليوم يدفع ثمن الفساد المالي والإداري والسياسي السابق، وتقاعس حكومات ما بعد 2003 في أداء دورها في توفير فرص العمل، والاتكال على التعيينات بالوظائف الحكومية والذي يضمن لهم على اقل تقدير كسب الولاء والأصوات الانتخابية في كثير من الأحيان، مع إهمال باقي الخيارات بحيث وصل الأمر في نهاية المطاف إلى حدوث تخمة في جهاز الدولة الوظيفي والاداري واستفحال البطالة المقنعة في كل وزاراتها ودوائرها الرسمية، وان الاستمرار بهذا النهج وحصر توفير العمل بسياسة التعيين يعني الموت جوعاً لشبابنا الذين تعجز الحكومة على استيعابهم في دوائرها بسبب أعدادهم المليونية، ويعني المزيد من الغرق في مستنقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
ان طريق الإصلاح الاقتصادي الحقيقي طويل وشائك، والبلاد تترقب وتتأمل ولادة حكومة عراقية جديدة، ترجو ان تكون من رحم الوطن والوطنية بعيدة عن التأثيرات الاقليمية والخارجية، تذلل لنا الصعاب لبناء اقتصاد متين وقوي وقادر على اعادة بناء الوطن والمواطن بعد ان حطمته سنوات الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن الحلول الترقيعية والانية، وتعمل على وضع خطط حقيقية لحل مشكلة البطالة وخلق فرص العمل بعيدة عن سياسة التعيين.
بل تنطلق من إنعاش السوق العراقية وتبدأ من غلق الأبواب امام الاستيراد العشوائي والفوضوي، والحد منه من خلال فرض رسوم جمركية عالية امام كل ما يمكن ان يتم انتاجه محليا وبيد أبنائنا، واقتصار الاستيراد على المواد الخام والمواد الأولية او النصف مصنعة على اقل تقدير، والتي لا يمكن انتاجها محلياً، مع التفعيل الحقيقي والفعال لجهاز التقييس والسيطرة النوعية لمراقبة السلع الداخلة للبلاد، وهذا بحد ذاته يضمن الدعم الكبير للمنتج المحلي ويعتبر بداية الحل والخطوة الأولى نحو إعادة احياء القطاعات الإنتاجية والصناعية والزراعية والتحويلية.
رابط المصدر: