د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
تقوم فكرة اللامركزية الإدارية بالأساس على الاعتراف بوجود مصالح أو منافع محلية متميزة عن المصالح أو المنافع الوطنية أو القومية، ومن المؤكد أن إشباعها لا يتحقق بشكله الأوفى ما لم تترك لأبناء المنطقة الفرصة للتصدي لإدارة أشخاص معنوية محلية تتصف بالاستقلال المالي والإداري عن السلطة المركزية ويسند إليهم تحقيق ما تقدم، فالحديث عن إدارة محلية أو حكم محلي لا يتحقق ما لم تكن اللامركزية تامة وهي لا تكون كذلك ما لم يتوافر عنصران هما:
– المصالح، بالتعامل مع المصالح المحلية بمعزل عن نظيرتها الوطنية.
– لامركزية من يدير الإدارات المحلية ليحقق المصالح المحلية ويسهر على إنفاذها.
فالديمقراطية المحلية هي بالواقع تفويض الاختصاصات المركزية إلى الجهات المحلية لتتسع دائرة من يقوم بالعمل الإداري وترك الأعمال المتعلقة بإقليم أرضي معين للقاطنين فيه ليديروا شؤونهم بأنفسهم ويختاروا من يقوم بالإدارة نيابة عنهم بأسلوب الانتخاب المباشر، على أن تترتب نتيجة ما تقدم مسؤولية هؤلاء الممثلين أمام الشعب أولاً أن أخفقوا في القيام بأعمالهم وأمام الجهات الرقابية ثانياً وعلى رأسها القضاء أن ثبت تقصيرهم أو خيانتهم للأمانة التي أوكلت إليهم.
فلا تتحقق الديمقراطية المحلية ما لم يكن اختيار من يمارسون العمل نيابة عن الشعب بالانتخاب أي يختص الشعب باصطفاء القيادات المحلية، على مستوى المحافظة والقضاء والناحية والقرية، وبالرجوع للدستور العراقي للعام 2005 نجد إن المادة (122) منه تتطرق للمحافظة وتصف تكوينها بأنه يجمع بين (الأقضية والنواحي والقرى)، بيد أن قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 صدر أعرجا منذ البداية فقد أسس لمجالس عدة، أولها مجلس المحافظة ثم مجالس محلية تتمثل بـ(مجلس القضاء ومجلس الناحية) لينقلب المشرع على الديمقراطية المحلية في التعديل الثالث لقانون المحافظات رقم (10) لسنة 2018 حين ألغى مجلس الناحية.
والغريب أن المحكمة الاتحادية العليا التي أوكل إليها الدستور حماية النظام الديمقراطي في البلاد حين تصدت للطعن بدستورية إلغاء مجالس النواحي سايرت الانقلاب السياسي على المبدأ الديمقراطي في حكمها بالدعوى المرقمة (67/2018) فهل كانت المادة (122) من الدستور لغواً حينما عددت مكونات المحافظة وإنها تتكون من عدد من الأقضية والنواحي والقرى، ولو كان قصد المشرع الدستوري أن يحصر التمثيل الديمقراطي بمجلسي المحافظة والقضاء لكان يحدد مكونات المحافظة بعدد من الأقضية ويسكت، وان سايرنا المحكمة الاتحادية بان الدستور ذكر مجلس المحافظة فلماذا إذن لم يلغ مجلس القضاء أيضاً؟
بما أنه لم يذكر بالدستور، وهل كل ما لم يذكر بالدستور باطل؟ وهل على الدستور أن يذكر ويعدد كل شيء؟ إذن فما هو عمل المشرع العادي؟ لهذا نرى أن النص الدستوري حين أردف بذكر الناحية والقرية وأنهما من المكونات الأساسية للمحافظة، وجب أن يكون هنالك تمثيل للشعب القاطن في الناحية وتمثيل لشعب القرية، وان سكان القرية والناحية ينتخبون من يمثلهم، لا أن يعين بصورة خارجة عن إرادتهم وهذا ما أشارت إليه المادة (8) من قانون المحافظات حين منحت مجلس القضاء سلطة انتخاب مدير الناحية رغما عن إرادة سكانها، فمجلس القضاء نعم يمثل الناحية باعتبارها أحد مكوناته بيد ان وجود مجلس محلي على مستوى الناحية سيكون انتخابه لمديرها أكثر اتفاقاً مع الديمقراطية، وقانون المختارين رقم (13) لسنة 2011 الذي جعل المختار معيناً من قبل الإدارة المحلية لا منتخباً من الشعب في حدود القرية أو المحلة هو يصادر الإرادة الشعبية أيضاً.
لهذا ومن باب الأنصاف نطالب مجلس النواب العراقي بإعادة النظر بما تقدم فمجالس النواحي ليست عقبة كما يتصور البعض أو أنها تستنفذ الأموال بالرواتب والمخصصات كما يظن البعض الأخر، أو أنها أحد أوجه الفساد الإداري والمالي، فالمشكلة ليست بالفكرة بل بالتطبيق فكان الأولى إصلاح هذه المجالس بزيادة أعمالها واختصاصاتها ومسؤولياتها وتقليل من رواتب ومخصصات أعضائها ليزهد بها السياسيون والفاسدون، ويقبل عليها المواطنين الحريصين على مصلحة الشعب والوطن، كما ولابد من التأسيس لمجالس القرى والأحياء لتتولى إضافة إلى المختار شؤون توفير الخدمات العامة على مستوى القرية أو الحي السكني.
ويكمل ما تقدم ضرورة الاعتراف للأشخاص المحلية بالاستقلال المالي والإداري عن الجهات المركزية، وإمكانية الإدارة المحلية للموارد المتحصلة محلياً، لتسخيرها باتجاه إشباع الحاجات العامة للسكان، فالدساتير العراقية السابقة وصولاً إلى قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية كان جل اهتمامها التركيز على وحدة الوطن، في الوقت الذي أقيمت هذه اللوائح الدستورية في ظل حركات تحررية كما تدعي تنشد مصلحة الشعب، بيد إنها استثمرت بعض الظروف المحلية ومنها المشكلة الكردية في شمال العراق لتركز السلطة بيد الحكومة المركزية في العاصمة وإقامة نظام لا مركزي أجوف يرتكز على تقسيم البلاد إلى محافظات وأقضية ونواحي بعد أن أفرغ هذا التنظيم من أي مظهر من مظاهر الديمقراطية والاعتداد بالإرادة الشعبية، بل تم التلاعب بالتبعية الإدارية لبعض الأقضية والقصبات وألحقت بقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ببعض المحافظات لغايات ديموغرافية، ما سبب معضلة إلى اليوم نشهد تجلياتها فيما بات يعرف بالمناطق المتنازع عليها التي تضمنتها المادة (140) من دستور العراق 2005.
وحل هذه المعضلة بترسيخ الديمقراطية المحلية على مستوى الأقضية والنواحي والقرى وبعدها لن نجد من يطالب بالانفكاك من المحافظة (س) ليلتحق بالمحافظة (ص) كون كل ما ينشده الشعب متوافر محلياً وليس على مستوى المحافظة ككل، وهو بالنتيجة سيسمح بإذابة المشكلة المذهبية والقومية شيئاً فشيئاً ليعود الوئام والتعايش السلمي إلى سابق عهده.
والسؤال في هذا المورد لو صدقت النية وتم التفكير سياسياً على الأقل بالإصلاح والذي يعد مطلباً شعبياً لا مناص منه فما المطلوب عراقياً لإصلاح الديمقراطية المحلية؟
وللجواب نعتقد وجوب إتباع الآتي:
1- منح المحافظات اختصاصات إدارية ومالية حقيقية لتتمكن من تدبير شؤونها المحلية وفق مبدأ اللامركزية الإدارية.
2- إصلاح النظام الانتخابي المحلي من خلال:
– تقسيم المحافظة إلى عدة دوائر صغيرة تنتخب ممثلين عنها بحسب عدد سكانها بما يحقق التمثيل المتوازن للجميع.
– اعتماد نظام الانتخاب الترشيح الفردي والقائم على أساس التنافس الحر. وفق البرامج المعدة لهذا الغرض.
– اعتماد مبدأ الرقابة الشعبية على أعضاء المجالس المحلية ومنح القدرة للمواطنين على مساءلة أعضاء المجالس وإعادة منحهم الثقة بشكل دوري.
3- إحياء مجالس النواحي واستحداث مجالس القرى والمحلات أو الأحياء.
4- توسيع اختصاصات المجالس المحلية وربط الدوائر التابعة للوزارات بها بشكل مباشر إدارياً لمنع التعارض بالاختصاصات أو التنازع في الأعمال وحسم ملكية الأراضي والمشاريع، مع إمكانية بقاء ارتباطها بالوزارات الاتحادية فنياً.
5- الانتقال نحو الديمقراطية التشاركية عبر منح ممثلي الشعب في المجالس المحلية والبرلمانية القدرة على العمل المشترك بما يحقق أمال الجماهير ويحد من انحراف الجهات التنفيذية بالسلطة ومحاولة إفراغ النظام اللامركزي من محتواه الحقيقي.
6- وضع الآليات القانونية المناسبة لإدارة الاختصاصات المشتركة مع السلطة الاتحادية بما يمكن الهيئات المحلية من الاشتراك الحقيقي في إدارة السلطات الاتحادية ويضمن عدالة توزيع الواردات الاتحادية من جهة، ويمنع من التعارض في رسم السياسات العامة أو النهوض بالواقع الزراعي أو الصناعي أو المالي للوحدة المحلية.
7- تفعيل الأجهزة الرقابية التي أستحدثها الدستور وبالأخص هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية الاتحادي لضمان الشفافية والنزاهة والمهنية في عمل الأجهزة المحلية.
يذكر إن المشرع العراقي ومنذ التعديل الثاني لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 بالقانون رقم (19) لسنة 2013 اتبع مبدأ نقل الدوائر الفرعية والتخصيصات المالية والاختصاصات التي تمارسها (8) من الوزارات وهي وزارة التربية، والصحة، والبلديات والأشغال العامة، والعمار والإسكان، والعمل والشؤون الاجتماعية، والمالية، والزراعة، والشباب والرياضة، وربطها بالمحافظات وبالفعل بدأت خطوات النقل تتلو بعضها بعضاً بيد إن المشرع عاد في التعديل الثالث لقانون المحافظات بالقانون رقم (10) لسنة 2018 القهقرى ليعيد ارتباط دوائر الصحة والتربية بالوزارات المركزية وما تقدم من منهج تشريعي كان يتفق مع مبدأ الديمقراطية المحلية ومع توسع اختصاصات الهيئات المحلية لتكون مسؤولة عن تقديم خدمات حقيقية للمواطنين وفي حال الإخفاق تكون مسؤولة أمام جمهور الناخبين.
بيد إن مشاكل فنية وأخرى سياسية حالت دون نجاح تجربة نقل الصلاحيات والدوائر والتخصيصات المالية في مقدمها قوانين الموازنة والإدارة المالية المتخلفة في العراق، ونقل الصلاحيات كان شكلياً لتركيزه على أشياء شكلية كترفيع الموظفين التابعين للوزارات التي نقلت اختصاصاتها وتعيينهم، وكان الأولى بالمشرع أن يصنع نوع من التنافس الإيجابي بين المحافظات بنقل سلطة شراء الأدوية والأجهزة الطبية، والمستلزمات الدراسية، والبلدية، على سبيل المثال من شركات الوزارات المركزية التي نخرها الفساد إلى المحافظات ما يجعل المحافظات تتسابق في مجال تقديم أفضل الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية للمواطنين.
أضف لذلك ضرورة إزالة جمع العقبات التي تعترض إنجاز المشاريع الصحية والتعليمية الريادية المتمثلة بإكمال بناء المستشفيات وتأهيل الموجود منها بما يتفق مع الواقع الجديد المتمثل بالزيادة المطردة في التهديدات الصحية، وكذا الأمر في إكمال الأبنية المدرسية بما يضمن إنجاز البنى التحتية اللازمة لتحقيق النهضة التعليمية في البلاد.
ومن المفيد أن نشير إلى إن من متممات الديمقراطية المحلية ان تبنى العلاقة مع المركز على أساس التكامل والتعاون والتشاور وليس على أساس التنافس السياسي والحزبي والتناحر والتضاد بما يخلق بيئة غير مستقرة لا تساعد على الإعمار وتحقيق التنمية بل تخلف التراجع على جميع المستويات والمشكلة المتقدمة سادت المشهد العراقي طوال الخمسة عشر سنة الماضية منذ إقرار دستور 2005 ولغاية الآن ما يحتم إيجاد بدائل عن الواقع غير المستقر والتركيز على أهمية التنسيق المشترك بين الجهتين بما يحقق مصلحة المواطن والمحافظة ككل.
كما إن من الملاحظ إن بعض المحافظات العراقية تتحمل عبء كبير أكثر من غيرها بما ينعكس على حياة مواطنيها سلباً فلو أخذنا على سبيل المثال المحافظات المنتجة للنفط فإنها تدفع فاتورة كبيرة من صحة مواطنيها وتلوث كبير جداً لبيئتها المائية والأرضية والهوائية، ما يتطلب ان نقف عند هذا المعنى بالشكل التالي:
أولاً: إتباع مبدأ المعاوضة لاستكمال الديمقراطية المحلية: أي بإقرار تعويض مناسب وعادل للمحافظات والأقضية التي تتحمل عبء إضافي بسبب أعمال التنقيب أو الاستغلال للثروات الطبيعية لضمان تمتع هؤلاء أولاً بالخيرات الطبيعية التي تستخرج من إقليمهم الأراضي، وضمان عدم تعرضهم إلى مخاطر باستثمار جزء من هذه العائدات للتقليل من المخاطر المحدقة بهم وبالبيئة التي يعيشون بها على شاكلة توفير محطات لمعالجة المخلفات الصناعية أو لتحلية المياه أو لتوفير مرشحات هوائية تقلل من العوالق الصناعية التي تلوث الهواء وهذه المبدأ مشتق من قاعدة شرعية وقانونية وهي الغنم بالغرم.
ثانياً: العدالة في توزيع العائدات الاتحادية بما يتفق مع عدد السكان ودرجة المحرومية التي تعاني منها بعض الوحدات الإدارية نتيجة الإهمال المتراكم للخدمات الأساسية التي لابد من توافرها لضمان الحياة الحرة الكريمة، ولمنع ظواهر الهجرة نحو المدن المقدسة أو مراكز المدن من الأرياف والمناطق المحيطة.
ثالثاً: إعادة النظر بالقوانين المنظمة للضرائب والرسوم والأجور بما يمكن الوحدات المحلية من الحصول على الأموال الكافية بشكل عادل ومنصف فمن أهم المشاكل التي واجهت العراق بعد العام 2005 حصيلة الضرائب والرسوم ولاسيما الكمركية منها فقد تعنت إقليم كردستان في مسألة تسليمها إلى الحكومة المركزية بينما كانت دوائر الدولة في المحافظات سخية جداً بتحويل حصيلة الأموال التي تقدر بالمليارات سنويا إلى الخزانة العامة ما يشكل وبحق إجحاف بحق مواطني المحافظات الأخرى التي تمتلك موارد كبيرة من المنافذ الحدودية وكذلك تفرض بحق المواطنين فيها ضرائب ورسوم كبيرة وفق قانون الكمارك رقم (23) لسنة 1984 وقانون التعريفة الكمركية رقم (22) لسنة 2010، وقوانين ضريبة الدخل والعقار وغيرها كثير، فمن المفترض ان تنعكس حصيلة ما تقدم على ذات المحافظة في صورة تحسين الخدمات والنهوض بالمرافق الأخرى لا ان تكون ثقل ينهك الناس وحصيلته توزع على كل العراق ليحصل الإقليم على حصة منها كونه يستحصل نسبة من موازنة البلاد ككل.
رابعاً: إصلاح القوانين الاستثمارية التي من أنها ان تنهض بالقطاعات الإستراتيجية في المحافظة وتقلل الاعتماد على الوزارات الاتحادية ما يقلل من نسب الفساد وتستثمر الأموال العامة في المشاريع الأخرى التي لا تشكل مصدر جذب للمستثمرين بيد إنها ضرورية لحياة الناس، ومن نافلة القول ان تشجيع القطاع الخاص والمبادرات الخاصة من شأنه ان يجعل الناس أكثر استغناءً عن الوظائف الحكومية ما يشكل وبحق دافع لنضج الحياة الديمقراطية في المجتمع إذ سيحسن الأفراد الاختيار على أساس الكفاءة والصدق والأمانة ولن تؤثر فيهم الوعود الكاذبة والمساومات والرشاوى السياسية.
رابط المصدر: