أوليفيا وايت، جوناثان ووتزل، جان ميشكي
سان فرانسيسكو ــ في العقود الأخيرة، سجلت ثروة العالَـم ارتفاعا شديدا ــ على الورق على الأقل ــ حيث دَفَعَـت أسعار الفائدة المنخفضة أسعار الأصول إلى الارتفاع. لكن الموازنة العمومية العالمية لا تزال عامرة بأسباب الهشاشة، والتي كشفت عنها الاضطرابات الأخيرة في القطاع المالي. الآن، توشك الكيفية التي يقترض بها العالَـم ويُـقرِض ويخلق الثروة أن تتغير جذريا.
خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2021، خَـلَـقَ تضخم أسعار الأصول ثروة ورقية تقدر بنحو 160 تريليون دولار أميركي. ولكن على الرغم من نمو تقديرات الأصول بسرعة كبيرة، فقد ظل الاستثمار والنمو متباطئين. علاوة على ذلك، عمل كل دولار مستثمر على توليد نحو 1.9 دولارا من الديون. لكن في الآونة الأخيرة، واجه الاقتصاد العالمي رياحا معاكسة: في عام 2022، خسرت الأسر 8 تريليونات دولار من ثروتها.
يتمثل الأمر الوحيد المؤكد الآن في درجة مرتفعة إلى حد غير عادي من انعدام اليقين. قد يبدو المشهد الاقتصادي، والمصرفي، والاستثماري في السنوات العشر المقبلة مختلفا على المستوى المادي مقارنة بما كان عليه في السنوات العشرين الأخيرة. لكن نطاق المسارات الممكنة إلى الأمام عريض. عمل معهد ماكينزي العالمي، كجزء من بحثه المستمر في استكشاف الموازنة العمومية العالمية، على تصميم أربعة سيناريوهات معقولة.
يتمثل السيناريو الأول في “العودة إلى الماضي”، حيث تكون التقلبات الحالية مؤقتة ويُـسـتأنَف التوسع في الموازنة العمومية. قد يبدو هذا جذابا في نظر بعض الناس، لكن الموازنة العمومية المتزايدة التوسع ستستمر في زيادة خطر الصدمات الاقتصادية. كما أن هذا سيأتي على حساب نمو الاقتصاد الحقيقي، وسوف يؤدي إلى اتساع فجوات التفاوت بين الناس.
في السيناريو الثاني، “أعلى لفترة أطول”، تصبح الضغوط التضخمية راسخة، لكن المخاوف بشأن الاستقرار المالي تعمل على تهدئة عملية إحكام السياسات. ويظل الطلب قويا، مع انتعاش الاستثمار لدعم الضروريات مثل التحول إلى الطاقة النظيفة، وإعادة تشكيل سلاسل التوريد، والدفاع. وسوف تتضاءل وفرة المدخرات.
هذا السيناريو يناظر الركود التضخمي الذي شهدته الولايات المتحدة في سبعينيات القرن العشرين، وإن كان التضخم آنذاك أقل بعض الشيء ــ نحو 4% وليس 9%. في عام 2030، ستبدو الموازنة العمومية أكثر صحة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بحالها اليوم، لأن التضخم سيخفض عبء الدين وأسعار الأصول بالقيمة الحقيقية.
السيناريو الثالث، “إعادة ضبط الموازنة”، يمثل أسوأ الاحتمالات. هنا، تستمر أسعار الفائدة في الارتفاع، مما يساهم في إجهاد النظام المالي أو حتى إخفاقه. وهذا من شأنه أن يُـفـضي إلى تصحيح حاد لقيم الأصول، حيث تنتهي الحال بعدد كبير من الأصول الممولة بالدين إلى انخفاض قيمتها الحقيقية عن أقساط وفوائد الدين المستحقة عليها. وقد يتبع ذلك عملية مطولة من تقليص المديونية وركود طويل، مع احتمال انخفاض قيمة الأسهم والعقارات الأميركية بأكثر من 30% بالقيمة الحقيقية من الآن وحتى عام 2030. يذكرنا هذا السيناريو بما حدث في اليابان في تسعينيات القرن العشرين، بعد انفجار فقاعة العقارات والأسهم هناك.
لكن السيناريو الرابع الأكثر جاذبية، المتمثل في “تسارع الإنتاجية”، معقول أيضا. هذا هو السيناريو المعتدل المفيد للنمو والثروة، حيث تعمل مكاسب الإنتاجية الأسرع على دعم نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتعزيز الدخول والثروة، وتُـفضي إلى موازنة عمومية أوفر صحة. يتطلب تحقيق هذا السيناريو الأفضل أن يعمل صناع السياسات المالية والنقدية على إيجاد توازن دقيق: يستلزم الأمر بعض الإحكام لتخفيف التضخم، لكن الإفراط في إحكام السياسات من شأنه أن يستنفد الثروة ويتسبب في الإجهاد المالي.
سيكون الفارق بين أفضل وأسوأ السيناريوهات ــ من حيث النمو وصحة الموازنة العمومية ــ هائلا. في الولايات المتحدة، سيكون متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي في سيناريو إعادة ضبط الموازنة العمومية أقل بنحو 1.7 نقطة مئوية مقارنة بسيناريو تسارع الإنتاجية. وسوف تكون ثروة الأسر أقل بمقدار 48 تريليون دولار.
في ظل هذه المجموعة المتنوعة من الأشكال المحتملة للمشهد الاقتصادي والمصرفي والاستثماري في المستقبل، ستواجه الشركات صعوبة غير عادية في تحديد استراتيجياتها. ولن يظل التجاوب مع التحولات في البيئة الكلية كافيا. سوف يكون لزاما على الشركات التخطيط لمجموعة واسعة بالقدر الكافي من النتائج، وتحديد العلامات التي قد تساعد في الإشارة إلى السيناريو الذي يتشكل، وترسيخ أساليب إدارة المخاطر ــ وكل هذا مع تعديل نماذج أعمالها والبحث عن فرص نمو جديدة.
بعبارة أخرى، يجب أن تتأكد الشركات من أنها مستعدة لأي شيء. ولكن ينبغي لها أيضا أن تسعى جاهدة لتحقيق أفضل النتائج: نمو إنتاجية أعلى. ورغم أن القيام بالأمرين في ذات الوقت لن يكون سهلا، فإنه حتمي. إذا تحركت الشركات بشكل دفاعي فقط، استنادا إلى توقع نتيجة سلبية، فقد يصبح مناخ الاستثمار معاديا.
الواقع أن توقعات تباطؤ النمو أو الركود قد تتحول إلى نبوءة تتحقق من تلقاء ذاتها. فبدلا من القيام باستثمارات قادرة على المساهمة في تحقيق نتائج اقتصادية أفضل، قد تقرر الشركات الانتظار. وقد يُـفضي توقع انخفاض الأسعار من جانب مطوري العقارات إلى تأخير المشاريع الجديدة. وقد تلجأ البنوك التي تركز على تعزيز قوة موازناتها العمومية إلى رفع معايير الإقراض، مما يقلل من المعروض من الائتمان.
لتجنب هذه الدوامة، قد يسوق قادة القطاعين العام والخاص الحجج لصالح سيناريو تسارع الإنتاجية، فيبتكرون السياسات والاستراتيجيات الكفيلة بدعم هذا السيناريو. إن هدف زيادة نمو الإنتاجية قابل للتحقق، لكنه لن يتحقق من تلقاء ذاته.
* أوليفيا وايت، الشريك الرئيسي في مكتب سان فرانسيسكو بشركة ماكينزي وشركاه، هي مديرة معهد ماكينزي العالمي.
جوناثان ووتزل، شريك رئيسي في ماكنزي، هو قائد مبادرة ماكينزي الخاصة بالمدن ومدير معهد ماكينزي العالمي.
جان ميشكي، شريك في معهد ماكينزي العالمي.
https://www.project-syndicate.org/
.
رابط المصدر: